السياسة الاقتصادية

جدول المحتويات
– مراقبة السوق
ورد عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: «كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام بِالْكُوفَةِ عِنْدَكُمْ يَغْتَدِي كُلَّ يَوْمٍ بُكْرَةً مِنَ الْقَصْرِ، فَيَطُوفُ فِي أَسْوَاقِ الْكُوفَةِ سُوقاً سُوقاً، وَمَعَهُ الدِّرَّةُ عَلىٰ عَاتِقِهِ، وَكَانَ لَهَا طَرَفَانِ، وَكَانَتْ تُسَمَّى السَّبِيبَةَ، فَيَقِفُ عَلىٰ أَهْلِ كُلِّ سُوقٍ، فَيُنَادِي: يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، اتَّقُوا اللّٰهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا سَمِعُوا صَوْتَهُ عليه السلام أَلْقَوْا مَا بِأَيْدِيهِمْ، وَأَرْعَوْا إِلَيْهِ بِقُلُوبِهِمْ، وَسَمِعُوا بِآذَانِهِمْ، فَيَقُولُ عليه السلام: قَدِّمُوا الاسْتِخَارَةَ، وَتَبَرَّكُوا بِالسُّهُولَةِ، وَاقْتَرِبُوا مِنَ الْمُبْتَاعِينَ، وَتَزَيَّنُوا بِالْحِلْمِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْيَمِينِ، وَجَانِبُوا الْكَذِبَ، وَتَجَافَوْا عَنِ الظُّلْمِ، وَأَنْصِفُوا الْمَظْلُومِينَ، وَلَا تَقْرَبُوا الرِّبَا، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ، وَلَا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ، وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، فَيَطُوفُ عليه السلام فِي جَمِيعِ أَسْوَاقِ الْكُوفَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ، فَيَقْعُدُ لِلنَّاسِ»[1].
لابد من وجود رقابة اقتصادية صارمة للسوق في تفاصيل البيع والشراء، والمعاملات التجارية الأخرى، وفي خلاف ذلك فإنّ السوق سوف يتحول إلى مركز مؤثر للفساد الاقتصادي.
ويصف لنا الإمام الحسين (ع) حركة الإمام علي (ع) في أسواق الكوفة بشكل تفصيلي.
فقد ورد عنه (ع) عن علي بن أبي طالب (ع) أنه ركب بغلة رسول الله (ص) الشهباء بالكوفة، فأتى سوقا سوقا، فأتى طاق اللحامين، فقال بأعلى صوته: يا معشر القصابين لا تنخعوا، ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق، وإياكم والنفخ في اللحم للبيع، فإني سمعت رسول الله (ص) ينهى عن ذلك.
ثم أتى التمارين فقال: أظهروا من رديء بيعكم ما تظهرون من جيده.
ثم أتى السماكين فقال: لا تبيعون إلا طيبا وإياكم وما حلفا [طفا].
ثم أتى الكناسة فإذا فيها أنواع التجارة من نحاس ومن مائع ومن قماط ومن بائع إبر ومن صيرفي ومن حناط ومن بزاز فنادى بأعلى صوته: إن أسواقكم هذه يحضرها الأيمان، فشوبوا أيمانكم بالصدقة، وكفوا عن الحلف، فإن الله عز وجل لا يقدس من حلف باسمه كاذبا[2].
هكذا؛ ينزل الإمام (ع) بنفسه إلى السوق وبيده الدُرّة لكي يضرب بها المطففين والذين يغشون في تجارتهم. ويباشر هذا العمل الشاق يومياً بنفسه، ولا يكِله إلى غيره، ليطمئن بنفسه إلى سلامة حركة التجارة في السوق.
قال الأصبغ: قلتُ له يوماً أنا أكفيك هذا يا أمير المؤمنين، واجلس في بيتك!
فيقول له الإمام (ع): ما نصحتني يا أصبغ[3].
لقد كان المجتمع الإسلامي يومذاك، بعد ما دبّ فيه الفساد الإداري والمالي بحاجة إلى نزول أمير المؤمنين (ع) بنفسه إلى السوق؛ لأن القوانين وحدها لا تكفي ما لم يكن هناك سلطة تنفيذية تتجسّد في أرض الواقع.
ومن هنا كان الإمام (ع) يمثل هذه السلطة ويدخل في أوساط الناس ليتعلموا منه احترام النظام وتطبيق مبادئ القانون.
2- التسامح في جباية الخراج
يصف أحد الرجال – وهو من ثقیف – الذين استعملهم الإمام علي (ع) لأخذ الخراج، فيقول: اسْتَعْمَلَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (ع) عَلَى بَانِقْيَا[4] وَسَوَادٍ مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ لِي وَالنَّاسُ حُضُورٌ: انْظُرْ خَرَاجَكَ فَجِدَّ فِيهِ، وَلَا تَتْرُكْ مِنْهُ دِرْهَماً، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَتَوَجَّهَ إِلَى عَمَلِكَ فَمُرَّ بِي.
قَالَ فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ لِي إِنَّ الَّذِي سَمِعْتَهُ مِنِّي خُدْعَةٌ[5]، إِيَّاكَ أَنْ تَضْرِبَ مُسْلِماً أَوْ يَهُودِيّاً أَوْ نَصْرَانِيّاً فِي دِرْهَمِ خَرَاجٍ، أَوْ تَبِيعَ دَابَّةَ عَمَلٍ فِي دِرْهَمٍ، فَإِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمُ الْعَفْوَ[6].
وقال آخر: استعملني علي بن أبي طالب (ع) على بزرج سابور، فقال: لا تضربن رجلاً سوطاً في جباية درهم، ولا تبيعن لهم رزقاً، ولا كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا تقم رجلاً قائماً في طلب درهم.
قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إذاً أرجع إليك كما ذهبت من عندك! قال: وإن رجعت كما ذهبت، ويحك إنّما أُمرنا أن نأخذ منهم العفو – يعني الفضل[7].
3- عدم التأخير في توزيع أموال العامة
ويروي أحدهم أنه قال: شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (ع) أُتِيَ بِمَالٍ عِنْدَ الْمَسَاءِ، فَقَالَ: اقْسِمُوا هَذَا الْمَالَ.
فَقَالُوا: قَدْ أَمْسَيْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخِّرْهُ إِلَى غَدٍ. فَقَالَ لَهُمْ: تَقْبَلُونَ لِي أَنْ أَعِيشَ إِلَى غَدٍ؟!
قَالُوا: مَا ذَا بِأَيْدِينَا! قَالَ: فَلَا تُؤَخِّرُوهُ حَتَّى تَقْسِمُوهُ.
فَأُتِيَ بِشَمْعٍ، فَقَسَمُوا ذَلِكَ الْمَالَ مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِمْ[8].
4- التوزيع بالسويّة
في الكافي عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ الْأَزْدِيِّ قَالَ: أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رَهْطٌ مِنَ الشِّيعَةِ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَوْ أَخْرَجْتَ هَذِهِ الْأَمْوَالَ فَفَرَّقْتَهَا فِي هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَشْرَافِ، وَ فَضَّلْتَهُمْ عَلَيْنَا حَتَّى إِذَا اسْتَوْسَقَتِ الْأُمُورُ عُدْتَ إِلَى أَفْضَلِ مَا عَوَّدَكَ اللَّهُ مِنَ الْقَسْمِ بِالسَّوِيَّةِ وَ الْعَدْلِ فِي الرَّعِيَّةِ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): أَ تَأْمُرُونِّي! وَيْحَكُمْ أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ!! لَا وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَا سَمَرَ السَّمِيرُ، وَمَا رَأَيْتُ فِي السَّمَاءِ نَجْماً، وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ مَالِي لَسَاوَيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَإِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُهُمْ؟![9].
وهذه دروس قيادية يرسلها أمير المؤمنين (ع) عبر التاريخ إلى كل من يتصدى لموقع قيادة الجماعة المؤمنة وإدارتها، ليتعلم هذه القوة والصرامة في الحق والرحمة والتسامح مع الطبقة المستضعفة من الناس.
فيا لله! كيف اجتمعت في تلك الشخصية العجيبة هذه الأضداد من الصفات: اللين، والرحمة، والرقة، والعاطفة، من جانب. والصرامة، والقوة، والحسم، والحزم، من جانب آخر.. كلٌّ في موقعه.
- [1] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، الباب 54 من أبواب كتاب المعيشة، ج10، ص17، ح3.
- [2] نعمان بن محمد التميمي، دعائم الإسلام، ج2، ص538؛ ومحمد بن الأشعث، الجعفريات (الأشعثيات)، ص238.
- [3] نعمان بن محمد التميمي، مصدر سابق.
- [4] بَانِقْيَا: مكان قرب الكوفة.
- [5] . حتى لا يتهاون الناس في أداء الخراج، صرامة في القرار والتقنين وتسامحا في التنفيذ.
- [6] . الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 14 من أبواب زكاة الأنعام، ج9، ص132، ح6.
- [7] علي أكبر كلانترى، الجزية وأحكامها في الفقه الإسلامي، ص167 نقلا عن السنن الكبرى اللبيهقي، كتاب الجزية، باب النهي عن التشديد في جباية الخراج، ج9، ص205.
- [8] الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 40 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، ج15، ص108، ح1؛ والطوسي، الأمالي، ص404.
- [9] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، الباب 73 من أبواب الصدقة، ج7، ص281، ح3.