تحديد معنى الدفاع

جدول المحتويات
نقصد بالدفاع هنا ما يتوقف عليه دفع العدوان.
وأما ما لا يتوقف عليه دفع العدوان؛ كالعنف والضرب والرمي الذي لا يتوقف عليه دفع العدوان، إذا أمكن دفع العدوان بأخف منه، فلا يجوز وإن أمكن الدفاع به. وعليه؛ فإنما يجوز الدفاع (أو يجب على اختلاف الآراء والموضوعات) بقدر ما يتوقف عليه الدفاع، فلو كان الدفاع يتطلب العنف والضرب ويتوقف عليه، جاز. أما إذا كان الدفاع يتحقق بأخف منه؛ كالنهر[1] والزجر والتخويف، فلا يجوز استخدام العنف وإن كان ذلك يدفع المعتدي عن العدوان.
وهذا هو الذي يذكره الفقهاء بعنوان المناسبة بين (العدوان) و(الدفاع)، ولا يقصدون بذلك أن يكون الدفاع من حيث الشدة والضعف بمستوى العدوان، وإنما يقصدون بذلك أن يكون الدفاع بأخف ما يدفع به العدوان، ولا يستخدم المُدافع العنف إذا كان يحصل الدفع بأقل منه، فلو أمكن دفع العدوان بالزجر والنهر أو برفع العصا عليه أو ضربه بالعصا، فلا يجوز إشهار السيف عليه وضربه بالسيف، أو إشهار الأسلحة النارية عليه ورميه بها، فإن المقدار الواجب والجائز من الدفاع، ما لا يمكن الدفاع بأقل منه، وذلك لأنّ الدفاع لم يشرع للانتقام والعقوبة؛ وإنما شرع لدفع العدوان، فلو استخدم السيف والأسلحة النارية في هذه الحالة، لم يُعف من الضمان والدية.
ومن مصاديق هذه المسألة: لو أن معتديا أطلق كلبه على شخص ليجرحه، وأمكن للمُعتدَى عليه دفع العدوان عن نفسه بضرب الكلب ورميه، فلا يجوز ضرب صاحب الكلب ورميه.
وإذا أمكنه الخلاص من السجن بكسر الباب، فلا يجوز له ضرب السجّان وقتله.
وهكذا… لابد في كل دفاع من استخدام الدفاع بمقدار ما يكون (لازماً) لدفع العدوان، ولا يجوز أكثر من ذلك، وإن صح معاقبة المعتدي على عدوانه، من قبل الحاكم، بأكثر مما يستحقه على عدوانه، إلا أن ذلك باب آخر غير باب الدفاع.
وهذا هو شرط اللزوم في الدفاع، ويعبّر عنه الفقهاء أحياناً بـ (التناسب بين العدوان والدفاع).
وعليه؛ فإن شرط (اللزوم) و(التناسب) كما ذكرنا شرط واحد وبمعنى واحد، وإن اختلف التعبير عنهما.
شرط اللزوم والتناسب
وقد ساق صديقنا المرحوم العالم الفاضل الرباني الدكتور السيد داود العطار (رحمه الله) في كتابه القيم (الدفاع الشرعي في الشريعة الإسلامية): (اللزوم) و(التناسب) بعنوان شرطين للدفاع، ولا أعرف وجهاً لذلك فمآلهما إلى أمر واحد، وهو ما يتوقف عليه ردّ العدوان من الدفاع، فما لا يلزم من الدفاع لردّ العدوان، وما لا يتناسب مع العدوان أمر واحد بالمآل، فإذا أمكن رد الطفل الذي يريد أن يسرق مالاً بالصياح والزجر أو رفع العصا عليه، لا يلزم في مثل هذا المورد استخدام السيف، ولا يتناسب السيف مع طبيعة العدوان.
الهروب
وأما الهروب من العدوان – إذا أمكن التخلص من العدوان به – فقد جعله الإمام الخميني (ق) في تحرير الوسيلة هو الأحوط دون اللجوء إلى استخدام القوة؛ يقول (رحمه الله):
(لو أمكن التخلص عن القتال بالهرب ونحوه، فالأحوط التخلص به، فلو هجم على حريمه، وأمكن التخلص بوجه غير القتال، فالأحوط ذلك)[2].
(ولو تمكن من الهرب، فالظاهر عدم جواز الإضرار بها[3] فلو أضر ضمن)[4].
ومن قبلِه؛ قال فقهاء الإمامية: (إِنّْ المدافع عن نفسه وماله وفرجه، إن أمكن التخلص بالهرب وجب؛ لأنه أسهل طريق إلى الدفع)[5].
وبه قالت المالكية أيضاً. يقول الدردير في الشرح الكبير:
(ولو قدر المصول عليه على الهروب من غير مضرة تلحقه، تعيّن ولم يجز له الدفع بالجرح)[6].
وبه قالت الزيدية:
يقول أحمد بن يحيى في البحر الزخار: (وَلَا يَدْفَعُ بِالْقَتْلِ حَيْثُ يُمْكِنُهُ الْهَرَبُ؛ إذْ هُوَ أَخَفُّ)[7].
المناقشة
ولا يسلم هذا الرأي من المناقشة، فَإنّ الهروب قسيم للدفاع، وليس قسماً من الدفاع وأخفّ أقسامه، فإنّ الدفاع لغة وعرفاً واصطلاحاً بمعنى الدفع، وهو ما نصطلح عليه اليوم بـ (المقاومة). أما الهروب، فهو عنوان آخر بديل له، وبمعنى التخلص من العدو من دون دفاع، وهو لا شك بديل مشروع للدفاع، ولا إشكال في مشروعيته؛ حتى مع إمكان المقاومة والدفاع، ولكنه لا يلغي مشروعية المقاومة والدفاع، فلو لم يهرب المقصود بالعدوان من المعتدي وثبت، ودافع عن نفسه، وأضرّ بالمعتدي أو قتله، إن كان الدفع يتوقف عليه، فلا يترتب عليه ضمان ولا دية وإن كان الهروب ممكناً له.
نعم؛ إذا كان يتمكن من الهروب وكان يعلم، أو يغلب على ظنه أن الثبات والدفاع يضرّه في نفسه وأمواله ضرراً بليغاً، أو يخاف على نفسه القتل، وعلى أمواله السلب والنهب، يتجه عندئذ القول بوجوب الهروب عوضاً عن الدفاع.
- [1]. يُقال: نَهَرَ الرجلَ أي زَجَرَه. (لسان العرب، مادة: نهر) (من المحقق)
- [2]. روح الله الموسوي الخميني، تحرير الوسيلة، المسألة 11، ج1، ص518.
- [3]. المقصود (الدابة)؛ حيث جاء في المسألة 11: (للإنسان دفع الدابّة الصائلة عن نفسه وعن غيره وعن ماله، فلو تعيّبت أو تلفت مع توقّف الدفع عليه، فلا ضمان، ولو تمكّن من الهرب، فالظاهر عدم جواز الإضرار بها، فلو أضرّ ضمن). (من المحق)
- [4]. المصدر نفسه، المسألة 41، ص523.
- [5]. حسن بن يوسف الحلي، تذكرة الفقهاء، ج9، ص435.
- [6]. أحمد الدردير، الشرح الكبير، ج4، ص357. نصّ العبارة: ((لَا) يَجُوزُ لِلْمَصُولِ عَلَيْهِ (جُرْحٌ) لِلصَّائِلِ؛ فَضْلًا عَنْ قَتْلِهِ (إنْ قَدَرَ عَلَى الْهَرَبِ مِنْهُ)؛ أَيْ مِنْ الصَّائِلِ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ (بِلَا مَشَقَّةٍ)). (من المحقق)
- [7]. أحمد بن يحيى، البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، ج10، ص201.