مواضيع

كتاب الإمام الصادق (ع) إلى عبد الله النجاشي

قصة الكتاب

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ النَّوْفَلِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ (ع)، فَإِذَا بِمَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ النَّجَاشِيِّ قَدْ وَرَدَ عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ وَأَوْصَلَ إِلَيْهِ كِتَابَهُ، فَفَضَّهُ وَقَرَأَهُ وَإِذَا أَوَّلُ سَطْرٍ فِيهِ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

.. إِلَى أَنْ قَالَ إِنِّي بُلِيتُ بِوِلَايَةِ الْأَهْوَازِ، فَإِنْ رَأَى سَيِّدِي وَمَوْلَايَ أَنْ يَحُدَّ لِيَ حَدّاً أَوْ يُمَثِّلَ لِي مِثَالًا لِأَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى مَا يُقَرِّبُنِي إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَيُلَخِّصَ لِي فِي كِتَابِهِ مَا يَرَى لِيَ الْعَمَلَ بِهِ، وَ فِيمَا أَبْتَذِلُهُ؟ وَأَيْنَ أَضَعُ زَكَاتِي؟ وَفِيمَنْ أَصْرِفُهَا؟ وَبِمَنْ آنَسُ؟ وَإِلَى مَنْ أَسْتَرِيحُ؟ وَ بِمَنْ أَثِقُ وَآمَنُ وَأَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي سِرِّي؟ فَعَسَى أَنْ يُخَلِّصَنِي اللَّهُ بِهِدَايَتِكَ، فَإِنَّكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَمِينُهُ فِي بِلَادِهِ، لَا زَالَتْ نِعْمَتُهُ عَلَيْكَ

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ فَأَجَابَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع):

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حَاطَكَ اللَّهُ بِصُنْعِهِ، وَلَطَفَ بِكَ بِمَنِّهِ، وَكَلَأَكَ بِرِعَايَتِهِ، فَإِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ. أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَاءَنِي رَسُولُكَ بِكِتَابِكَ، فَقَرَأْتُهُ وَفَهِمْتُ جَمِيعَ مَا ذَكَرْتَ وَسَأَلْتَهُ عَنْهُ، وَ زَعَمْتَ أَنَّكَ بُلِيتَ بِوِلَايَةِ الْأَهْوَازِ، فَسَرَّنِي ذَلِكَ وَسَاءَنِي، وَسَأُخْبِرُكَ بِمَا سَاءَنِي مِنْ ذَلِكَ، وَمَا سَرَّنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

فَأَمَّا سُرُورِي‌ بِوِلَايَتِكَ، فَقُلْتُ عَسَى أَنْ يُغِيثَ اللَّهُ بِكَ مَلْهُوفاً خَائِفاً مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (ص)، وَيُعِزَّ بِكَ ذَلِيلَهُمْ، وَيَكْسُوَ بِكَ عَارِيَهُمْ، وَيُقَوِّيَ بِكَ ضَعِيفَهُمْ، وَيُطْفِئَ بِكَ نَارَ الْمُخَالِفِينَ عَنْهُمْ.

وَأَمَّا الَّذِي سَاءَنِي مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَدْنَى مَا أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْثُرَ بِوَلِيٍّ لَنَا، فَلَا تَشَمَّ حَظِيرَةَ الْقُدْسِ، فَإِنِّي مُلَخِّصٌ لَكَ جَمِيعَ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ، إِنْ أَنْتَ عَمِلْتَ بِهِ وَلَمْ تُجَاوِزْهُ. رَجَوْتُ أَنْ تَسْلَمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

أَخْبَرَنِي – يَا عَبْدَ اللَّهِ – أَبِي عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع)، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (ص) أَنَّهُ قَالَ: مَنِ اسْتَشَارَهُ أَخُوهُ الْمُؤْمِنُ، فَلَمْ يَمْحَضْهُ النَّصِيحَةَ، سَلَبَهُ اللَّهُ لُبَّهُ. وَاعْلَمْ أَنِّي سَأُشِيرُ عَلَيْكَ بِرَأْيٍ إِنْ أَنْتَ عَمِلْتَ بِهِ تَخَلَّصْتَ مِمَّا أَنْتَ مُتَخَوِّفُهُ[1].

ثم يكتب إليه الإمام الصادق (ع) مجموعة من الدروس في هذا السياق:

الدرس الأول

قوله (ع): «فَأَمَّا سُرُورِي‌ بِوِلَايَتِكَ، فَقُلْتُ عَسَى أَنْ يُغِيثَ اللَّهُ بِكَ مَلْهُوفاً خَائِفاً مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (ص)، وَيُعِزَّ بِكَ ذَلِيلَهُمْ، وَيَكْسُوَ بِكَ عَارِيَهُمْ، وَيُقَوِّيَ بِكَ ضَعِيفَهُمْ، وَيُطْفِئَ بِكَ نَارَ الْمُخَالِفِينَ عَنْهُمْ».

إن مواقع المسؤولية في أجهزة الدولة ذات حدين؛ فقد يتولاها أناس صالحون، أصحاب دين وورع وتقوى، فيوظفون هذه المواقع في خدمة الصالحين الهادين المستضعفين من الناس، ودفع الأذى والسوء عن المضطهدين من شيعة آل محمد (ص) الذين كانت السلطات الظالمة تلاحقهم خلف كل حجر ومدر. وقد تكون هذه المواقع بيد أناس ظالمين مستكبرين، يستضعفون المؤمنين الصالحين، ويزيدون في عذابهم وحرمانهم، ويضيّقون عليهم كما كانوا يصنعون في أيام بني أمية وبني العباس.

فإذا تولى هذه المواقع صالح يخدم الناس، كان في ذلك رضى الله تعالى ورسوله وأوليائه، وإذا كان خلاف ذلك كان في ذلك عذاب المؤمنين واضطهادهم وظلم الطبقة الفقيرة (العامة) من الناس.

ومواقع المسؤولية لا تبقى فارغة شاغرة، فإذا تولاها الصالحون كانت في خدمة الصالحين وجمهور الناس، وإذا زهد فيها الصالحون تولاها غير الصالحين لا محالة.

والنصوص الواردة في حظر التعامل مع الظالمين تخص الموارد التي يكون فيها دعم لقيادة الظالمين؛ لا إسناد ودعم للمظلومين.

وقد استأذن علي بن يقطين الذي كان من خواص الإمام الكاظم (ع) – وكان قد احتل موقعاً سياسياً هاماً في حكومة هارون العباسي – استأذنه في ترك الموقع والانسحاب منه، فلم يأذن له الإمام (ع)، وقال: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ لَنَا بِكَ أُنْساً، وَلِإِخْوَانِكَ بِكَ عِزّاً، وَعَسَى أَنْ يَجْبُرَ اللَّهُ بِكَ كَسْراً، وَيَكْسِرَ بِكَ نَائِرَةَ الْمُخَالِفِينَ عَنْ أَوْلِيَائِهِ.

يَا عَلِيُّ! كَفَّارَةُ أَعْمَالِكُمُ الْإِحْسَانُ إِلَى إِخْوَانِكُمْ؛ اضْمَنْ لِي وَاحِدَةً، وَأَضْمَنُ لَكَ ثَلَاثاً: اضْمَنْ لِي أَنْ لَا تَلْقَى أَحَداً مِنْ أَوْلِيَائِكَ إِلَّا قَضَيْتَ حَاجَتَهُ وَأَكْرَمْتَهُ، وَأَضْمَنُ لَكَ أَنْ لَا يُظِلَّكَ سَقْفُ سِجْنٍ أَبَداً، وَلَا يَنَالَكَ حَدُّ سَيْفٍ أَبَداً، وَلَا يَدْخُلَ الْفَقْرُ بَيْتَكَ أَبَداً. يَا عَلِيُّ مَنْ سَرَّ مُؤْمِناً فَبِاللَّهِ بَدَأَ، وَ بِالنَّبِيِّ (ص) ثَنَّى، وَ بِنَا ثَلَّثَ[2].

الدرس الثاني

قوله (ع): «اعْلَمْ أَنَّ خَلَاصَكَ مِمَّا بِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ، وَكَفِّ الْأَذَى عَنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ، وَالتَّأَنِّي، وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، مَعَ لِينٍ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ، وَشِدَّةٍ فِي غَيْرِ عُنْفٍ، وَمُدَارَاةِ صَاحِبِكَ»[3].

إن أكثر ما يخافه الصالحون الذين يبتليهم الله تعالى بمثل هذه المواقع أن يقعوا في دماء المسلمين في مواقع الغضب والقدرة، وهو أمر يفسد على الإنسان دنياه وآخرته بالكامل.

وفي هذا الكلام يبين الإمام سبيل الخلاص من هذه البلوى، وهو (العدل) و(التقوى والإحسان).

والعدل والتقوى هو كف الأذى عن أولياء الله.

والإحسان هو الرفق بالرعية وحسن المعاشرة مع لين، ولكن في غير ضعف.

ومن شأن العدل والتقوى والإحسان أن يمكّن صاحبه من أن يحفظ نفسه عن السقوط فيما حرّمه الله.

ولا يتوهم أحد أن اللين بمعنى الضعف، وأن الشدة بمعنى العنف.. وعلى المسؤول أن يتحلّى باللين، ولكن في غير ضعف، فإن اللين والحلم والصبر زينة المسلمين؛ ما لم يؤدّ به إلى الضعف، والشدة في مواضع الشدة هيبة الحاكم؛ ما لم تؤدّ به إلى العنف، «وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، مَعَ لِينٍ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ، وَشِدَّةٍ فِي غَيْرِ عُنْفٍ».

ولا يتوهم أحد أنّ أخلاق الإدارة تعني الضعف؛ بل يكون ليناً إذا كان الموقف يستدعي العطف والرحمة، ويكون شديداً صارماً إذا تطلب الأمر ذلك، وهذه الشدة لا تعني العنف أبداً.

والإمام (ع) هنا يضع حداً واضحاً بين مفهوم (الشدة) ومفهوم (العنف)؛ فإن مفهوم الشدة يعني عدم التساهل مع الأخطاء والتقصيرات الخطيرة التي يحوّل تكرارها الحياة إلى فوضى، كما أن الإنسان المهمل إذا لم يجد الشدة التي تسبب له اليقظة والانتباه من غفلته، فإنه سوف يستغرق في إهماله، فتضيع المسؤولية المكلف بها.

الدرس الثالث

قوله (ع): «وَإِيَّاكَ وَالسُّعَاةَ وَأَهْلَ النَّمَائِمِ، فَلَا يَلْتَزِقَنَّ بِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَا يَرَاكَ اللَّهُ يَوْماً وَلَيْلَةً وَأَنْتَ تَقْبَلُ مِنْهُمْ صَرْفاً وَلَا عَدْلًا، فَيَسْخَطَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَيَهْتِكَ سِتْرَكَ»[4].

إن بطانة الحاكم يجب أن تكون بطانة صالحة، وعليه أن يحذر من بطانة السوء، فإن بطانة السوء يقرّبون إليه البعيد، ويبعدون منه القريب، ويُرُونه الحق باطلاً والباطل حقاً، ويكرّهون إليه العدل والحق، ويحببون إليه الباطل والظلم.. والحاكم لا يملك في كثير من الأحوال إلاّ أن يأخذ أخبار ما يحيط به من البطانة التي تلتزق به، ولا يتمكن أن يمدّ قنوات الاستصلاح والأخبار إلى المجتمع مباشرة، إلاّ من خلال بطانته.. فإذا كانت البطانة بطانة سوء أفسدوا رأيه في الناس وفي المجتمع لا محالة.

ولما كانت البطانة للحاكم ضرورة، في أغلب الأحيان، فعليه أن يسعى كل جهده لتقريب الصالحين، وإبعاد الفاسدين المتملقين، أصحاب السعاية والوقيعة في الآخرين، من نفسه، حتى يسلم له رأيه ونظره فيما حوله من المسائل التي تهمه.

وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (ع) فيما ينصح به عامله الأشتر رضوان الله عليه: «وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ»[5]، «ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وًالْأَحْسَابِ»[6].

إن على الحاكم أن يختار بطانته اختياراً، ولا ينزلق إليهم انزلاقاً عاطفياً؛ كما يفعل الحكام الضعفاء الفاسدون.

الدرس الرابع

قوله (ع): «وَإِيَّاكَ أَنْ تُعْطِيَ دِرْهَماً أَوْ تَخْلَعَ ثَوْباً أَوْ تَحْمِلَ عَلَى دَابَّةٍ فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ لِشَاعِرٍ أَوْ مُضْحِكٍ أَوْ مُمْتَزِحٍ إِلَّا أَعْطَيْتَ مِثْلَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ».

ثم يحذّر الإمام الصادق (ع) عبد الله النجاشي (ره)، والي الأهواز، من أن يتسلل إلى بطانته الشعراء والماجنون والمضحكون الذين يتقربون إلى الحكام بالمدح الكاذب من الشعر، وبالمجون والخلاعة والتملق والطرب والكذب والإطراء الكاذب.

وقد اتخذ الخلفاء في مختلف عصورهم هذه الطبقة ندماء لهم في مجالسهم، وكانوا يغدقون عليها العطاء بلا حدود، فكان الشاعر يتملق إلى الخليفة بقصيدة من الشعر والمديح الكاذب، فينال بذلك الأموال الطائلة من بيت مال المسلمين.

وكان لكبار المغنين منزلة رفيعة في الدولة كإبراهيم الموصلي..وكانت جوائزهم من الخلفاء تفوق الحصر. ذكروا عن إبراهيم المذكور أنه غنّى للأمين[7] بشعر أبي نواس[8]:

رَشَأٌ لَولَا مَلَاحَتُهُ خَلَتِ الدُّنيَا مِنَ الفِتَنِ[9]

فاستخفه الطرب حتى وثب من مجلسه وركب إبراهيم، وجعل يقبّل رأسه! فنهض إبراهيم وأخذ يقبل أخمص قدمي الأمين وما وطئتا من البساط فأمر له بمبلغ كبير من المال.

وكانوا يعقدون مجالس للأدب والشعر، ونوادٍ للطرب ومجالس لأخبار العرب وقصصهم في جاهليتهم، مما لا ينفع في دين ولا دنيا، فاختص بكل خليفة جماعة ممن عاصروه من أصحاب الأخبار والشعر مثل عبد الملك الأصمعي الذي لازم هارون العباسي، فكانوا يجالسونهم ويطلبونهم إذا أصابهم قلق أو أرق.

وإلى جانب هذه القصور الصاخبة بالمجون والفسوق والطرب والإسراف والإفساد كان يعيش الفقراء بهموهم وآلامهم وفقرهم. والخليفة يعيش مع الماجنين والساقطين المتملقين من الشعراء بمنأى عنهم، يمنح أموالهم التي خصهم الله تعالى بها من بيت المال هذه الطبقة الساقطة من المجتمع.

«وَلَا تَسْتَصْغِرَنَّ، مِنْ حُلْوٍ وَ لَا مِنْ فَضْلِ طَعَامٍ، تَصْرِفُهُ فِي بُطُونٍ خَالِيَةٍ، تُسَكِّنُ بِهَا غَضَبَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى»[10].

إن تفقّد هذه الطبقة والاهتمام بحاجاتها والسؤال عنها وقضاء حاجاتها، مسكن لغضب الله تعالى، ومُنزل رحمته وفضله، وبخلاف ذلك يغضب الله تعالى على قوم يجفون هذه الطبقة البائسة المحرومة، ويقربون إليهم أصحاب المجون والخلاعة والساقطين من الشعراء المتملقين الذين يتبارون في المديح الكاذب والمجون، ومدح الحكام وأصحاب المال والسلطان.

الدرس الخامس

قوله (ع): «وَقَدْ وَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِمَكَارِمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَنِ الصَّادِقِ الْمُصَدَّقِ رَسُولِ اللَّهِ ص، فَإِنْ أَنْتَ عَمِلْتَ بِمَا نَصَحْتُ لَكَ فِي كِتَابِي هَذَا، ثُمَّ كَانَتْ عَلَيْكَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمِثْلِ أَوْزَانِ الْجِبَالِ وَأَمْوَاجِ الْبِحَارِ، رَجَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَتَجَافَى عَنْكَ جَلَّ وَعَزَّ بِقُدْرَتِه»[11].

ثم يشرع الإمام الصادق (ع) بذكر مكارم الأخلاق في القيادة والإدارة الصالحة، فيقول (ع): «يَا عَبْدَ اللَّهِ إِيَّاكَ أَنْ تُخِيفَ مُؤْمِناً، فَإِنَّ أَبِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ حَدَّثَنِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع)، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ نَظَرَ إِلَى مُؤْمِنٍ نَظْرَةً لِيُخِيفَهُ بِهَا أَخَافَهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلِّ إِلَّا ظِلُّهُ، وَحَشَرَهُ فِي صُورَةِ الذَّرِّ لَحْمَهُ وَجَسَدَهُ وَجَمِيعَ أَعْضَائِهِ حَتَّى يُورِدَهُ مَوْرِدَهُ.

وَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ (ع)، عَنِ النَّبِيِّ (ص)، قَالَ: مَنْ أَغَاثَ لَهْفَاناً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَغَاثَهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، وَآمَنَهُ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَآمَنَهُ مِنْ سُوءِ الْمُنْقَلَبِ. وَمَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ حَاجَةً، قَضَى اللَّهُ لَهُ حَوَائِجَ كَثِيرَةً مِنْ إِحْدَاهَا الْجَنَّةُ. وَمَنْ كَسَا أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عُرْيٍ، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ سُنْدُسِ الْجَنَّةِ وَإِسْتَبْرَقِهَا وَحَرِيرِهَا، وَلَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي رِضْوَانِ اللَّهِ مَا دَامَ عَلَى الْمَكْسُوِّ مِنْهُ سِلْكٌ وَمَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ مِنْ جُوعٍ، أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ طَيِّبَاتِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ سَقَاهُ مِنْ ظَمَإٍ، سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ رَيَّهُ. وَمَنْ أَخْدَمَ أَخَاهُ، أَخْدَمَهُ اللَّهُ مِنَ الْوِلْدَانِ الْمُخَلَّدِينَ، وَأَسْكَنَهُ مَعَ أَوْلِيَائِهِ الطَّاهِرِينَ».

إلى أن يقول (ع): «يَا عَبْدَ اللَّهِ وَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ (ع)، عَنِ النَّبِيِّ (ص)، أَنَّهُ قَالَ: أَدْنَى الْكُفْرِ أَنْ يَسْمَعَ الرَّجُلُ مِنْ أَخِيهِ الْكَلِمَةَ فَيَحْفَظَهَا عَلَيْهِ يُرِيدُ أَنْ يَفْضَحَهُ بِهَا >أُولٰئِكَ لٰا خَلٰاقَ لَهُمْ<.

يَا عَبْدَ اللَّهِ وَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ (ع)، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا رَأَتْ عَيْنَاهُ، وَسَمِعَتْ أُذُنَاهُ مَا يَشِينُهُ وَ يَهْدِمُ مُرُوءَتَهُ، فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ >إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ<.

يَا عَبْدَ اللَّهِ وَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ (ع)، قَالَ: مَنْ رَوَى عَنْ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ رِوَايَةً يُرِيدُ بِهَا هَدْمَ مُرُوءَتِهِ وَثَلْبَهُ، أَوْبَقَهُ اللَّهُ بِخَطِيئَتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَخْرَجٍ مِمَّا قَالَ، وَلَنْ يَأْتِيَ بِالْمَخْرَجِ مِنْهُ أَبَداً. وَمَنْ أَدْخَلَ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ سُرُوراً، فَقَدْ أَدْخَلَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ سُرُوراً، وَمَنْ أَدْخَلَ عَلَى‌ أَهْلِ الْبَيْتِ سُرُوراً، فَقَدْ أَدْخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص) سُرُوراً، وَمَنْ أَدْخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص) سُرُوراً، فَقَدْ سَرَّ اللَّهَ، وَمَنْ سَرَّ اللَّهَ، فَحَقِيقٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ جَنَّتَهُ.

ثُمَّ إِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، فَإِنَّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِحَبْلِ اللَّهِ، فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُؤْثِرْ أَحَداً عَلَى رِضَاهُ وَهَوَاهُ، فَإِنَّهُ وَصِيَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ، لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرَهَا، وَلَا يُعَظِّمُ سِوَاهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَلَائِقَ لَمْ يُوَكَّلُوا بِشَيْ‌ءٍ أَعْظَمَ مِنَ التَّقْوَى، فَإِنَّهُ وَصِيَّتُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تَنَالَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئاً تُسْأَلُ عَنْهُ غَداً، فَافْعَلْ.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ: فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ الصَّادِقِ ع إِلَى النَّجَاشِيِّ، نَظَرَ فِيهِ وَقَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَوْلَايَ، فَمَا عَمِلَ أَحَدٌ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ إِلَّا نَجَا. فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ اللَّهِ يَعْمَلُ بِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ)[12].


  • [1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 49 من أبواب ما يتكسب به، ج17، ص207، ح1.
  • [2] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج72، ص379.
  • [3] الحر العاملي، مصدر سابق، ص208.
  • [4] المصدر نفسه.
  • [5] نهج اليلاغة، الخطبة 53، من عهد له عليه السلام كتبه للأشتر النخعي رحمه الله لما ولاه على مصر وأعمالها، ص370.
  • [6] المصدر نفسه، ص372.
  • [7] هو الخليفة العباسي السادس؛ محمد بن هارون. و يُكنى: أبو موسى، و يقال: أبو عبد الله. ولد برصافة بغداد سنة إحدى وسبعين ومائة. أمه أم جعفر، واسمها: زبيدة بنت جعفر الأكبر بن المنصور. كان الأمين مسرفا في اللهو والإنفاق، وشاربا للخمر ومحبا للمجون والغناء، يُذكر أنه لما استلم الأمين الخلافة، ابتاع الخصيان، وغالى بهم وصيّرهم لخلوته، ورفض النّساء و الجواري، ووجّه إلى البلدان في طلب الملهين، وأجرى لهم الأرزاق، واقتنى الوحوش والسباع والطيور، واحتجب عن أهل بيته وامرأته، ومحق ما في بيوت الأموال، وضيّع الجواهر والنفائس، وبنى عدّة قصور للهو في أماكن، وعمل خمس حرّاقات على خِلقة الأسد والفيل والعقاب والحيّة والفرس، وأنفق في عملها أموالا طائلة. وكان إبراهيم الموصلي وأبو نواس من المقرّبين إليه. يُروى أنه خرج ذات ليلة يطوف في قصره؛ إذ نظر بعض الجواري التي له تطوف في القصر وهي سكرى، وقد سقط الرداء عن منكبيها وانكشف صدرها، فأعجب بها الأمين، فدعاها إلى نفسها، فقالت: ذرني فإني طامث، وواعدته أن تزوره في غد، فانصرف محمد الأمين إلى فراشه ينقلب جنبا جنبا، فلما أصبح أرسل إليها، فقالت: كلام الليل يمحوه النهار. فقال الأمين: انظروا من بالباب من الشعراء! فقالوا: الرقاشي و مصعب وأبو نواس، فقال: أدخل بهم عليَّ! قال لهم: ليقل كل واحد منكم بيتين من الشعر على: «كلام الليل يمحوه النهار»، فابتدأ الرقاشي ينشد، ثم مصعب، ثم أبو نواس، لكن الشعر الذي قاله أبو نواس وصف فيه ما حدث للأمين مع الجارية وكأنه كان ثالثهما في تلك الليلة، فشك به الأمين، لكن أبا نواس أنكر ذلك، وبرّر ما قاله بمدى معرفته بالأمين وما يريد. (الذهبي، تاريخ الإسلام، ج13، ص65؛ وأحمد بن أعثم الكوفي، الفتوح، ج8، ص402؛ والمنتظم في تاريخ الأمم والملوك، عبد الرحمن بن الجوزي، ج9، ص218). (من المحقق)
  • [8] . هو أبو علي؛ الحسن بن هانئ بن جناح بن عبد الله بن الجراح، الشاعر المعروف بأبي نواس، من أشهر شعراء عصر الدولة العباسية. وُلد في الأهواز، وانتقل إلى البصرة وتعلم الأدب فيها. وقد ذكروا له أمورا كثيرة، ومجونا وأشعارا منكرة، وله في الخمريات والقاذورات والتشبب بالمردان والنسوان أشياء بشعة شنيعة؛ فمن الناس من يفسّقه ويرميه بالفاحشة، ومنهم من يرميه بالزندقة؛ كالخليفة محمد الأمين بن الرشيد، وعُرف بشاعر الخمر، وذكر بعضهم أنه تاب . وكان يقول الشعر في مدح بعض الخلفاء العباسيين، وكان من المقربين إلى الخليفة العباسي الأمين. والمُلفت أنه كان محدّثا روى عنه بعض علماء أهل السنة والجماعة في بعض طرقهم وأسانيدهم، ومنهم الشافعي وابن حنبل. (ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج10، ص227 فما بعد). (من المحقق)
  • [9] . من قصيدة لأبي نواس بعنوان (يا كَثيرَ النَّوحِ في الدِّمَنِ). (من المحقق)
  • [10] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج17، ص207.
  • [11] الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 49 من أبواب ما يتكسب به، ج17، ص209، ح1.
  • [12] المصدر نفسه، ص209 – 212.
المصدر
كتاب الثقافة القيادية والإدارية في القرآن والسنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى