مواضيع

الانضباط الأمني والسياسي

عاش أتباع أهل البيت : في أيام بني امية وبني العباس ظروفاً سياسية قاهرة، وتحديات أمنية صعبة.. وقد كان شيعة أهل البيت : هم المعارضة القوية الواسعة في الساحة الإسلامية يومذاك. ولولا هذه المعارضة السياسية والثقافة لم يسلم من الإسلام شيء في أيام بني أمية وبني العباس، بسبب ممارساتهم في الظلم والإفساد والإسراف وتغيير معالم دين الله عن مسير الوحي، وأما سائر المعارضات فقد أخلت الساحة لبني أمية وبني العباس، ولم يكن لها دور أساسي، كما فعلت الخوارج، فقد كانت مواقفهم الانفعالية غير العقلائية، سبباً للقضاء عليهم وإنهائهم تاريخياً.

ولذلك كان أتباع أهل البيت : يعيشون دائماً ظروفاً أمنية صعبة جداً من ناحية حكام بني أمية وبني العباس، وكانت هذه الظروف تهدد كيانهم الثقافي والسياسي والحركي بصورة جديّة.

ولولا التعليمات الأمنية الصادرة من أهل البيت : لشيعتهم لم يبق لشيعة أهل البيت : دور وأثر في التاريخ ولا في الحاضر.

وكانت هذه التعليمات تدعوهم إلى المحافظة على أسرار (جماعة أهل البيت وشيعتهم)، وتنظيماتهم ومراكز تواجدهم، وجبايتهم للأموال، وشبكة الوكلاء التي كانت تنظم علاقة شيعتهم بهم من مختلف البلاد يومذاك، وتنظم شبكة دعاة أهل البيت : في خراسان، وآسيا الوسطى، والمغرب العربي في أفريقيا، ولقد اتسعت شبكة حركة أتباع أهل البيت: ونشاطهم اتساعاً كبيراً، وشملت مساحات واسعة من أقاليم الفتح الإسلامي.. ولم تكن السلطة يومذاك غافلة عما يجري على الأرض الإسلامية من نشاط واسع وحركة واسعة لأتباع أهل البيت : إلاّ أن السِّرية الصارمة، والتعليمات الأمنية الدقيقة كانت تحفظ شيعة أهل البيت : من فتك الحكومات المحلية والمركزية.

ولقد كانت تعليمات أهل البيت : في الانضباط والأمن دقيقة جداً، تمنع من إذاعة أسرار الجماعة، ومراكز تواجدهم، ووجوه نشاطهم، وتمنع من لغو الكلام والثرثرة حتى في أوساطهم، وتمنعهم من الطيش والانفعال في الحديث عن شيعة أهل البيت، لئلاّ يجرهم الانفعال والطيش والكلام اللامسؤول إلى إذاعة أسرار هذه الجماعة، عندما يأخذهم الاندفاع في التنويه بهم ونشاطهم، والاعتزاز بمواقعهم وعملهم وانجازاتهم.

فإن الاندفاع في الحديث عن الانجازات الحركية والثقافية والسياسية لأتباع أهل البيت : وانتشارهم في البلاد البعيدة كان يؤدي أحياناً إلى إذاعة أسرار وكلاء أهل البيت : ودعائهم وشبكاتهم التنظيمية.

وفيما يلي نذكر طائفة من هذه التعليمات:

عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: «امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا عِنْدَ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ كَيْفَ مُحَافَظَتُهُمْ عَلَيْهَا، وَإِلَى أَسْرَارِنَا كَيْفَ حِفْظُهُمْ لَهَا عَنْ عَدُوِّنَا»[1].

هذان اختباران لشيعتهم: أداء الصلاة عند مواقيتها، والاهتمام بأمر الصلاة، وعدم التهاون فيها، ثم يأتي بعد ذلك مباشرة المسألة الأمنية.

الصلاة أولاً والأمن ثانياً، وهي ملاحظة جديرة بالاهتمام في موقع الأمن والانضباط في الجماعة.

وكان الإمام الصادق (ع) يعلن انزعاجه وغضبه على أولئك الذين يهتكون أسرار شيعة آل محمد (ص) وشبكاتهم وقياداتهم وجباياتهم، ويعلن تشكيكه في صدقهم في الانتماء إلى هذه الجماعة.

فإن أبرز خصائص هذه الجماعة بعد الصلاة الانضباط الأمني.

فكان (ع) يقول: «قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنِّي إِمَامُهُمْ! وَاللَّهِ مَا أَنَا لَهُمْ بِإِمَامٍ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، كُلَّمَا سَتَرْتُ لَهُمْ سِتْراً هَتَكُوهُ»[2].

وهؤلاء الناس غير المنضبطين أمنياً والذين كانوا يهتكون أسرار جماعة أهل البيت : وشيعتهم، قد يكونون من العناصر الأمنية المتسللة من الأمن الحكومي داخل الجماعة، وقد يكون هؤلاء من غلاة الشيعة الذين يحمّلون أهل البيت : ما لا يؤمنون به، ولا يقولون؛ بل ما يرفضونه رفضاً قاطعاً، هذه الشريحة المغالية كانت من مصائب أهل البيت :، فكانوا يعلنون براءتهم منهم ومن أفكارهم ومن تصرفاتهم.. ويرفضونهم، ويبدو أن أهل البيت : كانوا يشكّون شكا قوياً في صدقهم، ويعتقدون أنهم حالة اختراقية من عناصر بني أمية وبني العباس الأمنية، تمكنوا بالوسائل الأمنية من اختراق الجماعة، والدخول في تنظيماتهم، وأشاعوا في صفوفهم أفكاراً من الغلو في أهل البيت :. كان أهل البيت يعلنون رفضهم لها ويحاربونها، ويلعنون أصحابها.

وعن الإمام زين العابدين (ع): «وَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنِّي افْتَدَيْتُ خَصْلَتَيْنِ فِي‌ الشِّيعَةِ لَنَا بِبَعْضِ لَحْمِ سَاعِدِي: النَّزَقَ وَ قِلَّةَ الْكِتْمَانِ»[3].

والنزق: الطيش والانفعال، وقلة الكتمان معروف.

وقد كان سبب النزق والانفعال هو: انتشار جماعات أهل البيت : في البلاد ونشاطهم وحركتهم السريّة بعد مصرع الحسين (ع) في كربلاء، فكان الحديث يجري في أوساط هذه الجماعة بعد تلك المجازر عن توسع مساحة حركة شيعة أهل البيت : ووكلائهم ودعاتهم، وكان هذا الحديث لا يخفى عن أسماع عيون بني أمية، فيكشفون بذلك تنظيماتهم؛ ولا سيما في مواعيد الحج؛ حيث يجتمع زعماء الشيعة في مكة ومنى بالإمام زين العابدين (ع)، فيحذّر عنه الإمام شيعته، كما يحذرهم من قلة الكتمان.. وقد كانت الكلمة الواحدة اللامسؤولة كافية لإراقة دماء المؤمنين، وتخريب بيوتهم، وتشريدهم، وتمنى الإمام (ع) أن يفتدي هاتين الخصلتين من شيعته ببعض لحم ساعده.

ويقول الإمام الصادق (ع) لسليمان بن خالد: «يَا سُلَيْمَانُ! إِنَّكُمْ عَلَى دِينٍ مَنْ كَتَمَهُ أَعَزَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَذَاعَهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ»[4].

إن عزة هذا الدين وأهله في التقية والكتمان، ومذلة المؤمنين في إذاعة أسرارهم، فمن أراد عزّة هذه الجماعة فليبالغ في المحافظة على أسرارهم.

بهذه التعليمات الأمنية الصارمة اتسعت رقعة شيعة أهل البيت : في أقطار الفتوحات الإسلامية، وحملت معها ثقافة الوحي النقية الصافية التي حملها أهل البيت : من رسول الله (ص) جيلاً بعد جيل وكابراً بعد كابر، ولم يتمكن حكام بني أمية وبني العباس بما عرف عنهم المسلمون من الظلم، والإسراف، والإفساد، واللهو، والسكر، والفاحشة التي عرف بها بعضهم علانية، أن يغيروا مجرى هذا الدين عن صراط الوحي وتعليمات كتاب الله وسنة رسول الله: بفضل هذه المرابطة على حدود الله من قبل أهل البيت :.


  • [1] عبد الله بن جعفر الحميري، قرب الإسناد، ص78، ح253.
  • [2] المحدث النوري، مستدرك الوسائل، الباب 32 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبها، ج12، ص293، ح12.
  • [3] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، الباب 98 من أبواب كتاب الإيمان والكفر، ج3، ص561، ح1.
  • [4] المصدر نفسه، ص562، ح3.
المصدر
كتاب الثقافة القيادية والإدارية في القرآن والسنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى