مواضيع

التراث الإداري في حكومة الإمام علي (ع)

استمرت حكومة أمير المؤمنين (ع) من الفترة 35 إلى 40 للهجرة، وتكون فترة حكمه قد بلغت أربع سنوات وتسعة أشهر وثلاثة أيام.

وقد مارس في هذه السنوات ألواناً من السياسة الإدارية الإصلاحية فقد جاء على أنقاض حكومة عثمان التي تخللها الكثير من الفساد السياسي والمالي بسبب ضعف الخليفة.

وقد كانت سياسة الإمام الإدارية والاقتصادية تنطلق من ثوابت لا يطيقها سواه، وأهم هذه الثوابت العدل.

فقد ورد عنه (ع): «اِعْدِلْ تَحْكُمْ»[1]، وقوله: «العَدْلُ أَفْضَلُ السّياسَتَيْنِ»[2]. فيكون العدل هو المحور الرئيسي الذي تدور حوله سياسته (ع) وحركته الإصلاحية العامة.

واليك طرفاً من التراث الإداري في سيرة الإمام علي (ع):

أولاً: السياسة الإدارية

تميزت سياسته الإدارية بعدم المداهنة مع الباطل والاقتناع بأنصاف الحلول، وقد تجلى ذلك في عزل عمال عثمان، واسترداد أموال بيت المال.

1- عزل عمال عثمان

يقول أرباب السير: لَمَّا بُويِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (ع) بَلَغَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ تَوَقَّفَ عَنْ إِظْهَارِ الْبَيْعَةِ لَهُ، وَقَالَ: إِنْ أَقَرَّنِي عَلَى الشَّامِ وَأَعْمَالِي الَّتِي وَلَّانِيهَا عُثْمَانُ بَايَعْتُهُ، فَجَاءَ الْمُغِيرَةُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ مَنْ قَدْ عَرَفْتَ، وَقَدْ وَلَّاهُ الشَّامَ مَنْ قَدْ كَانَ قَبْلَكَ، فَوَلِّهِ أَنْتَ كَيْمَا تَتَّسِقَ عُرَى الْأُمُورِ ثُمَّ اعْزِلْهُ إِنْ بَدَا لَكَ.

فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): أَ تَضْمَنُ لِي عُمُرِي يَا مُغِيرَةُ فِيمَا بَيْنَ تَوْلِيَتِهِ إِلَى خَلْعِهِ قَالَ: لَا. قَالَ: لَا يَسْأَلُنِي اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) عَنْ تَوْلِيَتِهِ عَلَى رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْلَةً سَوْدَاءَ أَبَداً: «وَمٰا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» لَكِنْ أَبْعَثُ إِلَيْهِ وَأَدْعُوهُ إِلَى مَا فِي يَدَيَّ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنْ أَجَابَ فَرَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَبَى حَاكَمْتُهُ إِلَى اللَّهِ[3].

لقد كان بإمكان الإمام (ع) أن يبقي على معاوية، ويكون معذوراً أمام التاريخ؛ لأن الظروف السياسية المحيطة به لا تسمح له بعزل هذا الوالي العنيد الذي يمتلك واحدة من أكبر الأقاليم الإسلامية وأغناها، وهي الشام، وقد هيمن عليها وعلى أهلها بشكل يتعذر عليه إزاحته.

ولكن الإمام لا يقبل بأنصاف الحلول وإنْ حققت له إنجازا سياسياً مؤقتاً، فإن مجرد الإمضاء على بقاء معاوية ولو لفترة قصيرة بمعنى إعطاء معاوية مشروعية البقاء.

2- استرداد أموال بيت المال

وكان الإنجاز الآخر هو استرداد أموال بيت المال.

فقد ورد أن الإمام (ع) خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة، فقال: «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء، وفرق في البلدان، لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق»[4].

لقد استرجع الإمام (ع) الأموال التي أخذها عثمان من بيت المال وقسمها على بني أمية، فتشكلت منهم طبقة اجتماعية ذات نفوذ واسع، فقام الإمام (ع) بهذا الإجراء الصارم، وهو يعلم أنه سوف يجر عليه الكثير من الأزمات في حكومته.

3- الالتزام بالقانون

والجانب الآخر في سياسته الإدارية هو الالتزام بالقانون اتجاه المتخلفين عن القانون مهما كان المذنب يتمتع بالحصانة العشائرية أو المالية.

تأمل في هذه الصورة الرائعة التي يرسمها لنا الإمام الباقر (ع)، عن سيرة الإمام علي (ع) في تطبيق قوانين الدولة.

فقد ورد عنه (ع): «أَخَذَ ع رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ فِي حَدٍّ، فَاجْتَمَعَ قَوْمُهُ لِيُكَلِّمُوا فِيهِ، وَطَلَبُوا إِلَى الْحَسَنِ ع أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَقَالَ ائْتُوهُ وَهُوَ أَعْلَى بِكُمْ عَيْناً. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَسَأَلُوهُ، فَقَالَ لَا تَسْأَلُونِّي شَيْئاً أَمْلِكُهُ إِلَّا أَعْطَيْتُكُمْ، فَخَرَجُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ أَنْجَحُوا، فَسَأَلَهُمُ الْحَسَنُ ع، فَقَالُوا أَتَيْنَا خَيْرَ مَأْتِيٍّ وَحَكَوْا لَهُ قَوْلَهُ، فَقَالَ مَا كُنْتُمْ فَاعِلِينَ إِذَا جُلِدَ صَاحِبُكُمْ؟ فَأَصْغَوْهُ فَأَخْرَجَهُ عَلِيٌّ ع فَحَدَّهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ لَسْتُ أَمْلِكُ»[5].

بل إنه (ع) أقام الحد على شاعره عندما شرب الخمر، وهو يعلم أن عاقبة ذلك غضب الشاعر والتحاقه بمعسكر معاوية، وانحراف أقاربه الذين كانوا من المقربين عند الإمام (ع)، الذين دخلوا على الإمام وهم في فورة الغضب والاعتراض، فقد ورد أن النَّجَاشِيَّ الشَّاعِرَ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَحَدَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَقَامَهُ فِي سَرَاوِيلَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ ثُمَّ زَادَهُ عِشْرِينَ سَوْطاً، وَقَالَ: هَذَا لِجُرْأَتِكَ عَلَى رَبِّكَ وَإِفْطَارِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَغَضِبَ وَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ طَارِقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كُنَّا نَرَى أَنَّ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ وَأَهْلَ الْفُرْقَةِ وَالْجَمَاعَةِ عِنْدَ وُلَاةِ الْعَدْلِ وَمَعَادِنِ الْفَضْلِ سِيَّانِ فِي الْجَزَاءِ حَتَّى رَأَيْتُ مَا كَانَ مِنْ صَنِيعِكَ بِأَخِي الْحَارِثِ، فَأَوْغَرْتَ صُدُورَنَا وَشَتَّتَّ أُمُورَنَا وَحَمَّلْتَنَا عَلَى الْجَادَّةِ الَّتِي كُنَّا نَرَى أَنَّ سَبِيلَ مَنْ رَكِبَهَا النَّارُ. فَقَالَ عَلِيٌّ (ع): وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ. يَا أَخَا بَنِي نَهْدٍ فَهَلْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ انْتَهَكَ حُرْمَةً مِنْ حُرَمِ اللَّهِ؟! فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدّاً كَانَ كَفَّارَتَهُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: <وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‏ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ ُ لِلتَّقْوَى>[6].

4- عزل من ثبتت خيانته من العمّال ومحاسبتهم

وهذه صورة أخرى للحَمْلة العلوية الشاملة لتطهير الدولة من العناصر من أمثال الأشعث بن قيس الذي استعمله عثمان على أذربيجان.

فقد ورد في التاريخ: أنه حضر الأشعث بن قيس وكان عثمان استعمله على أذربيجان، فأصاب مائة ألف درهم.

فبعض يقول أقطعه عثمان إياها، وبعض يقول أصابها الأشعث في عمله، فأمره علي (ع) بإحضارها، فدافعه وقال: يا أمير المؤمنين لم أصبها في عملك. قال: والله لئن أنت لم تحضرها بيت مال المسلمين لأضربنك بسيفي هذا أصاب منك ما أصاب، فأحضرها.

وأخذها منه وصيرها في بيت مال المسلمين، وتتبع عمالَ عثمان، فأخذ منهم كل ما أصابه قائما في أيديهم، وضمنهم ما أتلفوا[7].

وهذه سودة بنت عمارة الهمدانية، تصف لنا صرامة الإمام (ع) مع العمال الذين تثبتت خيانتهم؛ حيث تقول وهي تخاطب معاوية لتقارن بين ظلمه وجوره، وعدل أمير المؤمنين (ع): لَقَدْ جِئْتُهُ فِي رَجُلٍ كَانَ قَدْ وَلَّاهُ صَدَقَاتِنَا، فَجَارَ عَلَيْنَا، فَصَادَفْتُهُ قَائِماً يُصَلِّي، فَلَمَّا رَآنِي انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ بِرَحْمَةٍ وَرِفْقٍ وَرَأْفَةٍ وَتَعَطُّفٍ وَقَالَ: أَ لَكِ حَاجَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الشَّاهِدُ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ وَأَنِّي لَمْ آمُرْهُمْ بِظُلْمِ خَلْقِكَ، ثُمَّ أَخْرَجَ قِطْعَةَ جِلْدٍ فَكَتَبَ فِيهَا:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَاحْتَفِظْ بِمَا فِي يَدِكَ مِنْ عَمَلِنَا حَتَّى يَقْدُمَ عَلَيْكَ مَنْ يَقْبِضُهُ مِنْكَ وَ السَّلَامُ.

ثُمَّ دَفَعَ الرُّقْعَةَ إِلَيَّ، فَوَ اللَّهِ مَا خَتَمَهَا بطِينٍ وَلَا خَزَنَهَا، فَجِئْتُ بِالرُّقْعَةِ إِلَى صَاحِبِهِ فَانْصَرَفَ عَنَّا مَعْزُولا[8].

إنّ الملاحقة للمفسدين وعدم التهاون معهم تؤدي بلا شك إلى الحياة الطيبة التي يظلّلها العدل والقانون، وهذا الرفض العلوي للشفعاء الذين يحاولون التوسط للمذنبين يؤسس للثقافة الإدارية التي يريدها الإسلام، ولسيادة القانون وخضوع الجميع له.

فليس من العدل أن تطبق مبادئ القانون بحذافيرها على الفقراء ويستثنى منها الأغنياء وأصحاب النفوذ.

5- نهي العمال عن أخذ الهديّة

رُوي أنّ علياً استعمل رجلاً من بني أسد يقال له: ضُبَيعة بن زهير، فلما قضى عمله أتى علياً بجراب فيه مال، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنّ قوماً كانوا يهدون لي حتى اجتمع منه مال، فها هو ذا، فإن كان لي حلالاً أكلتُه، وإن كان غير ذاك فقد أتيتك به، فقال عليّ: لو أمسكته لكان غُلُولاً. فقبضه منه وجعله في بيت المال[9].

ومعنى الغُلول: الخيانة.

والإمام (ع) يريد بهذه الإجراءات الشديدة أن يحصّن الموظفين في دولته من خطر الهدايا، فإنها مقدمة للانحراف والفساد.

لأنّ الغنيّ وصاحب النفوذ وحده من يستطيع تقديم الهدايا وإقامة الولائم للمسؤولين، وكان الأولى أن تكون من نصيب الفقراء، ولكنهم يريدون بذلك شراء ضمائر الموظفين واستغلال مواقعهم في الدولة.

6- اختيار العيون لمراقبة العمال

ورد في كتاب أمير المؤمنين (ع) إلى كعب بن مالك: «أما بعد، فاستخلف على عملك، واخرج في طائفة من أصحابك حتى تمر بأرض كورة السواد، فتسأل عن عمالي، وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب»[10].

هكذا كان يتابع عمّاله وولاته حتى يشعروا بعيونه تراقبهم في المواقع التي يديرونها.

فإن الرقابة المستمرة بلا شك تمنع من التحلل والفساد الإداري والمالي.


  • [1] المحدث النوري، مستدرك الوسائل، الباب 37 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ج11، ص319، ح8.
  • [2] عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، حكمة: 7732، ص339.
  • [3] الطوسي، الأمالي، ص87.
  • [4] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص269.
  • [5] محمد بن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب؟ع؟، ج2، ص148؛ ونعمان بن محمد التميمي، دعائم الإسلام، ج2، ص443، رقم: 1547؛ ومحمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج76، ص98، ح8؛ والمحدث النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة، ج18، ص24، ح2.
  • [6] محمد بن شهر آشوب، مصدر سابق، ج2، ص147؛ وابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج4،ص89 – 90؛ وإبراهيم بن محمد الثقفي، الغارات، ج2، ص369؛ ومحمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج23، ص272 – 273.
  • [7] نعمان بن محمد التميمي، دعائم الإسلام، ج1، ص396.
  • [8] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج41، ص119؛ وعلي بن عيسى الإربلي، كشف الغمة، ج1، ص173؛ وأحمد بن طيفور، بلاغات النساء، ص48.
  • [9] وكيع محمد بن خلف، أخبار القضاة، ج1، ص59.
  • [10] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص204.
المصدر
كتاب الثقافة القيادية والإدارية في القرآن والسنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى