مواضيع

كتاب أمير المؤمنين (ع) إلى أهل مصر عندما ولّى عليهم مالك الأشتر رحمه الله

وهذا دستور آخر للثقافة الإدارية يتحفنا به أمير المؤمنين (ع)، وهو عهده إلى مالك الأشتر، حينما ولاّه مصر.

يقول الإمام علي (ع): «هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبْوَةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا»[1].

يحدّد الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (ع) في عهده إلى مالك الأشتر مسؤوليات الحكومة في ثلاث نقاط:

  1. الأمن
  2. المصالح العامة (الخدمات)
  3. الإعمار.

والمسؤولية الأولى هي الأمن من أعداء الداخل والخارج، وما لم يتهيأ للأمة الأمن لا يستطيع الحاكم أن يقدم للناس الخدمات الأخرى.

ثم الخدمات والمصالح الاقتصادية والصحية والتعليمية والمعاشية، وما يشبه ذلك.

ثم الخدمات العمرانية، والبلدية، والطرق، والري، والمنشآت الصناعية، واستصلاح الأراضي، والاتصالات وغير ذلك.

وهذه المهام الثلاث تحتاج إلى جباية الأموال التي تقوّم هذه المشاريع الثلاثة.

والإمام (ع) يشرح هذه النقطة في هذه الفقرة من عهده إلى مالك الأشتر بقوله: «جِبْوَةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا».

نظام العلاقات الثلاث في ولاية الحاكم

ثم يبين الإمام (ع) لمالك الأشتر نظام العلاقات الثلاث في حياة الحاكم، وهي:

1- العلاقة بالله تعالى.

2- العلاقة بالنفس.

3- العلاقة بالناس.

ويشرح الإمام هذه العلاقات الثلاث واحدة بعد أخرى.

1- في العلاقة بالله

يحدد الإمام العلاقة بالله تعالى بالطاعة لله، وتقوى الله، واتباع أوامر الله تعالى ونواهيه، وأن ينصر دين الله حتى ينصره الله.

يقول (ع) في عهده: «أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَإِيْثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ الَّتِي لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا وَلَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ وَيَدِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ‌ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ»[2].

ثم يقول له: «إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللَّهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ»[3].

2- في العلاقة بنفسه

وهذه العلاقة تمكّن الإنسان من العلاقة الأولى والعلاقة الثالثة، ولا تستقيم هذه ولا تلك إلاّ إذا تمكّن الإنسان من العلاقة بنفسه.

ويعطي الامام، في عهده لمالك هذه العلاقة قدراً كبيراً من الأهمية فيأمره أن يملك هواه، ولا يأذن لهواه أن يملكه.

وليس بين هذا المِلك وذلك أمر ثالث، فإذا ملك الإنسان هواه لم يملكه هواه، وإذا ملكه هواه لا يملك هواه، ولا ثالث. فإما أن يتمكن الإنسان من أهوائه ويفرض عليها سلطان إرادته أو يخضع لسلطانها.

يقول (ع): «فَامْلِكْ هَوَاكَ»[4].

ثم يأمره (ع) أن يشُحَّ بنفسه عما لا يحلّ له، ويكون ضنيناً بنفسه، ولا يعطي نفسه للفتن بلا حساب ولا حدود.. فإن قيمة العاقل بقدر ما يشُحَّ بنفسه من الفتن، وما يعطي منها لله.

ومن إنصاف الإنسان لنفسه أن يشُحَّ بها في الفتن، ومن سوء الإنصاف أن يُبذّر الإنسان بنفسه فيها.

فليس شيء أعزّ على الإنسان من نفسه – إلاّ الله ورسوله – فلابد أن يكون شحيحاً بها.

يقول (ع): «وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ»[5].

ثم يأمره (ع) أن يكف جمحات نفسه وثورة أهوائه وشهواته..

يقول (ع): «وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ، وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ».

النفس البشرية جموحة ثائرة هائجة، فإذا لم يكسر صاحبها جموحها، ولم يتمكن من هياجها ويسيطر عليها تملكه، وتقوده إلى الهلاك، وما لم يتمكن الإنسان من أهوائه وشهواته لا يصحّ أن يتولى أمراً من أمور المسلمين.

فمن لا يملك أمر نفسه لا يصلح أن يملك من أمور المسلمين شيئاً.. وهذا هو معنى العدالة في الولاية.

3- العلاقة بالناس

يطول كلام الإمام (ع) في عهده إلى مالك في العلاقة مع الناس، وهو القسم الثالث من العلاقات الثلاثة، ويعطي هذا الشطر مساحة واسعة من عهده إلى مالك.

ولا يسعنا أن نتحدث في هذا الشطر من كلام الإمام بالتفصيل في هذه الخلاصة؛ رغم أن هذا الشطر من كلام الإمام (ع) في تعامل الحاكم مع الرعية هو موضوع هذه الرسالة.

التعريف بالناس

وأول شيء يلفت نظرنا في كلام الإمام (ع) في التعريف بالناس هو قوله (ع): «وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ؛ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»[6].

وهو أجمل تعريف للجمهور الذي يتعامل معه الحاكم وأرحبه.. إن هؤلاء الناس لا يخلو أمرهم من (الأخوة في الدين أو المناظرة في الخلق)، وكلاهما يقتضي من الحاكم الرأفة والرحمة.. ولا يصحّ أن يقسو الإنسان على أخ له في الدين تربطه به وشيجة الأخوة في دين الله ورابطة الولاء، ولا يصحّ أن يقسو الإنسان على نظير له في الخلق، يحب ما يحب ويكره ما يكره، ما لم يصدر منه ذنب يستحق منه هذه القسوة.. فكما لا يحب الحاكم أن يقسو عليه أحد، ويحب لنفسه التكريم والرحمة، كذلك نظراؤه في الخلق.

طبائع الناس

ثم يبين الإمام (ع) طبائع الناس، فإن الزلل والزلات شيء مغروس في طبائع الناس، ما لم يهذّب الإنسان نفسه، ويمتلك أزمّتها بشكل كامل.. وهو أمر نادر في حياة الناس.

إذًا؛ لا يصح أن يتخذ الحاكم أمر الزلل والزلات في حياة الناس حجّة لاضطهادهم وعقوبتهم والتشديد عليهم.. والزلل والزلات غير الإصرار على الإثم والذنب وارتكاب الجرائم والموبقات.. وما يجوز ويجب في الجرائم والموبقات لا يجوز في الزلات والزلل.

فلنستمع إليه (ع) وهو يصف طبائع الناس الذين يتعامل معهم الحكام؛ حيث يُكمل (ع) كلامه السابق بقوله: «فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ؛ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَتُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَاء»[7].

هؤلاء هم الناس تصدر منهم الأخطاء والزلات؛ في العمد والخطأ، ويسبق منهم الزلل من غير قصد، وتعرض لهم العلل التي تسوقهم إلى الانفعال والغضب والزلات والأخطاء.. فيجب أن يتعامل معهم الحاكم بالرفق والعفو دون العنف، من دون ضعف، وفي غير الجرائم التي لابد للحاكم فيها من التشديد والتعنيف

التعامل من موقع الرحمة

والتعريف المتقدم للناس، والإيضاح المتقدم لطبائع الناس، يتطلب الرحمة بالناس والعطف والتحنن عليهم.

لذلك يقول (ع) في ذلك العهد لمالك: «وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً»[8].

والقائد الذي يمنح رعيته الحب والعاطفة، يكسب بالمقابل حبهم وثقتهم وعاطفتهم.

رحم الله الإمام الخميني رحمه الله أحب الناس وأحبه الناس، وبادلوه الحب بالحب، وهو مثال نادر جداً في الزعماء السياسيين في عصرنا.

التعامل من موقع العفو والصفح

ثم يأمره (ع) أن يتعامل مع الناس بالعفو والصفح، فلا يشدد في محاسبتهم، ويعاملهم بالتسامح.

يقول (ع): «فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ»[9].

فهم يحبون عفوك وصفحك، كما تحب العفو والصفح من الله، فإذا أعطيتهم من عفوك وصفحك ما يحبون أعطاك الله من عفوه وصفحه ما تحب وترضى.

فإنك فوقهم، وولي الأمر فوقك، والله تعالى فوق الجميع.

ثم يقول (ع): «وَلَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ، وَلَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ»[10].

والتبجّح بالعقوبة من صفات الجبارين، والندم على العفو من وساوس الشيطان.

ثم يقول (ع) لمالك: «وَلَا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ‌ مِنْهَا مَنْدُوحَةً»[11]، وهو درس هام في طريقة تعامل الحاكم مع رعيته ساعات الانفعال والغضب، فإن الاستسلام للحظات الانفعال والغضب ضعف، فلا يسرع الحاكم إلى الحكم في لحظات الانفعال والغضب، (والبادرة: الغضب)، كلما وجد إلى ذلك سبيلاً ومندوحة، (والمندوحة: المتسع والسبيل إلى التخلص).

ظلم العباد من محاربة الله تعالى

شر الظلم أن يظلم الإنسان نفسه أو يظلم عباد الله، وظلم العباد من ظلم النفس، فمن يظلم عباد الله يظلم نفسه أكثر مما يظلم الآخرين، والذي يظلم عباد الله يدخل في دائرة محاربة الله تعالى، فإن ظلم العباد من محاربة الله، ومن ينصب نفسه لحرب الله يخسر الحرب لا محالة، فلا يقوى على محاربة الله أحد من خلقه.

يقول (ع): «وَلَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدَىْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ، وَلَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ»[12]، إنك لا تقوى على غضب الله ونقمته.

ولا تستغني عن عفوه ورحمته.. إذًا؛ فلا تعرّض نفسك لغضبه ونقمته، ولا تبتعد عن منازل عفوه ورحمته، وإذا شئت ذلك فلا تظلم عباد الله، لئلا تتعرض لغضب الله ونقمته، وأحْسِن إلى الناس لتكون عند عفوه ورحمته تعالى.

الله تعالى يخاصم من يظلم عباده

والله تعالى يخاصم من يظلم عباده، وظلم العباد مخاصمة لله.. ومن كان الله تعالى خصمه خاب، وكان من الخاسرين.

يقول (ع): «وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَكَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ وَيَتُوبَ»[13].

ولسنا نعرف كلاماً أبلغ وأقوى من هذا الكلام في استعظام ظلم العباد من ناحية الولاة والرعاة.

والنص عجيب يستوقف الإنسان!

إن العباد خلفاء الله في أرضه، والله يدافع عن عباده وخلفائه ويحبّهم، ويخاصم من يظلمهم. وهذه هي المعادلة الأولى.

ومن خاصمه الله أدحض الله حجته، ولا يقوى على محاججة الله في ظلمه لعباده. وهذه هي المعادلة الثانية.

وأعجب منهما وأبلغ المعادلة الثالثة: «وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ.. كَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ وَيَتُوبَ».

إن ظلم العباد بمعنى إعلان الحرب على الله.. وناهيك بذلك.

النهي عن الاستعلاء على الناس

وينهاه (ع) من أن يستعلي على الناس، ويستغل موقعه في الأمر والحكم في إذلال الناس وتطويعهم لأوامره ونواهيه؛ كما يفعل الجبابرة من الحكام.

«وَلَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ – أي مسلط وحاكم عليكم – آمُرُ فَأُطَاعُ»[14].

إن الطاعة لابد منها في نظام المجتمع، ومن دون الطاعة لا ينتظم المجتمع.. ولكن لا يلجأ الحاكم إلى توظيف موقعه في تطويعهم لأحكامه إلاّ في حالات الضرورة.. وفي غير ذلك يحفظ الحاكم نظام المجتمع بالتثقيف والتوجيه، وليس فقط بالإلزام والتشديد والعنف؛ كما يفعل الجبابرة.

فإن أسلوب العنف والتشديد في التعامل مع الناس من قبل الحاكم يؤدي إلى إفساد قلوب الحكام أولاً، فإن القلوب تفسد بالتشديد والتعنيف والاستعلاء على الناس، وإلى إضعاف الدين في حياة الناس ثانيا، فإن الحالة السوية في الدين، أن يحكم الحاكم الناس من غير إكراه وتعنيف، وإذا اضطر الحاكم إلى الإكراه والتعنيف كان ذلك بسبب عجزه في الإدارة والحكم، وليس لحاجة الدين إلى التشديد والعنف، فإن الله تعالى قد جعل الدين على منهج معتدل من الفطرة لا يُحْوِجُ الحاكم إلى استعمال الشدة والعنف إلاّ في حالات استثنائية.

وإذا أكثر الحاكم من اضطهاد الناس والتشديد عليهم أدّى ذلك إلى إضعاف دور الدين وإنهاكه في المجتمع وفي نفوس الناس.. وهذا هو الأثر الثاني في التشديد والعنف.

والأثر الثالث؛ أن تراكم العنف والشدة والاضطهاد في الحكم يؤدي إلى سقوط الحاكم والنظام، وثورة الناس على الحاكم؛ حيث لابد أن ينفذ صبر الناس وتحملهم في وقت قريب، فيثور الناس على الحاكم، فلا يستطيع عندئذٍ أن يقاوم غضب الناس وسخطهم.

ولنستمع إلى الإمام (ع) في وصيته لمالك الأشتر: «وَلَا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ – حالات الغضب والانفعال – وَجَدْتَ‌ مِنْهَا مَنْدُوحَةً – استطعت أن تتفاداها بالحلم والتغاضي وسعة الصدر – وَلَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ– مسلّط عليكم – آمُرُ فَأُطَاعُ، فَإِنَّ ذَلِكَ – أي التبجّح بالسلطان والشدة في العمل – إِدْغَالٌ – إفساد – فِي الْقَلْبِ، وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ – ضعف للدين – وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ»[15].

والغِيَرْ: تقلّب الأحداث السياسية بصورة مفاجئة. فإن هذا الإفساد والتبجّح سرعان ما يثير غضب الناس ويهيّجهم، فلا يستطيع الحاكم أن يقاوم غضب الناس، فيسقط.

عندما تتعارض العلاقات الثلاث

هذه العلاقات الثلاث، حقوق.. على عُهدة الحاكم أن يفي بها: حق الله تعالى عليه، وحق نفسه عليه، وحق الناس.. وكلٌّ منها حق. ولابد أن يعطي لله تعالى حقه، ولنفسه حقها، وللناس حقوقهم.

ولابد أن يوازن بين هذه الحقوق والعلاقات، لئلّا يجوز ويتجاوز بعضها على بعض.

والتجاوز الذي يحصل عادة في هذه الحقوق الثلاثة يحصل عادة من ناحية إيثار جانب النفس على حقوق الله وحقوق عباده.

وعندما نقول: «إيثار جانب النفس على حقوق الله وحقوق عباده» نقصد بالنفس معنى أوسع من (الأنا)؛ يشمل خاصة الإنسان وأهله، والقريبين إليه، ومن له فيه هوى؛ من بطانته والمتقربين إليه، وهؤلاء جميعاً امتداد للنفس و(الأنا) بشكل أو بآخر، فيأخذ الحاكم جانبهم، ويؤثر جانبهم على جانب حقوق الله عليه وحقوق عباده.. وهذا هو ابتلاء أغلب الحكام والولاة.

فيأمره الإمام (ع) أن ينصف الله تعالى، وينصف الناس من نفسه؛ يعني يعطي لله تعالى حقه وللناس حقوقهم التي جار بها عليهم لصالحه ولصالح من يميل إليه، وينصف الله، وينصف الناس من نفسه.

يقول (ع) في نفس العهد: «أَنْصِفِ اللَّهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ»[16].. إنذار وتهويل.

وهذه الكلمة ذات وقع عجيب في نفس الإنسان «فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ».

والظلم هو التجاوز على حقوق الآخرين لصالح نفسه، ولصالح من له هوى فيه، ومن الظلم أن يتجاوز الإنسان على حقوق الله تعالى وحقوق عباده، وإن لم ينصف الله من نفسه، وينصف الناس من نفسه، فهو يدخل في عداد الظالمين، والظالمون في النار.

العامة والخاصة

العامة والخاصة[17] تعبير عن تقسيم طبقي في المجتمع، يقوم على أسس غير شرعية من الثراء والسلطان.

وأما إذا كان مصدر الثراء والسلطان شرعياً، فلن يكون الاختلاف الطبقي داخلاً في هذا التقسيم، ولن يكون موضوع هذا البحث. غير أن الثراء المشروع، والسلطان المشروع، لن يؤدي في الغالب إلى الفواصل الطبقية الكبيرة إلاّ في حالات استثنائية ونادرة، وكلما وجدنا مجتمعاً طبقياً تنفصل طبقاته بعضها عن بعض بفواصل كبيرة؛ كالذي نراه في المجتمعات الرأسمالية في الغرب، فلابد أن يكون هذا الاختلاف الطبقي الكبير حاصلاً من أوضاع غير شرعية في تحصيل المال أو السلطان.

ومهما يكن من أمر: فإن (العامّة) في هذا التقسيم، هي المساحة الاجتماعية العريضة المحرومة، والخاصة هي الطبقة الاجتماعية المحدودة المرفهة من حيث الثراء، والقوية من حيث السلطان والقوة.

والطبقتان الاجتماعيتان (العامة والخاصة) في هذه المجتمعات (القائمة على الثراء والسلطة غير المشروعة) متقاطعتان، ونقصد بالتقاطع: أنّ ثراء وسلطان الخاصة يتمّ على حساب العامّة، وتتمدد الخاصة في ثرائها وسلطانها على مساحة حقوق العامة في المال والسلطان.

ومعنى ذلك: أن الخاصة في مثل هذه المجتمعات تعتدي على حقوق العامة في المال والسلطان، وتستأثر بها دون العامة من غير حق؛ كما يحصل ذلك في المجتمعات الرأسمالية الغربية القائمة على العدوان الطبقي.

وهذا هو الذي يقصده أمير المؤمنين (ع) في كلمته المعروفة: «مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مَنَعَ بِهِ غَنِيٌّ»[18].

وهذه المعادلة تصح من الطرفين: ما جاع فقير إلاّ بما مُتّع به غني، وما تمتع الأغنياء إلاّ بما جاع به الفقراء.

وذلك لأن هذا الثراء والسلطان قد حصل من مصادر غير مشروعة للمال والسلطان.. وكل ثراء وسلطان غير مشروع يتم لا محالة بالعدوان على حقوق العامّة في المال والسلطان.

ويقول (ع) – أيضا في هذا السياق -: « ما رَأیْتُ نِعْمَةً موفورهً، اِلّا وبجانبِها حقُّ مُضَیَّع»[19].

ولاشك أن الإمام (ع) يقصد بـ (النعمة الموفورة) الثراء غير المشروع. ولانشك أن الفواصل الطبقية الكبيرة، لا يمكن أن تحصل غالباً من مصادر شرعية في الإثراء والسلطان.

وبناء على ذلك يقول الإمام (ع): إلى جانب كل إثراء غير مشروع حق مضيّع للناس، وهي معادلة ثابتة.

وعندئذٍ نتساءل كيف يتعامل الحاكم مع هاتين الطبقتين، في المجتمعات التي تتواجد فيها هاتان الطبقتان.

فإن هاتين الطبقتين متقاطعتان، لا يمكن أن يجمعهما الحاكم في الرضى، بسبب التقاطع القائم بينهما، ولأن الخاصة تمتد على مساحة حقوق العامة، فإذا أرضى العامة يسخط الخاصة، وإذا أرضى الخاصة يسخط العامة، ولا يمكن أن يكسب الحاكم رضاهما جميعاً، إلاّ إذا زالت عنهما حالة التقاطع والتمادي، وامتداد إحداهما على حقوق الأخرى.

وعندئذٍ؛ فلابد أن يكسب الحاكم أجمعَ مساحة للرضى (أوسع مساحة للرضى) داخل المجتمع؛ حيث لا يمكن أن يعمم كل الساحة بالرضى.

والمساحة الأوسع في المجتمع التي يجب أن يرضيها بالعدل والحق – وإن أسخط الأخرى – هي مساحة العامة من الناس (الجمهور).

يقول الإمام (ع)؛ إذا تعذر على الحاكم تعميم الاسترضاء على الجميع، وكان لابد من تقديم إحداهما على الأخرى.. يتعين على الحاكم أن يُقدّم رضى العامة على الخاصة، شريطة أن يكون ذلك ضمن قواعد الحق والعدل، فإنّ رضى العامة يجبر الخلل الحاصل من سُخط الخاصة، وسُخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة، وليس العكس؛ فلا يجبر رضى الخاصة سُخط العامة، ولا ينفع الحاكم رضى الخاصة إذا سخطت العامة.

فاستمع إليه (ع) يقول: «وَلْيَكُنْ أَحَبُ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ – أي يُزيل ويُذهِب – بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ»[20].

وهو كلام وتحليل دقيق؛ حيث لا يتمكن الحاكم أن يجمع رضى العامة والخاصة، فلابد أن يقدّم العامة على الخاصة؛ لأن «سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ»، ولكن بشرطين يذكرهما الإمام (ع) في نفس الفقرة، وهما إقامة الحق والعدل: «وَلْيَكُنْ أَحَبُ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ».

ثم يبين الإمام (ع) خصائص كل من الخاصة والعامة.

خصائص الخاصة

وأول ما يتحدث عنه الإمام في هذا العهد السمات البارزة في طبقة الخاصة، فيقول (ع): «وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ، وَأَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ»[21].

وهذه سبع خصال رديئة في هذه الطبقة:

1- فهي ثقيلة على الولاة في مطالبها في أيام الرخاء.

2- قليلة العون والنجدة لهم في ساعات الشدة والابتلاء.

3- كثيرة الإجحاف قليلة الإنصاف.

4- كثيرة الإلحاف والإصرار في المطالب.

5- قليلة الشكر.

6- بطيئة في الإعذار عند المنع.

7- قليلة الصبر في الملمّات.

وهذه الخصائص والخصال التي يذكرها الإمام (ع) في هذا العهد تجعل هذه الطبقة طبقة اجتماعية تعيش على البطر، وقليلة الجدوى، وغير مقاومة، ولا تصلح لمواجهة التحديات، ولا تقف في الملمّات والشدائد مع الناس.

خصائص العامة

ثم يتحدث الإمام (ع) بعد ذلك عن قيمة العامة، فيقول (ع): «وَإِنَّمَا عَمُود الدِّينِ وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَالْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ»[22].

وهذه ثلاث خصال:

1- هم عماد الدين، يتقوم به الدين في مواجهة التحديات التي تهدد سلامة الدين وبقاءه.

2- وهم جمهور الأمة «جِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ»، وهم السواد الأعظم من المسلمين، وعليهم تنزل الرحمة والبركة والنصر من عند الله.

3- وهم العدة للأعداء.. التي تمتلك المقومات، وتختزن كل المقاومة التي تحتاجها الأمة في أيام البأساء والشدة.

إيثار العامة على الخاصة

والنتيجة التي يستنتجها الإمام (ع) من هذه المقارنة بين العامة والخاصة هي إيثار العامة على الخاصة بالعدل والحق، فهي قوام الدين، وجمهور الأمة، والعدة للمقاومة في أيام البأساء والشدة.

فيقول (ع): «فَلْيَكُنْ صَغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ».


  • [1] . نهج اليلاغة، الخطبة: 53، من عهد له عليه السلام كتبه للأشتر النخعي رحمه الله لما ولاه على مصر وأعمالها، ص366.
  • [2] المصدر نفسه، ص366 – 367.
  • [3] المصدر نفسه، ص368.
  • [4] المصدر نفسه، ص367.
  • [5] المصدر نفسه.
  • [6] المصدر نفسه.
  • [7] المصدر نفسه.
  • [8] المصدر نفسه.
  • [9] المصدر نفسه.
  • [10] المصدر نفسه.
  • [11] المصدر نفسه.
  • [12] المصدر نفسه.
  • [13] المصدر نفسه، ص368.
  • [14] المصدر نفسه.
  • [15] المصدر نفسه.
  • [16] المصدر نفسه.
  • [17] في الاصطلاح السياسي والاجتماعي. لأن هذين الاصطلاحين قد يطلقان ويراد بهما معنى آخر؛ كما عند الفقهاء، حيث يُقصد من العامة: المخالفون وهم أهل السّنة والجماعة، ومن الخاصة: الشيعة الإمامية الاثنا عشرية. (من المحقِّق).
  • [18] نهج البلاغة، الكلمة: 320، من قصار الكلمات، ص474.
  • [19] لم نعثر على متن الحديث في المصادر الروائية، لكن نقله السيد محمد تقي المدرسي في كتابه (من هدى القرآن) بلفظ: (ما رأيت نعمة موفورة إلاّ وإلى جانبها حق مضيّع)، ولم يذكر مصدره هناك. محمد تقي المدرسي، من هدى القرآن، ج14، ص51. (من المحقق).
  • [20] نهج اليلاغة، الخطبة: 53، من عهد له عليه السلام كتبه للأشتر النخعي رحمه الله لما ولاه على مصر وأعمالها، ص368.
  • [21] المصدر نفسه.
  • [22] المصدر نفسه، ص369.
المصدر
كتاب الثقافة القيادية والإدارية في القرآن والسنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى