مواضيع

المؤمن بين الفطنة والتغافل

يقع المؤمن بين هذين الموقعين (الكياسة والحذر والفطنة من جانب والتغافل من جانب آخر).

ولا تخالف ولا تناقض بين هاتين الخصلتين؛ بل الأمر بالعكس، هاتان الخصلتان كل منهما يكمّل الآخر، ويتكاملان.

وسوف نتوقف قليلاً عند شرح هذه النقطة.

ونبدأ بالنقطة الأولى: المؤمن يتصف بالحذر والكياسة والفطنة، ولا يكون غافلاً ولا مغفلاً.

وقد ورد في الحديث «الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ»[1].

وليس معنى ذلك أنّ خلق المؤمن وتكوينه يختلف عن الآخرين، فيخلق الله المؤمنين كيّسين، ويخلق غيرهم من غير كياسة.

فقد يكون المؤمن في التكوين أقل كياسة وفطنة من منافق أو كافر، ويكون الكافر والفاسق أكثر كياسة وفطنة في الخلق من المؤمن؛ وهو يتفق كثيراً.

وإنما معنى هذه المقولة؛ أن المؤمن يكتسب الكياسة والحذر والفطنة في حياته وسلوكه؛ لأن المنهج التربوي في الإسلام يوجّه المؤمنين باتجاه الكياسة والفطنة والحذر في تعليماته؛ ولأن طبيعة مسؤولية المؤمنين وحضورهم في ساحة المواجهة والصراع تتطلب منهم الحذر والكياسة والفطنة، فإنّ من يتحرك في ساحة الصراع والقتال لابد له من الحذر والانتباه، ولحظة غفلة وإهمال كافية للقضاء عليهم.

وبذلك؛ فإن معنى أحاديث من قبيل «الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ» أو «الْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ خَيْرٌ مِنْ الضَّعِيفِ»[2]، أن المؤمن يروّض نفسه لاكتساب خصال الفطنة والحذر والقوة. وهذا هو الموقع الأول.

والموقع الثاني: (التغافل) والمؤمن يقع بين (الفطنة والحذر والانتباه) من جانب، و(التغافل) من جانب آخر.

وقد ورد في الحديث عن أبي عبد الله الصادق (ع): «صلاح التعايش والتعاشر ملء مكيال، ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل»[3].

وعن رسول الله (ص): «المؤمن نصفة تغافل»[4].

والتغافل غير الغفلة وما يجب أن يبرأ منه المؤمنون هو (الغفلة)، وما ينبغي أن يتحلى به المؤمنون هو (التغافل)، وليس من الحذر والانتباه والفطنة أن يواصل الإنسان التحذير والتنبيه والعتاب والمؤاخذة للناس على غفلاتهم وسقطاتهم.. فإن هذا النوع من السلوك من ناحية المسؤولين سرعان ما يفسد العلاقة بينه وبين الناس، ويخسرهم.

والموازنة الصحيحة بين الفطنة والكياسة من جانب، والتغافل من جانب آخر هو ما ورد في الحديث من الموقع الوسط بين الفطنة والتغافل، فيكون شطر من علاقاته وملاحظاته قائمةً على الفطنة والحذر، والشطر الآخر من علاقاته وملاحظاته قائمةً على التغافل والتجاهل، (وليس الغفلة والجهل).

فليس من الصحيح أن تكون علاقاته وملاحظاته كلها قائمة على أساس التنبيه والتذكير والمتابعة والملاحظة والتوبيخ والعتاب.. فإن ذلك سوف يُخسره شطراً من أصدقائه، والمتعاملين معه، وعلاقاته الاجتماعية والإدارية.

وليس من الصحيح أن يبني علاقاته ومسؤولياته معاً على الإهمال والمسامحة في الأخطاء والتخلفات؛ فإن ذلك سوف يفقده السيطرة على دائرة مسؤولياته.

والصحيح بينهما الموقع الوسط؛ بين الفطنة والتغافل، والمؤاخذة والمسامحة المبنية على التغافل.

والمسامحة القائمة على التغافل أفضل من المسامحة بعد المحاسبة في بعض الأحيان.

إن الإنسان إذا أحصى على أصحابه وأصدقائه وزملائه ومن يقع في دائرة مسؤولياته كل أخطائهم وزلاتهم وسقطاتهم، وحاسبهم حساباً عسيراً صارماً لا يسلم له صديق ولا علاقة، ولا يبقى لديه من يخلص له في عمله إلاّ قليلاً.

عن أنس بن مالك خادم رسول الله (ص)، قال: خدمت رسول الله (ص) ثلاث عشر سنة[5]، فما قال لي يوماً في شيء فعلته، لم فعلته؟ ولا قال لي في شيء تركته، لم تركته؟[6]

إن الإكثار من اللوم والعتاب والملاحظة والمؤاخذة في علاقات العمل، وفي علاقات الحياة العامة، يفرّق الناس من حول الإنسان، ويكرّه الإنسان إليهم، فلابد في كثير من الأخطاء والزلاّت الصغيرة من استخدام حالة التغافل، وهو أجدى وأنفع في معالجة الكثير من الأخطاء.

وقد روي (أن التغافل أحد الاحتمالين)[7].. ومعنى ذلك أن هناك بإزاء المسؤولين احتمالين، يجب عليهم احتمال أحدهما، وكل منهما يتطلب جهداً نفسياً وعملياً:

الاحتمال الأول: المحاسبة والتنبيه واللوم والعتاب في كل زلة ومخالفة، وهو (احتمال) لا شك يتطلب جهداً نفسياً وعملياً.

الاحتمال الثاني: هو التغاضي والتغافل عن السقطات والزلات الصغيرة، وهو يتطلب أيضاً جهداً نفسياً بلا شك، فإن التغافل عما يعلمه الإنسان ويلاحظه من الأخطاء لا يقلّ عن معاناة المحاسبة والمؤاخذة.

وروي عن أمير المؤمنين (ع): «المؤمن نصفه احتمال ونصفه تغافل»[8].

ومعنى ذلك أن المؤمن يتحمل طائفة من أخطاء أصحابه، وهذا هو الشطر الأول من تعامله مع الآخرين. والشطر الثاني هو التغافل.. وهو يقع بين تحمّل أخطاء الآخرين والتغافل عنهم.

وليس معنى التحمّل في الشطر الأول التغاضي والمسامحة دائماً، فقد يقتضي الأمر التغاضي والمسامحة، وقد يقتضي الأمر المحاسبة والمؤاخذة.

ومن وصايا علي بن الحسين (ع) لابنه محمد الباقر (ع): «اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ صَلَاحَ الدُّنْيَا بِحَذَافِرِهَا فِي كَلِمَتَيْنِ: إِصْلَاحِ شَأْنِ الْمَعَايِشِ مِلْ‌ءَ مِكْيَالٍ؛ ثُلُثَاهُ فِطْنَةٌ، وَ ثُلُثُهُ تَغَافُلٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَغَافَلُ إِلَّا عَنْ شَيْ‌ءٍ قَدْ عَرَفَهُ وَ فَطَنَ لَهُ»[9].

والنقطة التي يشير إليها الإمام (ع) دقيقة، فإن التغافل يتطلب الوعي والانتباه، فإن الإنسان لا يتغافل إلاّ من شيء لاحظه وانتبه إليه.

وإذا فقد المؤمن دقّة الملاحظة والانتباه فيما حوله، فلم ينتبه، فتلك غفلة وجهل، وليس من التغافل في شيء، ولا قيمة له.

وإنما قيمة التغافل أنه مسبوق بالملاحظة والانتباه.

وعن الإمام الباقر (ع): «صَلَاحُ شَأْنِ النَّاسِ التَّعَايُشُ وَالتَّعَاشُرُ مِلْ‏ءَ مِكْيَالٍ؛ ثُلُثَاهُ فَطَنٌ وَثُلُثٌ تَغَافُل»[10].


  • [1] قطب الدين الراوندي، سلوة الحزين، ص39.
  • [2] فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، ج1، ص352.
  • [3] حسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، ص359.
  • [4] لم نعثر عليه نصّا في المصادر الروائية. وربما مقصود الشيخ رحمه الله ما ورد في غرر الحكم: (نصف العاقل احتمال ونصفه تغافل). (عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، حكمة 5026، ص245). (من المحقق).
  • [5] في المصادر (عشر سنين). لاحظ الهامش التالي. (من المحقق)
  • [6] فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، ج24، ص423.
  • [7] لم تعثر عليه في المصادر. (من المحقق)
  • [8] عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، حكمة 6361، ص284.
  • [9] المحدث النوري، مستدرك الوسائل، الباب 104 من أبواب أحكام العِشرة في السفر والحضر، ج9، ص38، ح6.
  • [10] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص167.
المصدر
كتاب الثقافة القيادية والإدارية في القرآن والسنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى