مواضيع

أهمّ عناصر النصر

العنصر الأول: القوّة

وهي التي تملأ عيون الناس قبل كل شيء، وتوجّه أذهانهم وأفكارهم وسلوكهم، فإذا وثقنا، وآمنا بمعية الله تعالى للقلة المؤمنة، فلن تعوزها بعد ذلك قوة.

فإن ما في السماوات والأرض جند لله تعالى، يأتمر بأمره، وينتهي بنهيه، ولا يشذ عن ذلك خلق في السماء أو الأرض:

>وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا<[1].

>وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا<[2].

>وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ<[3].

فالبحار جند لله، تضطرب بأمر الله، وتسكن بأمر الله، فإذا جاء أمر الله تعالى، فلا تذر أحداً من الظالمين، واستمع إليه تعالى يحكي لنا قصة فرعون وجنده:

>وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ 39 فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ<[4].

>فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ<[5].

ولله جند من أمطار السماء وينابيع الأرض، فإذا أذِن الله لها أمطرت، وتفجرت، وتموجت الأرض بها، وأغرقت من كان فيها من الظالمين. فاستمع إليه تعالى في قصة نوح:

>كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبۡدَنَا وَقَالُواْ مَجۡنُونٌ وَٱزۡدُجِرَ 9 فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنِّی مَغۡلُوبٌ فَٱنتَصِرۡ 10 فَفَتَحۡنَآ أَبۡوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٍ مُّنۡهَمِرٍ 11 وَفَجَّرۡنَا ٱلۡأَرۡضَ عُيُونًا فَٱلۡتَقَی ٱلۡمَآءُ عَلَیٰٓ أَمۡرٍ قَدۡ قُدِرَ 12 وَحَمَلۡنَٰهُ عَلَیٰ ذَاتِ أَلۡوَٰحٍ وَدُسُرٍ 13 تَجۡرِی بِأَعۡيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ 14 وَلَقَد تَّرَكۡنَٰهَآ ءَايَةً فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٍ<[6].

ولله جنود من الريح، لا تُبقي ولا تذر، إذا أَذِن لها الله تعالى:

>كَذَّبَتۡ عَادٌ فَكَيۡفَ كَانَ عَذَابِی وَنُذُرِ 18 إِنَّآ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحًا صَرۡصَرًا فِی يَوۡمِ نَحۡسٍ مُّسۡتَمِرٍّ 19 تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمۡ أَعۡجَازُ نَخۡلٍ مُّنقَعِرٍ 20 فَكَيۡفَ كَانَ عَذَابِی وَنُذُرِ<[7].

وإن من جند الله الصيحة، وما أدراك ما الصيحة! أرسلها الله على ثمود، فجعلهم كهشيم المحتظر:

>إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَكٰانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ<[8].

وأرسلها الله تعالى على قوم شعيب، بعد أن أنجى شعيباً والذين آمنوا معه:

>وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا شُعَيۡبًا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِی دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ 94 كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاۡ فِيهَآ ۗ أَلاَ بُعۡدًا لِّمَدۡيَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُودُ<[9].

ولله جنود من الحجارة، تمطرها السماء، إذا أذِن الله تعالى لها، أهلك بها قوم لوط:

>فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ 82 مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ۖ وَمَا هِیَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ<[10].

ولله تعالى جنود من الطير، يرسلها على الظالمين متى شاء:

>أَ لَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ 1 أَ لَمۡ يَجۡعَلۡ كَيۡدَهُمۡ فِی تَضۡلِيلٍ 2 وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ 3 تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ 4 فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٍ مَّأۡكُولِۭ<[11].

ولله تعالى جنود من القمل، والضفادع، والجراد، والطوفان، يرسلها متى يشاء على الظالمين:

>فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمُ الطُّوفٰانَ وَالْجَرٰادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفٰادِعَ وَالدَّمَ آيٰاتٍ<[12].

ولله جند من الصاعقة يرسلها متى شاء، وقد أرسلها على ثمود:

>فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصّٰاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ<[13].

ولله جنود من الملائكة، لا نراها، تدخل مع الفئة القليلة في المعركة، وتدافع عنها، وتحفظها بأمر الله، كما أمر الله الملائكة في معركة بدر أن ينزلوا ساحة القتال إلى جانب المسلمين:

>إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنٰاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنٰانٍ<[14].

وما أروع هذا الإمداد الإلهي في المعركة! يرسل الملائكة مع المؤمنين، ثم ينبئهم أنه معهم، فتتلاحم هذه المعية المزدوجة في مشهد إيماني رائع، في ساحة القتال؛ معية الملائكة للمؤمنين، ومعية الله تعالى للملائكة.

وكيف تتكافأ أطراف هذه المعركة، والله والملائكة، وجند الله من الأرض والسماء مع الفئة القليلة، وليس مع الفئة الكثيرة إلا نفر ضعاف، وحفنة من مال وحفنة من الأسلحة؟!

وهذه هي القوة التي يحسب الناس لها كل حساب في المعادلات السياسية.

وهل يتصور الناس قوة أعظم من هذه القوة، وجنداً أقوى من جند الله، وسلطاناً أقوى من سلطان الله؟!

ومع ذلك؛ فإننا نُسقط في كثير من الأحيان حساب هذه القوة الكبرى في الكون من المعادلات السياسية، عندما نفكر في السياسة، ونحلل الأحداث، ونتنبأ بالمستقبل، ونحسب لمستقبل الدعوة حسابها.

العنصر الثاني: المال

مهما تكن الفئة الكثيرة غنيّة، تملك ناصية الذهب والفضة، فإن الفئة القليلة تتمتع بتأييد الله تعالى:

>وَلِلّٰهِ خَزٰائِنُ السَّمٰاوٰاتِ وَالْأَرْضِ وَلٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَفْقَهُونَ<[15].

ولقد كان المنافقون يتصورون أنهم لو حاربوا الدعاة في أرزاقهم، وقطعوا عنهم المال، تنضب الدعوة في نفوسهم، وتنقطع علاقتهم بالدعوة، وذلك في إطار تصوراتهم المادية الغبية الضحلة[16]:

>هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاٰ تُنْفِقُوا عَلىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ حَتّٰى يَنْفَضُّوا<[17].

فيردّ الله تعالى عليهم:

>وَلِلّٰهِ خَزٰائِنُ السَّمٰاوٰاتِ وَالْأَرْضِ وَلٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَفْقَهُونَ<[18].

العنصر الثالث: التسديد والتعليم والهداية

ثم ماذا تحتاج الفئة القليلة بعد القوة والمال؟ إنها تحتاج إلى التسديد والتعليم والهداية؛ لتعلم ماذا تعمل؟ وكيف تتحرك؟ وكيف تدعو الناس إلى الله تعالى؟ ومتى تختفي؟ ومتى تظهر؟ ومتى تتكلم بهمس؟ ومتى تصرخ بالحق جهاراً؟ ومتى تتجنب الموجة؟ ومتى تتصدى للموجة؟ ومتى تواجه الطغاة بعنف وقوة؟ ومتى تكلمهم برفق ولين؟ ومتى تتحمل الظلم وتصبر؟ ومتى تتصدى وتقاتل؟ وكيف تتعامل مع الناس؟ وكيف تجتذب الفارين من الله تعالى إلى الله؟ وكيف تداري الناس؟ وكيف تدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؟ وكيف تتصرف تجاه الأحداث؟ وفي ظلال الطغيان تصمد وتصبر أم تهاجر وتفر بدينها؟ ومتى تنزوي داخل البيوت؟ ومتى تخرج إلى الشارع؟ ومتى تعلن الحرب وتفجير الشارع؟ وكيف تنظم الناس؟ وكيف تستقطبهم إلى جانبها؟ وكيف تكسب الرأي العام لصالحها؟ ومتى تظهر للناس مظلومة مضطهدة؟ ومتى تظهر قويةً عزيزةً؟ وكيف تقاتل؟ وكيف تعدّ للقتال؟ وكيف تخطط للمواجهة والحرب؟ وكيف تلقي الرعب في قلوب الأعداء؟ وكيف تمكر بهم؟ وكيف تستأصلهم؟ … إلى آخر هذه التساؤلات.

ولا شك أن هذا كله علم قائم بالذات، علم الدعوة، ونور يلقيه الله في نفوس الدعاة إليه، يمشون به في الناس، ويتعاملون به مع الناس، ولا شك أن على الدعاة إلى الله تعالى أن يكتسبوا هذا العلم، ويتزودوا بتجارب من قبلهم، ولا شك أنهم في حركتهم الكبرى في التاريخ يصيبون الهدف حيناً، ويخطؤون آخر، وأن أعداء الإسلام في المقابل يفرّغون لهذه المهمة في حركتهم المعادية لله ولرسوله، أجهزة وأشخاصا ودراسات واسعة.

ولابد للقلة المؤمنة أن تتفرغ لهذا الجانب وتعطيه اهتمامها، كما لابد لها أن تولي جانب القوة والمال أيضاً اهتمامها، ولا تتركهما للصدفة…

ولكن، مما لا شك فيه، مع ذلك كله، أن الله تعالى لن يترك القلة المؤمنة لجهدها وعملها في هذا الحقل فقط، ولن تتخلّ عنهم المعية الإلهية في التسديد والتعليم، كما لم تتخلّ عنهم في ساحات القتال. والقرآن الكريم صريح في ذلك:

>وَكَفىٰ بِرَبِّكَ هٰادِياً وَنَصِيراً<[19].

>وَالَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا وَإِنَّ اللّٰهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ<[20].

وكل ما يحتاجه الداعية في حركته هو أن يشير عليه أحد بالرأي الصحيح والدلالة، ويسدده في الرأي، ثم يضم يده إلى يده، وقوته إلى قوته، ويعينه على مسؤولياته وحمل ما لا يطيق حمله. وقد ضمن الله له كلّا من هذين الأمرين: «الدلالة» و«العون»، فضمن تعالى له الدلالة بقوله: >لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا<، والعون بقوله: >وَإِنَّ اللّٰهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ<

ويرزق الله تعالى الدعاة إليه نوراً يمشون به في الناس، يعرفون كيف يتعاملون مع الناس من أعدائهم وأصدقائهم، والمتفرجين على الطرفين، وكيف يتعاملون مع القلوب، والعواطف، والعقول، في الوقت الذي يسلب تعالى هذا النور من القلوب الكافرة:

>أَ وَمَنْ كٰانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنٰاهُ وَجَعَلْنٰا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّٰاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمٰاتِ لَيْسَ بِخٰارِجٍ مِنْهٰا كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكٰافِرِينَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ<[21].

العنصر الرابع: التثبيت والثقة بالنصر

من عناصر النصر التثبيتُ والثقة بالنصر، وارتفاع الحالة المعنوية في نفوس الدعاة. وهذه الأمور من خصائص الدعاة المؤمنين بالله، والنفوس المؤمنة هي وحدها التي يمنحها الله تعالى الثقة، والطمأنينة، والسكينة، والاستقرار، والثبات.

>هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدٰادُوا إِيمٰاناً<[22].

>فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً<[23].

>ثُمَّ أَنْزَلَ اللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ<[24].

وهذه هي السكينة التي تمنح الإنسان استقرارا في النفس، وسكوناً لها من القلق والاضطراب في أحرج ساعات المحنة.

وبالإضافة إلى ذلك؛ فإن الله تعالى يمنح المؤمنين الدعاة ثباتاً على أرض المعركة، وثباتاً في الموقف، وثباتاً في الإيمان، وثباتاً في القول، وثباتاً في الدنيا، وثباتاً في الآخرة.

>يُثَبِّتُ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّٰابِتِ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَفِي الْآخِرَةِ<[25].

>يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ<[26].

وليس هذا فحسب؛ وإنما يربط القلوب أيضاً، فإن القلوب تضعف في ساعة المحنة، ويتسرب إليها الضعف إذا قست المحنة وطالت، فيتساقط فيها أكثر الناس قوة واستقامة، إلاّ المؤمنين، فإن الله تعالى يربط على قلوبهم.

>وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ<[27].

فما أروع القلوب المؤمنة في ساعات المحنة، وفي ساحات القتال، وداخل زنزانات السجون، وتحت سياط الجلادين! إنها ثابتة مطمئنةً، مرتبطةً بالله، ساكنة، مستقرةً، كأنها قُدّت من زُبر الحديد، وما قيمة الحديد تجاه صلابتهم واستقرار قلوبهم؟!

ومن أوضح الحقائق وأبسطها أنّ أصحاب هذه القلوب لا يتخطاهم النصر، مهما طالت محنتهم وتعاظمت.

وفي قبال هذه القلوب، قلوب المنافقين والكافرين والطغاة، فإنها في قمة سطوتها، واستكبارها، وتطاولها على الله ورسوله… ضعيفة، مهزوزة، مرعوبة، يساورها القلق، ولا يفارقها الخوف والاضطراب.

>سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمٰا أَشْرَكُوا بِاللّٰهِ<[28].

>وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مٰانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّٰهِ فَأَتٰاهُمُ اللّٰهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰار<[29].

ولقد حسب هؤلاء اليهود كل حساب، وحصّنوا حصونهم وفق هذه الحسابات، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، من داخل قلوبهم، فأدخل الرعب فيها، وهزمهم من حيث لم يكونوا يحتسبون.

ويصف القرآن الكريم حال هؤلاء المهزومين من المنافقين وصفاً رائعاً في حالتي الخوف والأمن:

>أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذٰا جٰاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ<[30].

تلك هي الحالة النفسية لكل من المعسكرَين؛ معسكر الدعاة إلى الله، ومعسكر أعداء الله ورسوله.

شُبهة

وليس ينبغي أن يخطر على بال أحد أن الأمر قد اختلف في عصرنا عما كان عليه في العصور السابقة، فإن الصراع بين موسى (ع)  وفرعون، وبين نوح (ع)  وقومه، وإبراهيم (ع)  وقومه، ورسول الله (ص)  وقريش واليهود… كان محفوفاً بالنصر للمؤمنين، وقد صدق الله وعده؛ حيث كانت الوسائل في الحرب والسلم متكافئة.

أما اليوم؛ وقد تسلح الطغاة بآخر ما استحدثه الإنسان من الأسلحة المدمرة والفتاكة، وانتزعوا كل شيء من أيدي المؤمنين، وفرضوا سلطانهم وقوتهم على كل جوانب الحياة، واستوعبوا كل مداخل حياة الناس، ومساربها، ومخارجها، وسلبوا عنهم كل قوة وصلاحية… فلم يبق مجال للتحرك، ولم يبق أمل في النصر.

وكيف تُرى تتحول هذه القوة العملاقة إلى أيدي المؤمنين الدعاة إلى الله؟ وكيف يتخلص المؤمنون من أخطبوط أجهزة الأمن والاستخبارات التي تضيّق عليهم الخناق، وتكاد أن تحصي عليهم أنفاسهم؟

إن أقصى قوة فرعون كانت في أن يطلب من السحرة أن يتحدّوا بسحرهم موسى (ع) ، وأن يصنع له هامان برجاً ليصعد عليه ويرى إله موسى. وإن أقصى قوة نمرود كانت في أن يصنع ناراً ليحرق فيها إبراهيم (ع) . وإن أقصى قوة أبي جهل كانت في حفنة من الأوباش يحيطون به، ويأتمرون بأمره.

وأما طغاة عصرنا، فهم يحصون على الناس أنفاسهم، ويملكون من الأسلحة الفتاكة ما لا تبقي ولا تذر، ومن الأنظمة العسكرية والأمنية والحزبية المعقدة، ما لم يكن يخطر على بال الدعاة في العصور الأولى.

جواب الشبهة

وجوابي على هذه الشبهة، وهي مع الأسف شبهة عميقة في النفوس، وإن كانت تبدو ضحلة وبسيطة… جوابي عليها شاهد من عصرنا، ودليل من كتاب الله.

أما الشاهد من عصرنا، فهو تحول القوة من طاغية إيران، ونظامه الرهيب، الذي كان يُضرب به المثل، إلى أيدي الدعاة، وانهيار الحصون والقلاع الأمنية، والعسكرية، والاقتصادية، والاستعمارية التي كانت تحميه، في أقل من سنة.

وأما الدليل من كتاب الله، وهو الأصل والأساس:

>وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلاً 76 سُنَّةَ مَن قَدۡ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحۡوِيلاً<[31].

>وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً<[32].

>وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً<[33].

فلن تتبدل سُنة الله تعالى في نصر عباده المؤمنين، وهزيمة الطغاة الجبارين، ولن تتغير هذه السُّنة، ولن تتحول، ولن يؤثر عليها مرور الزمن… إنها سُنة الله، ثابتة، مستقرة، وليست صدفة، أو خاصة من خصائص الزمان تحدث مرّة أو مرتين ثم تنقطع.

إنها سُنّة، كما أن اختلاف الفصول في السنة سُنَّة، وكما أن شروق الشمس وغروبها سُنّة، وكما أن نزول الأمطار على الأرض سُنّة، وكما أن اختلاف ألسنة الناس سُنّة.

إن سنن الله لن تتغير، ولن تتبدل، وهي جزء من حقائق هذا الكون الكبير، أودعها الله تعالى فيه إيداعاً ثابتاً.

تلك هي حقيقة النصر الإلهي للقلّة المؤمنة على وجه الأرض، وكما ترون إن المماراة في هذه الحقيقة والتشكيك فيها، مع الالتفات، مماراةٌ في كتاب الله، وتشكيك في التوحيد.

فقد توخّيت في هذا الحديث ألّا أتجاوز حدود كتاب الله الذي يتفق عليه المسلمون جميعاً، ولا يشك فيه إلا مشكوك في إيمانه. وقد رأينا أن القرآن الكريم يَعِدُ القلّة بالنصر، وعداً مؤكداً من الله، والله تعالى لا يخلف وعده، ومن أصدق من الله قيلاً:

>وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاٰ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً<[34].

ذلك وعد من الله، ثابت، مذكور في كتاب الله:

>وَعْدَ اللّٰهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّٰهِ قِيلاً<[35].

>فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّٰهِ حَقٌّ وَلاٰ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاٰ يُوقِنُونَ<[36].

وبذلك؛ فإن الإيمان بالنصر من التصديق بوعد الله، والتصديق بوعد الله من الإيمان بالله.

وهكذا نرى ببساطة: أن الإيمان بالنصر وتدخّل المشيئة الإلهية لتحويل مجرى الأحداث السياسية والعسكرية والاقتصادية لصالح الفئة القليلة من المؤمنين… جزء جوهري من عقيدتنا، وأساس من أسس إيماننا بالله تعالى، ولا نستطيع نحن بحال من الأحوال أن نفصل بين عقيدتنا والسياسة.

إن فصل العقيدة والإيمان بالله عن السياسة، وتياراتها الجارفة، ومعادلاتها المعقدة، جاء في فترة غفلة من هذه الأمة، ومع كل الأسف أن الناس استسلموا له سلوكياً ونظرياً أيضاً، وهو موضع المأساة والجرح. وكما سبق أن ذكرت: إن الجرح الذي تركه فصل الدين عن السياسة في جسم الأمة لم يكن بعمق وخطر الجرح الذي تركه فصل العقيدة عن السياسة في حياة أمتنا.

وذلك أن الفصل الثاني[37] يمتد بطبيعته إلى عمق النظرية والمفهوم والذهنية الإسلامية، بينما اقتصر عمق المأساة الأولى على حال المسلمين في ممارستهم الاجتماعية والسياسية، بفعل الظروف السياسية القاهرة، وسَلِمت لهم مع ذلك عقيدتهم وذهنيّتهم، في نطاق الطبقة الواعية من هذه الأمة.


  • [1] الفتح: 4.
  • [2] الفتح: 7.
  • [3] المدّثر: 31.
  • [4] القصص: 39 – 40.
  • [5] طه: 78.
  • [6] القمر: 9 – 15.
  • [7] القمر: 18 – 21.
  • [8] القمر: 31.
  • [9] هود: 94 – 95.
  • [10] هود: 82 – 83.
  • [11] الفيل.
  • [12] الأعراف: 133.
  • [13] الذاريات: 44.
  • [14] الأنفال: 12.
  • [15] المنافقون: 7.
  • [16] والتاريخ يعيد نفسه، فكما حوصر المسلمون اقتصاديا آنذاك، فإن الاستكبار العالمي ومن يسيطر على الاقتصاد في العالم وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، يقومون بمحاصرة كل دولة مناهضة لهم وتخالف سياستهم وتقاوم ظلمهم واستكبارهم اقتصاديا، ويفرضون عليها عقوبات اقتصادية لتجويع شعوبها وإجبارهم على الخضوع لهيمنة هذه الدول الاستكبارية، إن لم يستطيعوا غزوها عسكريا، فالجمهورية الإسلامية الإيرانية محاصرة اقتصاديا من حين انتصار الثورة الإسلامية إلى الآن، وفي كل مرة يتم تشديد الحصار وفرض العقوبات عليها، ومع ذلك وبعد أكثر من أربعين عاما ما زالت قائمة وقوية، وأصبحت دولة إقليمية وذات شأن في المنطقة. وقس على ذلك باقي البلاد والمجاميع التي ترزح تحت الحصار والعقوبات؛ مثل: سوريا، ولينان، وفلسطين لاسيما غزة… إن هؤلاء حساباتهم مادية دائما، فيتصورون أن مثل هذه الأمور سوف تُركع هذه الشعوب، ولم يفهموا إلى الآن أن هناك من يملك خزائن السماوات والأرض، وأن هناك أناسا متّصلون مباشرة مع مالك هذه الخزائن وخالقها، يلجؤون إليه، ويتوكلون عليه. (من المحقق)
  • [17] المنافقون: 7.
  • [18] المنافقون: 7.
  • [19] الفرقان: 31.
  • [20] العنكبوت: 69.
  • [21] الأنعام: 122.
  • [22] الفتح: 4.
  • [23] الفتح: 18.
  • [24] التوبة: 56.
  • [25] إبراهيم: 27.
  • [26] محمد: 7.
  • [27] الأنفال: 11.
  • [28] آل عمران: 151.
  • [29] الحشر: 2.
  • [30] الأحزاب: 19.
  • [31] الإسراء: 76 – 77.
  • [32] الأحزاب: 62؛ والفتح: 23.
  • [33] فاطر: 43.
  • [34] النور: 55.
  • [35] النساء: 122.
  • [36] الروم: 60.
  • [37] أي فصل العقيدة عن السياسة.
المصدر
كتاب النصر الإلهي ومنهج التعامل مع الأعداء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى