مواضيع

السياسة العسكرية

خاض أمير المؤمنين (ع) في فترة حكومته ثلاثة حروب رئيسية هي الجمل، وصفين، والنهروان. وقد حقق فيها انتصارات عظيمة، ولولا تخاذل جيشه في صفين لتمكن من اكتساح جيش الشام والقضاء على نفوذ معاوية.

هذه الانتصارات لم تأت من فراغ؛ بل من الإدارة الحكيمة للجيش وللعمليات القتالية، ومن خلال التنظيم الدقيق للقوات المسلحة. يقول ابن عباس: عَقِمَ [عَقِمَتِ‏] النِّسَاءُ أَنْ يَأْتِينَ بِمِثْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ع مَا كَشَفَتِ النِّسَاءُ ذُيُولَهُنَّ عَنْ مِثْلِهِ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فَارِساً مُحْدَثاً يُوزَنُ بِهِ لَرَأَيْتُهُ يَوْماً وَنَحْنُ مَعَهُ بِصِفِّينَ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَكَأَنَّ عَيْنَيْهِ سِرَاجَا سَلِيطٍ يَتَوَقَّدَانِ مِنْ تَحْتِهِمَا يَقِفُ عَلَى شِرْذِمَةٍ شِرْذِمَةٍ يَحُضُّهُم..[1].

وقد تجلت عبقرية الإمام (ع) الإدارية لقواته المسلحة بعدة أمور:

1- تنظيم الجيش

روي أن أمير المؤمنين (ع) إذا زحف للقتال جعل ميمنة وميسرة وقلباً يكون هو فيه، ويجعل لها روابط، ويقدم عليها مقدمين، ويأمرهم بخفض الأصوات، والدعاء، واجتماع القلوب، وشهر السيوف، وإظهار العدة، ولزوم كل قوم مكانهم، ورجوع كل من حمل إلى مصافه بعد الحملة.

وفي وصيته (ع) وصّى بها جيشاً بعثه إلى العدو: فَإِذَا نَزَلْتُمْ بِعَدُوٍّ أَوْ نَزَلَ بِكُمْ فَلْيَكُنْ مُعَسْكَرُكُمْ فِي قُبُلِ الْأَشْرَافِ[2] أَوْ سِفَاحِ الْجِبَالِ أَوْ أَثْنَاءِ الْأَنْهَارِ كَيْمَا يَكُونَ لَكُمْ رِدْءاً وَدُونَكُمْ مَرَدّاً، وَلْتَكُنْ مُقَاتَلَتُكُمْ مِنْ وَجْهٍ أَوِ اثْنَيْنِ.

وَاجْعَلُوا لَكُمْ رُقَبَاءَ فِي صَيَاصِي الْجِبَالِ وَمَنَاكِبِ الْهِضَابِ؛ لِئَلَّا يَأْتِيَكُمُ الْعَدُوُّ مِنْ مَكَانِ مَخَافَةٍ أَوْ أَمْنٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّ مُقَدِّمَةَ الْقَوْمِ عُيُونُهُمْ وَعُيُونَ الْمُقَدِّمَةِ طَلَائِعُهُمْ‌.

وَإِيَّاكُمْ وَالتَّفَرُّقَ، فَإِذَا نَزَلْتُمْ فَانْزِلُوا جَمِيعاً، وَإِذَا ارْتَحَلْتُمْ فَارْتَحِلُوا جَمِيعاً، وَإِذَا غَشِيَكُمُ اللَّيْلُ فَاجْعَلُوا الرِّمَاحَ كِفَّةً وَلَا تَذُوقُوا النَّوْمَ إِلَّا غِرَاراً أَوْ مَضْمَضَةً‌[3].

هذه الوصية تذكرنا بقيادة الرسول (ص) لجيشه في معركة أُحُد، وكيف أنه وضع العيون على الجبل، وكانت تقود المسلمين إلى النصر الأكيد لولا مخالفة الرماة تعاليمه (ص).

2- تأسيس القوات الخاصة

وقد قام أمير المؤمنين (ع) بتأسيس شرطة الخميس، وكان قوامها ستة آلاف رجل من أصحابه المخلصين، وقد ضمت في كيانها أسماء لامعة مثل عمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله الأنصاري، عمرو بن الحمق الخزاعي، واصبغ بن نباته، وميثم التمار، ورشيد الهجري، وحبيب بن مظاهر الأسدي، ومحمد بن أبي بكر، وقنبر مولاه وغيرهم من أصفياء أصحابه[4].

ويبدو أن هذه القوة الخاصة ادخرها الإمام (ع) للتدخل في المهمات الخاصة التي تتطلب مواصفات خاصة في شخصية المقاتل.

وعَنْ أَبِي الْجَارُودِ، قَالَ قُلْتُ لِلْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ مَا كَانَ مَنْزِلَةُ هَذَا الرَّجُلِ – يعني عليا (ع) – فِيكُمْ؟ قَالَ مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ إِلَّا أَنَّ سُيُوفَنَا كَانَتْ عَلَى عَوَاتِقِنَا، فَمَنْ أَوْمَى إِلَيْهِ ضَرَبْنَاهُ بِهَا.

وَكَانَ يَقُولُ لَنَا تَشَرَّطُوا فَوَ اللَّهِ مَا اشْتِرَاطُكُمْ لِذَهَبٍ وَلَا لِفِضَّةٍ، وَمَا اشْتِرَاطُكُمْ إِلَّا لِلْمَوْتِ، إِنَّ قَوْماً مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَشَارَطُوا بَيْنَهُمْ، فَمَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَانَ نَبِيَّ قَوْمِهِ أَوْ نَبِيَّ قَرْيَتِهِ أَوْ نَبِيَّ نَفْسِهِ، وَإِنَّكُمْ لَبِمَنْزِلَتِهِمْ غَيْرَ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ بِأَنْبِيَاءَ[5].

ومن هذا الوصف يتضح أنّ السمة الأساسية التي تميزت بها هذه القوة الضاربة هي الطاعة الكاملة لأوامر الإمام (ع)، والخضوع الكامل لإرادته (ع) خضوع الذي لا يناقش ولا يحتج ولا يعترض، فإن الأسماء التي ضمها كيان شرطة الخميس بلغت في مستوى الإخلاص والانقياد لأوامر الإمام (ع) ما جعل أصحابها مؤهلين تأهيلاً تاماً لهذه المهمة الخاصة.

فقد رُوي عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى الْحَضْرَمِيِّ يَوْمَ الْجَمَلِ: أَبْشِرْ يَا ابْنِ يَحْيَى فَأَنْتَ وَأَبُوكَ مِنْ شُرْطَةِ الْخَمِيسِ حَقّاً، لَقَدْ أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ (ص) بِاسْمِكَ وَاسْمِ أَبِيكَ فِي شُرْطَةِ الْخَمِيسِ، وَاللَّهُ سَمَّاكُمْ شُرْطَةَ الْخَمِيسِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ (ع). وَذَكَرَ أَنَّ شُرْطَةَ الْخَمِيسِ كَانُوا سِتَّةَ آلَافِ رَجُلٍ أَوْ خَمْسَةَ آلَافٍ[6].

3- الحرب خدعة

عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَكَانَ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع فِي حُرُوبِهِ: أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) قَالَ فِي يَوْمَ الْتَقَى هُوَ وَمُعَاوِيَةُ بِصِفِّينَ وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ لِيُسْمِعَ أَصْحَابَهُ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُ، ثُمَّ يَقُولُ فِي آخِرِ قَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، يَخْفِضُ بِهَا صَوْتَهُ.

وَكُنْتُ قَرِيباً، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ حَلَفْتَ عَلَى مَا قُلْتَ ثُمَّ اسْتَثْنَيْتَ، فَمَا أَرَدْتَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ لِي: إِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ، وَأَنَا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ كَذُوبٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُحَرِّضَ أَصْحَابِي عَلَيْهِمْ لِكَيْ لَا يَفْشَلُوا، وَ لِكَيْ يَطْمَعُوا فِيهِمْ، فَأَفْقَهُهُمْ‌ يَنْتَفِعُ بِهَا بَعْدَ الْيَوْمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ[7].

4- المسالمة من دون وهن

 قال أمير المؤمنين (ع): وجدتُ المسالمة ما لم يكن وهن في الإسلام أنجع من القتال[8].

وعنه (ع): من أفضل النصح الإشارة بالصلح[9].

وفي عهده إلى مالك الأشتر: وَلَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَ أَمْناً لِبِلَادِكَ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ[10].


  • [1] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج32، ص601؛ وعماد الدين الطبري، بشارة المصطفى، ص141.
  • [2] . قُبُلِ الْأَشْرَافِ: المرتفع من التلال.
  • [3] نهج البلاغة، الكتاب: 11، من وصية له عليه السلام وصى بها جيشا بعثه إلى العدو، ص317.
  • [4] المفيد، الاختصاص، ص2 – 4.
  • [5] الكشي، رجال الكشي، ص5.
  • [6] المصدر نفسه، ص6.
  • [7] الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 36 من أبواب كتاب الأيمان، ج23، ص273، ح1.
  • [8] عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم، حكمة: 10177، ص445.
  • [9] المصدر نفسه، الحكمة 4554، ص225.
  • [10] نهج البلاغة، الكتاب: 53، من عهد له عليه السلام كتبه للأشتر النخعي رحمه الله لما ولاه على مصر وأعمالها، ص380.
المصدر
كتاب الثقافة القيادية والإدارية في القرآن والسنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى