مواضيع

علاقة النصر بالله تعالى في ساحة المعركة

علاقة الثورة بالله

الثورة الإسلامية المباركة في إيران، كانت ثورة مباركة بالمعنى الدقيق والواسع للكلمة، فقد أكسبت هذه الثورة الدعاة إلى الله تعالى فيضا من العطاء والتجارب الخصبة والدروس والعبر والأفكار والمفاهيم.

ولقد كانت هذه الدروس والأفكار والمفاهيم قائمة في تراث الدعوة فيما يحكي الله تعالى للعاملين في سبيله من قصص الماضين في الصراع بين الحق والباطل، وكانت قائمة في نفوسهم ووعيهم وقلوبهم، لكنها كانت نظريات وأفكاراً، آمنّا بها إيماناً نظرياً، فتحولت هذه النظريات، التي كنا قد آمنّا بها من قبل، إلى واقع حي متحرك، نلمسه، ونراه، وتملأ نفوسنا، وتعمر قلوبنا، وجسّدته الثورة الإسلامية، ومنحته الحركة والحياة والدم.

وأسأله تعالى أن يوفقني في هذا المؤتمر المبارك[1] – الذي شاء الإخوة المؤمنون أن يقيموه تحت شعار: (الدعوة إلى الله) – أن أستخلص لكم أهم هذه الدروس والأفكار والمفاهيم.

وأول هذه الدروس وأهمها في نظري، معرفة الله تعالى من خلال الأحداث السياسية في الكون، والصراع القائم بين الإسلام والكفر في العالم والتاريخ…

فإن لمعرفة الله تعالى حقولا وآفاقاً واسعة، ومن هذه الآفاق والحقول معيّة الله تعالى للمؤمنين في معركتهم الضارية ضد الكفر.

وليس من شك أن لإحساس المؤمنين بمعيّة الله ونصر الله تعالى لهم قيمة كبيرة في دعم القلّة المؤمنة وشد صفوفهم ورفع معنوياتهم. ويولّد هذا الإحساس لدى الداعية شعوراً بالقوة والاستعلاء في ساحة المعركة، فهو لا يقاتل وحده، وإنما يقف في الساحة ويقاتل، ويهاجم، ويدافع، ومعه الله تعالى.

والله تعالى، في عمق وعي المؤمن وقلبه، أكبر من أي قوة، وأقوى من أي طاغوت مهما بلغت قدرته وشوكته، والمؤمنون يرددون هذا المفهوم ضمن شعار (الله أكبر) في كل يوم في صلواتهم عشرات المرات.

وهو يرسّخ في نفس الإنسان المؤمن إيماناً لا حدّ له بعظمة الله تعالى وجلاله وكبريائه وقوته وعزّته اللاّمتناهية، وتتضاءل أمام هذا الشعار قوة الطغاة وشوكتهم.

فتنقلب العقيدة، وينقلب الشعار، وتنقلب الصلاة إلى شعور بالقوة والعزّة.

وكذلك كانت الصلاة، فشعار (الله أكبر) في الصلاة يمنح المؤمنين قوة، وعزة، وصموداً، واستقامة، في ساحات المعركة.

فكيف اختفت حيوية هذا الشعار من حياة الأمة اليوم؟! وكيف فقدت الصلاة دورها في ساحات القتال؟! وكيف أصبحت الصلاة والأذان لا تعني شيئاً في حياة هذه الأمة يهابه أعداء الله؟! إنّ لذلك قصة أريد أن أحكيها لكم.

فصل العقيدة عن السياسة

فشل الاستعمار في فصل الدين عن السياسة نظرياً، على الأقل؛ في الأوساط الواعية المؤمنة من المسلمين، وظلت الطبقة الواعية المؤمنة من هذه الأمة تؤمن بأن السياسة شأن من شؤون الدين، وأنه في الصميم من الدين.

ولكن مما لا شك فيه أن الاستعمار نجح في فصل العقيدة عن السياسة؛ حتى على الصعيد النظري، في هذه الأُمّة.

وفي رأيي أن فصل العقيدة عن السياسة أخطر من فصل الدين عن السياسة[2].

فأصبح المسلمون يفهمون السياسة بصورة مستقلة تماماً عن الناحية الإيمانية والاعتقادية، ويفهمون العقيدة كذلك بمعزل عن السياسة على شكل حقلين منفصلين.

وكأنّ السياسة تجري في عالم مستقل عن مشيئة الله تعالى، وفق قوانين ومعادلات بشرية، وبموجب ميزان القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية، وليس لله تعالى مشيئة وإرادة في عالم السياسة.

ولكي أفتق الجرح الذي تعاني منه الأُمّة أحب أن أقول: في عقيدة الكثيرين أن الله تعالى خلق السماوات والأرضين والمجرات والكون الكبير، وخلق البحار والجبال والأنهار، وبأمره تعالى ينزل الغيث، وتخضرّ الأرض وتثمر الأشجار، وتتقلب الفصول، وله في كل ذلك الأمر من قبل ومن بعد.

ولكن السياسة تجري حول محور آخر، هو محور القوتين العظميين (كذا…)[3]، وحلفائهما، وشبكاتهما التجسسية، وقواتهما العسكرية، وقدراتهما الاقتصادية، وسياستهما، فإذا اتفقتا فالويل للعالم الثالث منهما، وإذا اختلفتا فالويل للبشرية… وهما إلى الوفاق والتفاهم أقرب في الغالب منه إلى الاختلاف.

وأما العالم الثالث[4] أو ما يسمونه كذلك[5]، فلا قيمة له في المعادلات السياسية، ولا يشكل قوّة واعتباراً، وليس للإيمان بالله تعالى وقدرته وقوته وعظمته شأن في هذا العالم، فهو تعالى القوي المتعال، ولكن السياسة لها شأنها الخاص ومعادلاتها الخاصة، ولا دخل لهذه العقيدة في المعادلات السياسية.

هذه هي الحقيقة المُرّة بكل مرارتها وقسوتها.

وكيف أصبحنا كذلك؟!

بكل بساطة؛ تعلمنا السياسة في مدرسة الاستعمار، وأخذنا نفهم السياسة، ونناقشها، ونحلل ونفسّر الأحداث السياسية، وأحياناً فيما بيننا نحن المؤمنون، وفي مجالسنا الخاصة، بهذه الذهنية.

وهذه المدرسة السياسية التي أثرت في نفوسنا وفي فهمنا للسياسة من حيث لا نشعر، مدرسة يهودية قديمة معروفة؛ كانت ترى أن الله تعالى لما خلق الكون والإنسان، تخلّى عن الحكم والقبض والبسط والأمر في حياة الناس، وأصبح الإنسان هو الذي يحكم ويقبض ويبسط ويأمر في حياته. يحدّثنا عنهم القرآن الكريم في سورة المائدة:

>وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ<[6].

وتحولت هذه العقيدة اليهودية القديمة إلى أساس علماني في فهم السياسة، وتحليلها، ومناقشتها، وترقب النتائج السياسية والتنبؤ بها، ثم تسلّل هذا المفهوم العلماني اليهودي عن السياسة إلى مجتمعنا الإسلامي، وأصبحنا نتعامل معه كحقيقة ثابتة لا نقاش فيها.

ومن الشواهد على ذلك الأحداث التي سبقت الدولة الكريمة المباركة في إيران، فقد كنت أتوخّى أن أفهم رأي المثقفين الواعين من المسلمين في خضمّ الأحداث، فلم أجد إلا قلّة قليلة كانت واثقة بالنصر، وأكثر من رأيت من المثقفين كانوا يرون أن الورقة الرابحة لأمريكا على كل حال، وأن نتائج هذه الحركة لا تتخطى سقوط وزارة وقيام أخرى، وأن هذه الثورة لا يمكن أن تتجاوز حدود الوفاق الدولي القائم بشأن إيران، وأن أمريكا لن تتخلّى عن إيران وعن النظام الملكي، وأن القضية لا تتجاوز محاولة أمريكية لتأديب الشاه وتحجيم سلطاته، وأن رأس الحبل بيد اليسار، والمؤمنون هم الضحايا، وأن مراجع الدين ينقصهم الوعي السياسي وقضيتهم خاسرة بالتأكيد، وأن ثورة الشارع لا يمكن أن تزعزع أركان النظام الشاهنشاهي العتيد، وأن هناك لعبة خفية تكشفها الأيام فيما بعد، وأن أمريكا لا يمكن أن تسكت عن آبار النفط وقواعدها العسكرية الضخمة في إيران، وأن روسيا لا يمكن أن تسكت عن الغاز ومصالحها في إيران، وأنّ، وأنّ…

وهذا كله صحيح، على اختلاف مذاهب الناس في السياسة، لو كان الأساس لفهم السياسة: >يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ<. أما عندما ننطلق من منطلق: >بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ<، فإن الأمر يختلف تماماً، والمعادلات السياسية وموازين القوى تتطاير، ويتضاءل دورها وقيمتها.

ولست أريد أن أناقش، ولست بصدد أن أنتقد، وأرى أن هذه الحالة الذهنية هي نتيجة الاحتكاك المستمر بالصحافة والإذاعة العلمانيين، وإنما أريد أن نتلافى ما سبق بتكوين ذهنية إسلامية قرآنية في فهم السياسة.

ولسوف نرى، إن شاء الله، أن القرآن يشبع هذه القضية، ويتناولها بكل دقة واستيعاب من أطرافها، ويصنع منها نظرية متكاملة الأطراف.

وحينما يستعرض المؤمن الداعية آيات القرآن الكريم بهذا الصدد، ويضعفها في إطارها، ويربط بينها، يعجب كيف غفل عن هذه الحقيقة التي يعطيها القرآن الكريم كل هذا الاهتمام والتأكيد!

لا أريد أن أدخل في تفاصيل الآيات الاعتقادية التي نتلوها في كتاب الله، والتي يربط القرآن الكريم فيها كل شيء في هذا الكون بمشيئة الله تعالى، وأن الأمر له من قبل ومن بعد، ولا يعزب عن علمه شيء، ولا يخرج عن قبضة سلطانه خارج، و>وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمٰاوٰاتِ وَالْأَرْضَ وَلاٰ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمٰا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ<[7]… فإن ذلك حديث يطول أمره، وإنما أدخل مباشرة فيما وعد الله تعالى به المؤمنين من النصر، وأنه تعالى لن يتخلّ عنهم في صراعهم مع الباطل، وأن قوة الباطل وشوكته وسلطانه، لن تؤثر في نتيجة المعركة بحال من الأحوال، ولن تحول دون نصر الله تعالى:

>يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ<[8].

>إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا<[9].

>قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ<[10].

>وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ<[11].

>بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ<[12].

>وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ<[13].

>وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ<[14].

>فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ<[15].

>وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا<[16].

>وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا<[17].

>كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ<[18].

>فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا 5 إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا<[19].

>وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ<[20].

ويقْسم الله تعالى لنبيه (ص)  أنه لم يتخلّ عنه:

>وَالضُّحَى 1 وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى 2 مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى<[21].

ويجعل الله تعالى نصر المؤمنين حقاً عليه (عز وجل) :

>كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي<[22].

>وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ<[23].

>وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ 171 إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ 172 وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ<[24].

ولكي تكون القضية حيّة تعيش في حياة الدعاة، يذكر لهم القرآن نماذج من تاريخ الصراع بين الحق والباطل؛ حيث تقف الأحزاب أمام حزب الله، ويواجه أنصار الطاغوت أنصار الله تعالى، ويعلن هذا الإنسان الضعيف الحرب على الله تعالى، ويكيد ويمكر بحزب الله.

وعندما ينظر الإنسان إلى هذا التقابل في المكر والكيد بين الله تعالى القوي العزيز، وخلقه الطغاة الضعفاء، لا يملك نفسه من أن يبتسم، ولا يتردد لحظة واحدة في نتيجة هذه المقابلة:

>وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ<[25].

>ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ<[26].

>وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ<[27].

ثم يذكر تعالى لعباده أمثلة وشواهد من نصره لأنبيائه وعباده الصالحين في حربهم وصراعهم مع الطاغوت:

>وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ<[28].

>فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ<[29].

>وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ<[30].

وعن أنصار المسيح (ع)  يقول تعالى:

>فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ<[31].

ثم يذكّر النبي (ص)  والمؤمنين بما سبق من تأييد الله تعالى له وللمؤمنين في صراعهم المرير مع المشركين:

>هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ<[32].

>وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِه وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ<[33].

>إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا<[34].

>وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ<[35].

>لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ<[36].

هذه هي الحقيقة الربانية الكبرى التي كدنا أن ننساها أو نسيناها بالفعل، لولا رحمة الله، فكاد المؤمنون أن يتصوروا أنهم في ساحة الصراع مع الكفر، وحدهم، وقد كان الله معهم في مواقفهم حين البأس، وفي ساعات المحنة، وداخل الزنزانات، وكان الله معهم في غرف التعذيب، وبعين الله كانوا يتحملون العذاب والاضطهاد.

وليت المؤمنين كانوا يعلمون أن عذابهم بعين الله الرحيمة، وأن الله لو شاء لأوقف قلوب معذبيهم، وشلّ أيديهم، وأعمى عيونهم عنهم، وأن اليد التي تعصر قلوبهم يد أرحم الراحمين، وأنهم يألمون ويضجون بسمع الله، ويتحملون السياط بعين الله، إلاّ أن ذلك خير لهم لو كانوا يعلمون، وأنّ أعداءهم يتعذبون، ويعانون كما يعانون، وتعتصر الآلام قلوبهم، كما تعتصر قلوبهم، ويفقدون أعزتهم كما يفقدون. وتلك سُنة الله في الذين آمنوا والذين كفروا وشاقّوا الله ورسوله من غير فرق، إلاّ أنكم ترجون من الله ما لا يرجون، وتجدون من نصر الله تعالى وتأييده ما لا يجدون:

>إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ<[37].

وأن طريق ذات الشوكة الذي أراده الله تعالى لهم إلى النصر، خير لهم من أن يأتيهم النصر غنيمة باردة رخيصة:

>وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ 7 لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ<[38].

وأن نصر الله تعالى ليس ببعيد عنهم لو أنهم صبروا: >أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ<[39].

وتسأل كيف ينصر الله الفئة القليلة الفقيرة الضعيفة على الفئة الكثيرة الغنية القوية؟! على خلاف ما يتصوره الناس في موازين القوى، والمعادلات السياسية، والحسابات العسكرية والاقتصادية.

وجواب القرآن الكريم واضح وبسيط، ليس فيه تعقيد الموازنات السياسية المعاصرة، والتي تعلّمناها، وتعودناها، رغماً عنا. إن الجواب بسيط بساطة التوحيد، وإن في التوحيد جواباً واضحاً لكل هذه التساؤلات.

ونرجع إلى القرآن الكريم مرة أخرى، لنلمس الخطوط التفصيلية لهذا القانون.

إن أهمّ عناصر النصر أربعة: القوّة، المال، التسديد، التثبيت.

وإن فئة آتاها الله تعالى هذه العناصر الأربعة، لا يحول شيء بينها وبين النصر.

ولنستعرض هذه العناصر الأربعة في كتاب الله.


  • [1] أُلقي هذا البحث في المؤتمر السنوي لرابطة الشباب المسلم في لندن عام 1979؛ أي في الأيام الأولى لانتصار الثورة الإسلامية، وتعتبر الثورة الإسلامية من مصاديق مقاومة الحكومات الظالمة، وهو فصل من فصول المقاومة؛ بل من مصاديق مقاومة الاحتلال أيضا؛ لأن الدول المستعمرة كانت تسيطر على خيرات وثروات وأمن هذا البلد وبتفويض من الشاه، وهو فصل آخر من فصول المقاومة، وفي نفس الوقت وببركة هذه الثورة أقيمت الجمهورية الإسلامية القائمة على الدين المحمدي الأصيل؛ لأنه لا يمكن أن تكون هناك حكومة أمثل منها في تطبيق العدل الإلهي على الأرض، فكانت ثورة جامعة وشاملة. (من المحقق)
  • [2] مقصود الشيخ؟رح؟ من فصل الدين عن السياسة هنا والتمييز بينه وبين فصل العقيدة عن السياسة، هو فصل الفقه والفقهاء عن السياسة وإخراجهما من دائرة التدخل في حقل السياسة؛ سواء نظريا أم عمليا؛ أي إخراج السياسة بالكامل من الدين سواء من حيث التنظير والاجتهاد أم من حيث الحكم والسلطة وأي مسألة تتعلق بالسلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وكل ما يتعلق بتشكيل الدولة كما روّجت له العلمانية؛ حيث نعلم أن هناك بابا في الفقه يتعلق بالأحكام الولائية أو الحكومية التي يصدرها الفقيه بعنوان كونه حاكما شرعيا، وهي بمجموعها تشكّل باب الأحكام السياسية، وقد طرح الفقهاء هناك الشروط التي يجب أن تتوفر في الحاكم الشرعي عند تصديه لولاية الأمر على الأمة الإسلامية وتشكيل الدولة الإسلامية إذا توفرت الظروف المناسبة لذلك. وقد بقي هذا الباب مسكوتا عنه ومغفولا عنه عند الشيعة الإمامية بعد الغيبة الكبرى فترة من الزمن، فكان الفقيه لا يتدخل في السياسة والحكم، وكانت وظيفته الإفتاء والموعظة فقط، واستمر الشيعة على هذا الحال إلى زمن المحقق الكركي؛ حيث بدأ الفقهاء يهتمون بالأحكام المتعلقة بالسياسة والحكم ووظائف الحاكم الشرعي، وشارك بعضهم في مناصب في السلطة آنذاك، ثم تطور البحث في السياسة بشكل تدريجي إلى زمن المحقق النراقي حيث طرح نظرية (ولاية الفقيه المطلقة)، ثم المحقق النائيني الذي طرح نظرية (المشروطة أو الدستورية)، ومن ثم جاء الإمام الخميني (ق)  ليطرح نظرية (ولاية الفقيه المطلقة) وعلى نطاق واسع ويطورها، ويقوم بتطبيقها على أرض الواقع من خلال الثورة وإقامة الجمهورية الإسلامية والتي لأجلها عقد الشيخ؟رح؟ هذا البحث، وبذلك تكون قد عادت الأمور إلى نصابها وتم إثبات أن السياسة لا تنفصل عن الدين، وهو الشعار الذي رفعه الإمام الخميني (ق)  وكان يؤكد ويصرّ عليها كثيرا، وتكون الثورة الإسلامية قد سببت صحوة فكرية لدى الشيعة، وأصبح هناك ما يسمى بالفكر السياسي الشيعي، وأصبح مطروحا على الساحة السياسية، ويتم مناقشته وتداوله بين النظريات السياسية الأخرى. وبذلك يتضح الفرق بين هذا العنوان (فصل الدين عن السياسة) وبين عنوان (فصل العقيدة عن السياسة)؛ حيث إن فصل العقيدة عن السياسة تعني عدم تدخّل الغيبيات والماورائيات (الميتافيزيقيا) بالأحداث السياسية، وأنه في السياسة يجب أن تكون الحسابات مادية محضة، وأنها أمر دنيوي يخص الشعب والإرادة الشعبية. وخير دليل على بطلان هذه النظرية هو ثورة الإمام الحسين (ع)  التي تفوق الحسابات المادية، ولو تم حسابها طبقا لهذه النظرية فسوف يكون الإمام الحسين (ع)  هو الخاسر، لذلك نرفع شعار (انتصار الدم على السيف). وإلا فإن نفس عنوان (فصل الدين عن السياسة) عام ومطلق يشمل كلا النوعين من الفصل، حيث يعني أنه يجب إبعاد كل ما يتعلق بالدين عن السياسة والحكم والسلطة وأي أمر يتعلق بها. وللأسف اليوم هناك دول ذات أكثرية مسلمة، لكن الذي يحكمها أنظمة علمانية وليبرالية. (من المحقق)
  • [3] إشارة من الشيخ إلى المعسكرين والقطبين: الغربي الرأسمالي المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، والشرقي الشيوعي المتمثل بالاتحاد السوفييتي آنذاك وحلفائه. (من المحقق)
  • [4] دول العالم الثالث؛ اصطلاح سياسي أطلقه الاستعمار على الدول التي لا تنتمي إلى المعسكرين الرأسمالي (أمريكا وحلفائها) والشيوعي (الاتحاد السوفييتي وحلفائه)، وليست حليفة لهما، تقع غالبا في آسيا وأفريقيا، ويقصد من هذه التسمية الإهانة والاستخفاف بهذه الدول وقدراتها؛ لاسيما أن المسلمين ينتمون إلى هذه الدول. (من المحقق)
  • [5] ويطلق على هذه الدول أيضا تسمية (الدول النامية)، ويُقصد منه أن هذه الدول توصف بالفقر، والتخلف، وتدني مستوى المعيشة لأغلب سكانها. (من المحقق)
  • [6] المائدة: 64.
  • [7] البقرة: 255.
  • [8] محمد: 7.
  • [9] غافر: 51.
  • [10] التوبة: 14.
  • [11] الحج: 40.
  • [12] آل عمران: 150.
  • [13] الأنفال: 40.
  • [14] الحج: 78.
  • [15] المائدة: 56.
  • [16] النساء: 45.
  • [17] الفرقان: 31.
  • [18] البقرة: 249.
  • [19] الشرح: 5 – 6.
  • [20] العنكبوت: 69.
  • [21] الضحى: 1 – 3.
  • [22] المجادلة: 21.
  • [23] الروم: 47.
  • [24] الصافات: 171 – 173.
  • [25] الأنفال: 30.
  • [26] الأنفال: 18.
  • [27] يوسف: 21.
  • [28] هود: 58.
  • [29] هود: 66.
  • [30] هود: 94.
  • [31] الصف: 14.
  • [32] الأنفال: 62.
  • [33] الأنفال: 26.
  • [34] التوبة: 40.
  • [35] آل عمران: 123.
  • [36] التوبة: 25.
  • [37] النساء: 104.
  • [38] الأنفال: 7 – 8.
  • [39] البقرة: 214.
المصدر
كتاب النصر الإلهي ومنهج التعامل مع الأعداء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى