أحكام الجهاد الدفاعي

جدول المحتويات
في هذا النوع من الجهاد، هناك ثلاث نقاط من الناحية الشرعية:
أولاً: هذا الدفاع واجب شرعاً بشكل مطلق، دفاع الناس والمسلمين عن أرضهم وبلادهم ومدنهم وبيوتهم وأحيائهم وشعوبهم وعوائلهم وأعراضهم وحرماتهم ومقدساتهم في مقابل عدوان الأعداء وانتهاكات العدو واجب شرعاً بشكل مطلق.
ثانياً: الذي يسقط أو يُقتل في هذه الساحة؛ أي ساحة الدفاع، فهو شهيد.
ثالثاً: للشهيد قيمة كبيرة وعظيمة عند الله سبحانه وتعالى.
1. وجوب الجهاد الدفاعي
النقطة الأولى: لا يختلف الفقهاء فيها، لم أجد فقيها يُعبأ بفقهه وعلمه يتردد في وجوب الدفاع عن أرض وبلاد وحرمات المسلمين إذا انتهكها العدو، والقرآن الكريم صريح وواضح، وقد تلوت عليكم آنفاً قبل قليل الآيات (39 و40) من سورة الحج: <أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير 39 الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّه ُوَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ>[1].
إذًا؛ من جانب الله تعالى إلى الذين يقاتلون والذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، إعلام إذن؛ يعني إعلام من جانب الله تعالى لهم بالقتال <بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير>.
الله (عز وجل) يأذن لهم ويعلّمهم أنهم مظلومون، ويطلب منهم أن يقابلوا ويواجهوا العدو، ويمنّيهم ويعدهم بالنصر وأن الله على نصرهم لقدير، ثم يقول تعالى: <وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ>، الذي ينصر الله فإن الله ينصره، وإذا نصر الله أحدا فلا يقوى عليه أحد <إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ>.
الآية الكريمة واضحة وصريحة في ذلك، ويقول تعالى: <انْفِرُوا خِفٰافاً وَثِقٰالاً وَجٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ>[2].
ويقول أيضا: <وَلَوْلاٰ دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلٰكِنَّ اللّٰهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعٰالَمِينَ>[3].
إذًا؛ هذا النوع من الجهاد؛ أي الجهاد الدفاعي واجب في الشريعة بحكم من الله تعالى، ومن دون ذلك يعمّ الفساد في الأرض، كما ورد في آية التوبة والحج، ولولا هذا الدفاع، ولولا أن الله تعالى يمكّن عباده من دفع الناس الظالمين، لعمّ الفساد في الأرض.
هذا الجهاد واجب وقد أمر الله سبحانه وتعالى بهذا الجهاد، وقد ورد في الأحاديث – كذلك – الأمر بذلك، ورد الأمر الأكيد بذلك في نهج البلاغة لأمير المؤمنين (ع) – تجميع الشريف الرضي لكلمات أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع) – حيث يقول (ع): «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ وَشَمِلَةُ الْبَلاَء»[4].
الذي يترك الجهاد يلبسه الله (عز وجل) ثوب الذل، الجهاد يأتي بالعز، وترك الجهاد يأتي بالذل «أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَةُ الْبَلاَءُ، وَدُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَالْقَمَاءِ، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَاب، وَأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ، وَسِيمَ الْخَسْفَ، وَمُنِعَ النَّصْف»[5].
ثم يقول (ع): «أَلاَ وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ؛ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَسِرّاً وَإِعْلاَناً، وَقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَان»[6]، لا تسمحوا للعدو أن يملك عليكم أوطانكم، ولا تُعطوه مهلة أن يشن عليكم الغارات، صُدّوا العدو، ردوا أعداءكم، الله (عز وجل) يعزكم، فإن تركتم ذلك فإن الله (عز وجل) يلبسكم ثوب الذل.
ثم يقول (ع) متألماً متحسراً متأسفاً: «وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ، وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْأُخْرَى الْمُعَاهَدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا وَرِعَاثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاِسْتِرْجَاعِ والاِسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ وَلاَ أُرِيقَ لَهُ دَم»[7]، أتوا إلى بلادكم، عاثوا في الأرض فساداً، وقتلوا ونهبوا ورجعوا وافرين.
أنصت إلى الإمام (ع) ماذا يقول بعد ذلك: «فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً، مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً؛ بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيرا»[8]، لو أن أحدا يتأسف ويموت من الأسف فأنا لا ألومه، الإنسان الذي يتحسس كرامته ويتحسس قيمته، ثم يسمع العدو يدخل بلدا ويفسد فيه ويسلب النساء حُليّهن، ثم يرجع موفوراً لا يتعرض له أو يجرحه أو يقتله أحد، لو أنه «مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً، مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً».
ثم يقول (ع): «فَيَا عَجَباً عَجَباً!! وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيَجْلِبُ الْهَمَّ، اجْتِمَاعُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَتَفَرُّقُكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً؛ حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى، يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلاَ تُغِيرُونَ، وَتُغْزَوْنَ وَلاَ تَغْزُونَ، وَيُعْصَى اللَّهُ وَتَرْضَوْن»[9]. هذا النص الموجود في نهج البلاغة والأحاديث والروايات الإسلامية كثيرة في وجوب الجهاد الدفاعي بشكل مطلق، وكلمات الفقهاء – كذلك – كثيرة في هذا الأمر.
آراء الفقهاء
نستعرض هنا سويا كلمات بعض الفقهاء حتى نتأكد من أن هذه المعركة التي يخوضها اليوم الفلسطينيون في مواجهة الكيان الصهيوني هي من الجهاد الدفاعي الواجب على الفلسطينيين وعلى كل المسلمين؛ عرباً وغير عرب، هذا الجهاد كلٌّ بحسب وُسعه، يجب أن يعمل الإنسان بكل وُسعه لتحرير هذه الأرض الإسلامية المباركة، والمسجد الأقصى، وبلاد وحرمات المسلمين من براثن الصهيونية العالمية.
رأي صاحب الجواهر
يقول صاحب الجواهر في كتابه (جواهر الكلام) – وهو من الكتب الفقهية القيّمة، ومن الموسوعات الفقهية الجليلة، وهي من أفضل الموسوعات الفقهية الموجودة في المكتبة الفقهية، ومن خير ما نجد في المكتبة الاسلامية من الكتب الفقهية. هذا الكتاب؛ ألّفه صاحب الجواهر الشيخ محمد حسن النجفي من كبار فقهاء النجف قبل أكثر مما يقارب 100 سنة؛ وهو دورة فقهية في التصنيف الحديث تصل لأكثر من 40 مجلد – يقول في كتاب الجهاد: «إن داهم المسلمين عدو من الكفار يُخشى منه، ويريد الاستيلاء على بلادهم وأسرهم وسبيهم وأخذ أموالهم، وجب الدفاع على الحر والعبد» تأملوا شمولية وتوسعة وإطلاق الواجب؛ شامل لكل المسلمين ومطلق من كل قيد وشرط: «وجب الدفاع على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والسليم والمريض، والأعمى والأعرج، وغيرهم إن احتيج إليه، ولا يتوقف الوجوب على حضور الإمام»[10].
هذا الكلام من صاحب الجواهر يشير إلى مسألتين:
المسألة الأولى: يجب على كل مسلم حسب وُسعه؛ سواء كان رجلا أم امرأة، الدفاع عن أراضي المسلمين، ولا أقصد هنا من مشاركة المرأة أنه يجب عليها أن تحمل السلاح وتنزل إلى ساحة القتال، لا؛ أنا أقول كلٌّ حسب وسعه؛ فالمرأة تستطيع أن تخدم المقاتلين من خلف خط النار، عليها أن تعمل لدعم وإسناد وإمداد المقاتلين على خط النار.
يجب على كل مسلم حسب وسعه؛ سواء كان من فلسطين أو من العرب أو من عامة المسلمين، لا فرق بين مسلم عربي وغير عربي، ومسلم فلسطيني وغير فلسطيني؛ إلا أن الفلسطينيين باعتبار مقامهم وتواجدهم على الأرض السليبة، فإمكاناتهم أكثر في مواجهة العدو من غيرهم[11]، وإلا الواجب شامل لكل المسلمين من غيرهم بشكل مطلق من غير حدود وقيود، شامل للجميع؛ رجالاً ونساءً، وأصحاء ومرضى؛ حتى المريض الذي بوسعه أن يعمل يجب أن يعمل إن احتيج إليه.
المسألة الثانية: أن هذا الوجوب لا يتوقف على حضور الإمام وإذنه، فهو من الجهاد الدفاعي؛ أي هو من الدفاع عن الإسلام والنفس والأرض والعرض ضد عدوان خارجي، ومثل هذا الفعل لا يتوقف على إذن الإمام (ع) ولا نائبه.
طبعاً؛ هذا الواجب كفائي حسب الحاجة، ويحدده أمران:
الأول: الحاجة الميدانية.
الثاني: وسع الإنسان المسلم.
رأي الشيخ جعفر كاشف الغطاء
الشيخ جعفر كاشف الغطاء من الفقهاء الأجلاء، ومن فحول الفقهاء، وقد كان يعيش قبل ما يقرب من مائتي سنة، وله كتاب تحت عنوان «كشف الغطاء»، هذا الكتاب متن فقهي مُركز وعميق من أعمق وأدق المتون الفقهية.
طبعاً؛ هذا الكتاب مع الأسف غير مطبوع طباعة حديثة، أو أنا على الأقل لا أعلم بوجود طبعة حديثة لهذا الكتاب[12]، والطبعة الموجودة أمامي هي طبعة حجرية على النمط القديم والصفحات كبيرة صفحة.
يقول الشيخ كاشف الغطاء في تقسيم الجهاد:
«رابعها: الجهاد لدفعهم – يعني دفع الكفار والأعداء – عن بلدان المسلمين وقراهم وأراضيهم وإخراجهم منها بعد التسلط عليها، وإصلاح بيضة الإسلام بعد كسرها، وإصلاحها بعد ثَلمها، والسعي في نجاة المسلمين من أيدي الكفرة الملاعين، ويجب على المسلمين – تأملوا التعميم الذي يذكره الشيخ جعفر كاشف الغطاء في وجوب الجهاد الدفاعي – الحاضرين والغائبين إن لم يكن في الثغور من يقوم بدفعهم عن أرضهم أن يتركوا عيالهم وأطفالهم وأموالهم ويهاجروا إلى دفع أعداء اللّٰه عن أولياء اللّٰه»[13].
يقول الشيخ كاشف الغطاء (رحمه الله) يجب على الجميع أن ينفرون نفيراً واسعاً؛ خفافاً وثقالاً، لا يتعذر أحد بأهله وعياله وتكاليف عائلته وأطفاله وأمواله وتجارته، يجب على الجميع، كلٌ حسب وسعه وقدرته؛ فصاحب الجاه يبذل من جاهه، والمدرّب عسكريا يدخل الساحة ويحمل السلاح، والذي يملك مالا يبذل من ماله، والذي يملك سلاحا يبذل سلاحه، ومن لديه حيلة أو تدبير صرفه في هذا المقام؛ كلٌ حسب وسعه، لحفظ الإسلام وأهله من تسلط الكفرة.
ثم يقول في مرتبة هذا النوع من الجهاد: «وهذا القسم أفضل أقسام الجهاد[14]، وأعظم الوسائل إلى رب العباد، وأفضل من الجهاد لرد الكفار إلى الإسلام»[15]. هذا الجهاد أفضل من جهاد الدعوة وجهاد الدعاء؛ والدعاء يعني الدعوة إلى الله، وقد تقدّم منّا أن الجهاد على قسمين:
الأول: جهاد لدعوة الكفار إلى الإسلام، وهذا يسمونه: (الجهاد الابتدائي)؛ يقتحم المسلمون فيه قلاع الظالمين والكافرين.
الثاني: جهاد ندفع من خلاله الكفار عن أراضينا وبلادنا وبيوتنا وحرماتنا، ويسمى: (الجهاد الدفاعي).
يقول الشيخ إن هذا الجهاد الثاني أفضل من الجهاد الأول، «ومن قتل في تلك الأقسام يقف مع الشهداء يوم المحشر وهو الشهيد الأكبر، فالسعيد من قتل بين الصفوف، فإنه عند الله بمنزلة الشهداء المقتولين مع الحسين (ع)»[16].
ثم يقول (رحمه الله) بعد كلام: «فمن علم بأنه يجب عليه – يعني الذي قلدني ويأخذ مني أحكام دينه باعتباري الفقيه ويأخذ عني الأحكام الواردة – فليخرج سيفه من غمده – في تلك الأيام القتال كان بالسيوف – ويرفع رمحه وينادي بأعلى صوته: أين غيرة الإسلام؟ أين الطالبون بحفظ شريعة سيد الأنام؟ أين من باعوا أنفسهم بالجنان في رضى الرب الرؤوف الرحمن؟»[17].
رأي الإمام روح الله الخميني (ق)
النص الثالث أنقله من فقيه معاصر هو الامام الخميني (ق)، لديه كتاب تحرير الوسيلة في مجلدين؛ المجلد الاول في العبادات، والمجلد الثاني في المعاملات. في المجلد الأول يذكر الإمام الخميني (رحمه الله): «لو غشي بلادَ المسلمين أو ثغورها عدوٌّ يُخشى منه على بيضة الإسلام ومجتمعهم، يجب عليهم الدفاع عنها بأيّة وسيلة ممكنة من بذل الأموال والنفوس»[18]، هذا جهاد مطلق لا شروط له «من كلٍ حسب وسعه»، ومن غير قيود وحدود وشروط، يقول الإمام (رحمه الله): «لا يشترط ذلك بحضور الإمام (ع) وإذنه، ولا إذن نائبه الخاصّ أو العامّ، فيجب الدفاع على كلّ مكلّف بأيّة وسيلة بلا قيد وشرط»[19].
ثم يقول: (مسألة 3): «لو خيف على زيادة الاستيلاء على بلاد المسلمين وتوسعة ذلك وأخذ بلادهم أو أسرهم، وجب الدفاع بأيّة وسيلة ممكنة».
ثم يقول في المسألة الرابعة: «لو خيف على حوزة الإسلام من الاستيلاء السياسي والاقتصادي، المنجرّ إلى أسرهم السياسي والاقتصادي ووهن الإسلام والمسلمين وضعفهم، يجب الدفاع بالوسائل المشابهة والمقاومات المنفية، كترك شراء أمتعتهم، وترك استعمالها، وترك المراودة والمعاملة معهم مطلقا»[20]؛ يعني ما نسميه اليوم بلغتنا المعاصرة «المقاطعة السياسية والاقتصادية».
هذه طائفة من كلمات الفقهاء، والمسألة متفق عليها بينهم، ولا أجد بين الفقهاء خلافا في هذه المسألة، وقد فحصت آراء الفقهاء ووجدت أن فقهاء المذاهب الاسلامية يُجمعون على هذا الرأي، وما وجدت في فقهاء المسلمين من يخالف في هذه العمومية والإطلاق الذي نقلته عن بعضهم، فقهاء المذاهب الأربعة لا يختلفون عن فقهاء الإمامية في ذلك.
أذكر من باب المثال بعض المصادر:
الزيلعي في كتاب «تبيين الحقائق» يذهب إلى الوجوب المطلق للدفاع، الجزء السادس، صفحة 110.
الشربيني في كتاب «مغني المحتاج»، الجزء الرابع، صفحة 195.
كتاب «الشرح الكبير» للدردير، الجزء الرابع، صفحة 357.
أحمد بن يحيى في كتاب «البحر الزخار»، الجزء الخامس، صفحة 268.
ابن حزم الظاهري في كتاب «المحلى»، الجزء الحادي عشر، صفحة 99.
الشرقاوي في الحاشية على التحفة للأنصاري.
وأحمد بن قاسم في «التاج المذهب»، الجزء الرابع، صفحة 315 إلى 316 وغيرهم[21].
إذاً؛ فقهاء المسلمين متّفقون بشكل عام على وجوب الدفاع في هذه الحالة، ويحرم السكوت والتخاذل، وعلى كل مسلم أن يسعى للدفاع ويبذل وسعه، وسعه أي ما في وسعه من إمكان، يبذل من جاهه أو ماله أو دمه أو اولاده بكل ما يتأتى له بقدر وسعة في دفع العدو عن بلاد المسلمين.
2. حكم من يسقط في ساحة الجهاد الدفاعي
النقطة الثانية: ما هو حكم من يقع صريعاً وقتيلا في ساحة الدفاع؟ ساحة الدفاع ساحة مضمخة بالدم، وبطبيعة الحال هذه الساحة ضريبتها الدماء، والذي يدخل في هذه الساحة يوطّن نفسه للقتل، فما هو حكم القتل في هذه الساحة؟
يقول صاحب الجواهر – وقد سبق أن وضحت قيمة كتاب جواهر الكلام في المكتبة الفقهية الإسلامية المعاصرة، وذكرت أن هذا الكتاب من خير ما كتب في الفقه من الموسوعات الفقهية – في كلام طويل أختصره لكم ومن أراد فليراجع المصدر[22]، يقول: «الشهيد يصدق على من يُصرع على من يسقط في ساحة القتال كما لو دهم المسلمين عدو يخاف منه»[23]، الذي يسقط ويقتل في ساحة المواجهة والدفاع، شهيد.
ثم يذكر مجموعة من المصادر الفقهية التي تحكم بذلك وتؤكد هذا المعنى كما في الغنية وإشارة السبق والمعتبر والذكرى والدروس والمدارك والذخيرة والحدائق والروضة والخلاف ونهاية الإحكام إلى آخر الكلام…[24]
وقد ذكرنا أعلاه كلمة صاحب كشف الغطاء الشيخ كاشف الغطاء، فقد كانت كلمته صريحة أيضاً بأن الذي يقتل في هذا السبيل فهو شهيد؛ حيث يقول: «ومن قتل في تلك الأقسام يقف مع الشهداء يوم المحشر وهو الشهيد الأكبر، فالسعيد من قتل بين الصفوف، فإنه عند الله بمنزلة الشهداء المقتولين مع الحسين (ع)»[25].
3. قيمة الشهيد عند الله (عز وجل)
النقطة الثالثة: قيمة الشهيد عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، الجهد الذي يبذله المقاتل في سبيل الله في ساحة الجهاد والدفاع قبل الشهادة وعند الشهادة عند الله سبحانه وتعالى من أعظم وأبرك الجهد، يقول تعالى: <ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ>[26]. هذا الجهد عظيم ومبارك عند الله سبحانه وتعالى.
كل جهد من هذا القبيل جهد مبارك عظيم عند الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يكتب لهم بهذا الجهد عملاً صالحاً، ويعطيهم أجرهم، وكل خطوة تغيظ الكفار الله (عز وجل) يجعلها في أعمالهم الصالحة.
هذه هي النقاط الثلاثة التي أردت أن أتحدث عنها.
وهنا نعود إلى الشطر الأول من الحديث، وهو الجانب الفقهي منه؛ حيث بناء عليه فإن المشروع السياسي العربي الإسلامي اليوم يجب أن يكون باتجاه دعم وإسناد الانتفاضة والمقاومة الإسلامية في الساحة الفلسطينية، أما المشاريع الأخرى فقد ثبت فشلها، وبما لا إثبات من بعده أن المشاريع السياسية التي تكررت وتعددت طوال هذه المدة باءت بالفشل ولم تُثبت جدارتها، والحل المشروع والوحيد اليوم هو دعم وإسناد الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية.
نحن الآن لدينا قيمة حقيقية موجودة وقائمة على الأرض؛ المقاومة حالة حقيقية، سياسية، جهادية، حركية، ثورية، موجودة على وجه الأرض، والشعب الفلسطيني أتم اليوم عليكم الحجة بين يدي الله تعالى؛ شباباً وفتيات، ورجالاً ونساءً، أتموا عليكم الحجة وأثبتوا أن بإمكانهم إدارة المعركة ومواجهة العدو الصهيوني، عليكم الإسناد والدعم، والدعم المتواصل.
ثم بعد ذلك – كما قال ولي أمر المسلمين (حفظه الله) – المقاطعة الاقتصادية مع العدو ومع من يدعم العدو في هذه المرحلة الحساسة المصيرية من تاريخ الصراع الحضاري بين الإسلام والصهيونية العالمية.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
- [1] الحج: 39 – 40.
- [2] التوبة: 41
- [3] البقرة: 251
- [4] نهج البلاغة، من خطبة له عليه السلام وفيها يذكر فضل الجهاد، الخطبة: 27، ص34 – 35.
- [5] المصدر نفسه: ص35.
- [6] المصدر نفسه.
- [7] المصدر نفسه.
- [8] المصدر نفسه.
- [9] وخير مصداق لما قاله أمير المؤمنين (ع) وينطبق عليه مئة بالمئة، ما يحصل اليوم في فلسطين المحتلة – كما أشرنا في الهامش أعلاه – فإن الغرب كله مجتمِع على الباطل، مجتمع على تهجير الفلسطينيين وقتلهم وظلمهم وانتهاك حرمة المسجد الأقصى (القبلة الأولى للمسلمين ومسرى النبي الأعظم (ص)) وتدنيسه، ومنحاز إلى إسرائيل بالكامل. هذا في الدائرة الصغرى، أما في الدائرة الكبرى، فإن الغرب كله – على الرغم من وجود الخلافات الداخلية فيما بينهم – مجتمِع على القضاء على الإسلام والمسلمين وتدنيس وهدم مقدساتهم، ونهب ثرواتهم وتجهيلهم، وتغيير ثقافتهم. وفي المقابل لم يحرك المسلمون ساكنا، وتفرقوا عن حقهم، وقد غزا الأعداء بلادهم مرات وكرات، وذُلّوا في ديارهم مرات وكرات، ولم يتعلموا ولم يأخذوا العِبَر، (فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَان)، (وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيَجْلِبُ الْهَمَّ، اجْتِمَاعُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَتَفَرُّقُكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً؛ حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى، يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلاَ تُغِيرُونَ، وَتُغْزَوْنَ وَلاَ تَغْزُونَ، وَيُعْصَى اللَّهُ وَتَرْضَوْن). إي نعم؛ إنه يميت القلب، ويجلب الهم، إنه يميت قلب المؤمن والمجاهد الشريف، ويجلب الهمّ للمؤمن والمجاهد الشريف الذي يهتم لأمور المسلمين، الذي يرى مثل هذه الانتهاكات والجرائم لكنه لا يجد الناصر والمعين ولا حول له ولا قوة، فهناك الكثير من الجماهير الشعبية العربية والمسلمة بل غير المسلمة أيضا في أنحاء العالم، خرجت إلى الشوارع لتأييد ودعم الفلسطينيين، لكن لا حول لهم ولا قوة، فهم محكومون بأنظمة عميلة ومطبّعة وضعيفة وفاسدة لا تسمح لهم بأكثر من ذلك، كما أن هذه الحركة الجماهيرية، مع زخمها وحجمها، لم تكن كافية لكسر شوكة زعمائهم وتجاوز حدود بلدانهم لنصرة الفلسطينيين، والذي وقف وقفة مشرفة وبطولية وكان في قلب الحدث مع المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني هو محور المقاومة الممتد من طهران إلى اليمن، وقدموا شهداء لاسيما حزب الله في لبنان، فقد كان الظهير والسند المباشر للمقاومة في فلسطين في هذه المعركة. إسرائيل تقتل من الفلسطينيين في هذه الحرب الأخيرة في كل يوم المئات، وتقصف المنازل والمستشفيات، وتحاصرهم وتمنع عنهم الماء والغذاء والدواء وحتى الهواء الذي تلوث برائحة البارود لشدة وكثرة القصف؛ حيث تقول التقارير بأن الحجم التخريبي والمدمّر للمتفجرات والصواريخ التي ألقيت على غزة، خلال أسبوعين إلى هذه اللحظة التي يستمر فيها القصف، يعادل الحجم التخريبي للقنبلة النووية التي أُلقيت على هيروشيما، وبكل الأحوال؛ سواء كانت هذه التقارير صحيحة أم لا، فهي تعبير عن شدة الدمار الذي خلّفه هذا القصف الوحشي، كل ذلك والمسلمون وزعماء العرب والمسلمين لا يحركون ساكنا، علما أن أكبر مشترٍ للسلاح في العالم من الغرب لاسيما من أمريكا هم الدول العربية والمسلمة لاسيما الخليجية، وقد امتلأت مخازنهم بالسلاح، ولا أدري لماذا يُكدّسون هذا السلاح الذي لا يعرفون كيفية استخدامه حتى؟! أليس لمثل هذه الظروف؟! أم أنهم يؤمّنون بذلك الميزانيات لتلك الدول التي يشترون منها السلاح لكي تتمكّن من قتل المسلمين وتفقيرهم، ودعم إسرائيل؟! أم أنهم يقومون بتكديسها لأجل محاربة عدو افتراضي وهمي فرضته عليهم الدول الغربية، ولأجل حرف البوصلة عن فلسطين والقضية الأساسية والمركزية؟! (من المحقق)
- [10] محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج21، ص18 – 19. مع اختلاف في اللفظ: (الثاني: أن يدهم المسلمين عدو من الكفار يُخشى منه على البيضة، أو يريد الاستيلاء على بلادهم وأَسرهم وسبيهم وأخذ أموالهم. وهذا واجب على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والسليم والمريض، والأعمى والأعرج، وغيرهم إن احتيج إليهم، ولا يتوقف على حضور الإمام عليه السلام ولا إذنه، ولا يختص بمن قصدوه من المسلمين، بل يجب على من علم بالحال النهوض إذا لم يعلم قدرة المقصودين على المقاومة، ويتأكد الوجوب على الأقربين فالأقربين). (من المحقق)
- [11] لأنهم أصحاب الأرض وهم الأقرب إلى هذا العدوان، فيتأكد الوجوب بحقهم كما نقلنا ذلك عن صاحب الجواهر في التعليق السابق. (من المحقق)
- [12] طبع هذا الكتاب بعد ذلك طبعات حديثة ومتعددة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ حيث ازدهرت طباعة الكتب في الجمهورية الإسلامية وتوسعت، بعد انتصار الثورة واستقرار الأمور، في مختلف العلوم والتخصصات لاسيما الدينية منها تبعا لازدهار وتطور العلم والبحث العلمي في مختلف المجالات والتخصصات وخصوصا على صعيد الحوزات العلمية. (من المحقق)
- [13] جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء، ص381.
- [14] لقد ذكر الشيخ كاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء) خمسة أقسام للجهاد، وهي: 1. الجهاد لحفظ بيضة الإسلام، 2. الجهاد لدفع الملاعين، 3. الجهاد لدفعهم عن طائفة من المسلمين، 4. الجهاد لدفعهم عن بلدان المسلمين، 5. جهاد الكفر والتوجه إلى محالّهم. والجِهة والأساس الذي اعتمده الشيخ في هذه القسمة هو اختلاف متعلقات الجهاد. (راجع: جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء، ص381 – 383). (من المحقق)
- [15] المصدر نفسه.
- [16] المصدر نفسه.
- [17] المصدر نفسه. مع اختلاف في اللفظ: (فمن علم بأنه يجب عليهم أن يقبل مني الكلام، ويأخذ عني الأحكام الواردة عن سيد الأنام، فليخرج سيفه من غمده، ويرفع رمحه من بعده، وينادي بأعلى صوته: أين غيرة الإسلام؟ أين الطالبون بثارات شريعة سيد الأنام؟ أين من باعوا أنفسهم بالجنان والحور والولدان وفي رضى الرب الرؤوف الرحمن؟ أين عبيد سيد الأوصياء؟ أين الطالبون لأن يكونوا من شهداء كربلاء؟ أين الدافعون عن شريعة سيد الأمم؟). (من المحقق)
- [18] روح الله الموسوي الخميني، تحرير الوسيلة، ج1، ص515.
- [19] المصدر نفسه.
- [20] المصدر نفسه.
- [21] وقد تقدم بيان آراء الكثير منهم في الحلقة الأولى من هذه السلسلة (فصول المقاومة)، فليراجع هناك. (من المحقق)
- [22] محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج4، ص86 – 91.
- [23] لم نعثر على نصّ العبارة في المصدر المذكور، وعلى ما يبدو أن الشيخ (رحمه الله) ينقل الكلام بالمعنى والمضمون، وإليك عبارة صاحب الجواهر هناك: (والشهيد والمراد به هنا هو الذي قتل بين يدي الإمام (ع)، كما في المقنعة والقواعد والتحرير، وعن المراسم: (أو نائبه) كما في الوسيلة والسرائر والجامع والمنتهى وعن المبسوط والنهاية، ولعل الثاني مراد الأولين، ولذا قال في مجمع البرهان: المشهور أن المراد بالشهيد هنا من قتل في المعركة بين يدي النبي (ص) أو الإمام (ع) أو النائب الخاص وغيره، وأنه مذهب الأكثر، بل في الذخيرة ان الأصحاب اشترطوا النبي (ص) أو الإمام (ع)، وألحق به النائب الخاص، كما أن الظاهر إرادة الجميع بالإمام (ع) ما يعم النبي (ص) أو في جهاد بحق ولو بدونهما، كما لو دهم المسلمين عدو يخاف منه على بيضة الإسلام، كما في ظاهر الغنية أو صريحها، وكذا إشارة السبق وصريح المعتبر والذكرى والدروس والمدارك والذخيرة والحدائق وظاهر الروضة والروض، وعن ظاهر الخلاف ومحتمل التذكرة ونهاية الأحكام؛ بل في ظاهر الأول أو صريحه الإجماع عليه، ولعله الأقوى). محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج4، ص86 – 87. (من المحقق)
- [24] المصدر نفسه، ص86.
- [25] جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء، ص381.
- [26] التوبة: 120.