مواضيع

جدلية (الشرعية) و (الواقع السياسي)

هذه الجدلية قديمة في تراثنا الفقهي وتاريخنا السياسي، وسبب ذلك هو حالة التقابل والتخالف القائمة، في أغلب الدول التي قامت باسم الإسلام أو من دون هذا الاسم، بين (الشرعية) و(الواقع السياسي)

إن الصيغة الشرعية للحاكم الإسلامي وللحكومة الإسلامية تختلف اختلافاً كبيرا عن الوضع القائم في الحكومات على أرض الواقع في التاريخ وفي الحاضر.

فكيف يكون التعامل بين (الشرعية) و(الواقع)؟

إن (الشرعية) الإسلامية تلغي هذا الواقع على المستوى النظري، على الأقل، بينما يحكم هذا الواقع اللا شرعي المسلمين غالباً.

فما هو تكليف المسلمين تجاه هذا التقابل، والعلاقة السلبية المتبادلة بين (الشرعية) و(الواقع السياسي)؟

هل هو التمسك بالشرعية، وتبني الصيغة الشرعية في الحاكم والحكومة، ورفض الواقع السياسي المخالف لهذه الصيغة، أو الاستسلام للواقع السياسي المخالف للشرعية، ومحاولة توجيه هذا الواقع وتبريره، إلى حد تعطيل الشرعية؟

هذه المسألة مسألة خطيرة، وليست فرضية فقهية، ولا حالة نادرة، وإنما تحتل مساحة واسعة جدا من حياتنا وتاريخنا، وتأتي في صلب المسائل السياسية ذات الشأن في حياتنا، وليست مسألة تجري على هامش حياتنا الفقهية والسياسية والثقافية.

وقد انشطر الفقهاء في هذه المسألة شطرين: شطر آمن بنظرية معايشة الظالم، والشطر الثاني آمن بنظرية مقاومة الظالم.

وتجري هاتان النظريتان في الفقه السياسي منذ حكومة بني أمية إلى الآن في خطين متوازيين:

1ـ معايشة الظالم

وهي نظرية قديمة منذ أيام بني أمية، منذ حادثة الطفّ ووقعة الحرّة إلى الآن… وهو المذهب الفقهي ذو الطابع الرسمي (الحكومي) في التاريخ الإسلامي.

وبناء على هذه النظرية، يجب طاعة الحكام والانقياد لهم، ويحرم الخروج عليهم، مهما بلغ الأمر منهم في اقتراف المعاصي وارتكاب الجرائم والجهر في انتهاك حرمات الله، ما لم يعلن الحاكم الكفر إعلاناً، وهو لا يتفق إلا نادرا في الحكام الظلمة. وما لم يأمر بالمعصية، فإذا أمر بالمعصية جازت مخالفته في مورد المعصية فقط، وأما إذا أمر بغير المعصية في مسائل الحرب والسلم وغيرهما، مما يأمر به الحكام الناس، فلا تجوز مخالفته، ولا يحل الخروج عليه وإن بلغ ما بلغ من ارتكاب المحرمات والمعاصي والإشهار بانتهاك حرمات الله، ويجب حضور جمعاتهم وجماعاتهم، ودعمهم وإسنادهم ونصرتهم، وعدم إزعاجهم حتى من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللهم إلاّ أن يكون ذلك بشكل رقيق لا يزعجهم.

2ـ مقاومة الظالم

وهي النظرية الفقهية الثانية التي كان يتبنّاها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وبعض المدارس الفقهية من فقه أهل السنة؛ مثل المذهب الحنفي… فقد كان إمام المذهب النعمان أبو حنيفة يدعو إلى زيد بن علي، ويتبنى دعوته وخروجه.

وإلى هذا المذهب ذهب الصحابة والتابعون من أبناء الصحابة، وغيرهم الذين أعلنوا الخروج على يزيد بن معاوية في المدينة.

يرى هؤلاء الفقهاء، حرمة التعاون مع الظالم، وحرمة الركون إليه، ووجوب نهيه عن المنكر وأمره بالمعروف بمراتبه الثلاث، حسب القدرة والإمكان، وسوف يأتي تفصيل هذه المراتب فيما يأتي من هذا البحث إن شاء الله، ويرون حرمة السكوت عنهم، وحرمة مطاوعتهم والركون إليهم.

النتائج السلبية لفقه المعايشة

هذا الفقه، كان مدعوما من قبل الحكام، على امتداد العصر الأموي والعباسي، وكان هو الفقه الرسمي لهاتين الدولتين، وكان لهذا الفقه تأثير كبير في المحافظة على هاتين الدولتين، وتشجيع الخلفاء فيهما على ممارساتهم في مخالفة أحكام الله تعالى، من سفك الدماء البريئة وارتكاب الذنوب والمعاصي، والتبذير في أموال بيت المال، والإفساد والتخريب، وإشاعة اللهو الحرام… وأمثال ذلك، مما كان يجري في قصور البلاط الأُموي والعباسي، وما كان يفعله عمّالهم في البلاد من الظلم والإفساد في البلاد والعباد.

فقه المقاومة

وفي مقابل المعايشة يأتي فقه المقاومة… وكان هذا الفقه هو العامل الأساسي للثورات التي كانت تتفجّر بين حين وآخر تحت أقدام الحكام من بني أمية وبني العباس وتهزّ عروشهم.

وكانت بداية أمر هذا الخط الفقهي ثورة الإمام الحسين (ع) ـ السبط الشهيد ـ ويختم الله تعالى هذا الخط الثوري المناوئ للظالمين بالإمام المهدي (عج)، خاتم الثائرين من آل محمد (ص)، من ذرية الحسين (ع).

ورغم كل التبعات السلبية للسلاطين والحكام والأنظمة الظالمة التي تحكم بلاد المسلمين… رغم ذلك كله يبقى هذا الخط الفقهي يحافظ على نقاوة الإسلام، ويحمي ثغور بلاد المسلمين.

ولولا هذا الخط الفقهي الذي يُمثّل المقاومة، والمعارضة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد، لم يبق لنا اليوم شيء ذو بال مما ورثناه من مواريث الأنبياء وخاتم النبيين (ص).

وحتى أُولئك الذين يعارضون هذا الخط الفقهي، ويذهبون إلى مذهب معايشة الظالم والانقياد له وحرمة الخروج عليه، حتى هؤلاء مدينون فيما يرثون من هذا الدين لفقه المقاومة، والثورة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفيما يأتي نتحدث عن كلٍّ من هذين الفقهين: (فقه المقاومة) و(فقه المعايشة للظالم)، ونستعرض أدلّة كلّ من هذين المذهبين الفقهيين من الكتاب والسنّة، ثم نناقش نقاط الضعف في هذا الاستدلال، عسى أن يأخذنا الله تعالى بأيدينا على صراطه المستقيم.

المصدر
كتاب فصول المقاومة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى