مواضيع

دور الزمان في الإدارة الصالحة

الإدارة الصالحة تأخذ الزمان بنظر الاعتبار.. والزمان ليس وعاءً للتاريخ والأحداث والأعمال فقط، وإنما هو من مقومات التاريخ والأعمال والأحداث أيضاً.. فلَرُب مشروع يفشل في زمان فشلاً ذريعاً، ونفس المشروع بنفس المواصفات ينجح في زمان آخر، والفارق الزمان.

ولذلك نعتقد أن تشخيص الزمان من العناصر والشروط المقومة للإدارة الصالحة.

والزمان ثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل.. ولكل منها دور في الإدارة الصالحة.

إن الماضي لا يجوز إلغاؤه بأي نحو في أي مشروع ثقافي، أو سياسي، أو حركي، أو تجاري، أو عمراني، أو جهادي أو غير ذلك.

فقد يحمل الماضي من عوامل الإخفاق ما يؤدي إلى إحباط المشروع في الحال الحاضر، في نفوس الناس.. وقد يحمل الماضي من الأخطاء ما يجب على الإدارة الصالحة تصحيحها قبل البدء بالعمل في الحال الحاضر.

إن الحوادث المختلفة المسرّة والمؤسفة والأخطاء والإخفاقات والنجاحات التي تمت في الماضي تلقي بظلالها على الحاضر لا محالة.

وعليه؛ يجب أن نأخذ الماضي والتاريخ بنظر الاعتبار في أي مشروع حاضر أو مستقبلي.

أما معرفة الحاضر (الحال)، فله دور أساسي في نجاح العمل وفشله.. والقيادة الصالحة الناجحة هي التي تضع المشاريع في الظرف المناسب، والوعاء الزمني المكافئ للعمل.. فلَرُب مشروع يخفق في زمان، وينجح في زمان، بنفس المقومات، وليس الفارق المشروع، فهو واحد، وإنما الفارق الزمان.. فإن الزمان قد يكون من عوامل الإخفاق، وقد يكون من عوامل النجاح.. والمدير الناجح هو الذي يشخّص الظرف الصالح لأداء العمل.

وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق (ع): «الْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ»[1].

والمعرفة الدقيقة للزمان، وتشخيص الظرف الصالح للعمل، نحو من البصيرة الإدارية، والبصر بالأحداث.

وقد روي عن رسول الله (ص): «عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيراً بِزَمَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ حَافِظاً لِلِسَانِه»[2].

وعن أمير المؤمنين (ع): «حَسْبُ المَرْءِ.. مِنْ عِرْفَانِهِ، عَمَلُهُ بِزَمَانِهِ»[3].

وأما المستقبل، فهو امتداد للحاضر.. وإذا كان وعاء الحاضر صالحاً لإدارة المشروع، فقد يحمل وعاء المستقبل من عوامل الإخفاق ما يغيب عن صاحبه.. وقد يقبل الناس على مشروع ثقافي أو سياسي أو إنساني، أو اقتصادي، ثم يصيب الناس في المستقبل إرهاق وتعب، ويؤدي ذلك إلى إحباط المشروع، وعامل الإحباط يكمن في المستقبل، وليس في الحاضر ولا في الماضي، والإدارة الناجحة يجب أن تأخذ بنظر الاعتبار الاستعداد لعوامل الإحباط والإخفاق في المستقبل من الآن.

روي عن الإمام أمير المؤمنين (ع) في هذا المعنى: «مَنْ عَرَفَ الْأَيَّامَ لَمْ يَغْفُلْ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ»[4].

إن الاستعداد لعوامل الإحباط والإخفاق التي يتضمنها المستقبل يجب أن يكون من الآن.

وللزمان دور واضح في تغيير المناهج والأساليب.

صحيح أن الشريعة مجموعة من الثوابت التي لا تتبدل ولا تتغير في الظروف الزمانية المختلفة.. ولكن ذلك في ثوابت الشريعة وحدود الله، وفرائض الدين، أما الأساليب والوسائل والمناهج التي لا تدخل في ضمن الثوابت والحدود الشرعية، فهي قابلة للاختلاف والتغيير؛ تبعاً للظروف والزمان.

وهذه نقطة دقيقة، ومن الخطأ أن نسحب نظام التغيير والاختلاف على ثوابت الشريعة، ومن غير الصحيح أن نثبت في جملة من الوسائل والمناهج؛ كالمناهج والوسائل التربوية مثلا.

وقد روي في هذا المعنى عن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع): «لا تقسروا أولادكم على آدابكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»[5].

إن للزمان دوراً لا محالة، في اختلاف أساليب التربية والتعليم، ومناهجهما.

إن عناصر التربية والتعليم تبقى هي هي في كل العصور من الثوابت التي لا تتغير، ولكن الأساليب تختلف.. ومن الخطأ أن نقسر أبناءنا وبناتنا على نفس الأساليب التي كان يتعامل بها معنا أباؤنا وأمهاتنا.

عن أمير المؤمنين علي (ع): «مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ، وَمَنْ تَعَظَّمَ عَلَيْهِ أَهَانَهُ، وَمَنْ تَرَغَّمَ عَلَيْهِ أَرْغَمَهُ، وَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ أَسْلَمَهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ، وَإِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ»[6].

وحرّي بنا أن نطيل الوقوف عند هذه الكلمة العلوية القيّمة، التي تحمل معانٍ ومعارف جمّة؛ لولا أن الوقت والفرصة لا تسعنا.

في هذه الكلمة نتوقف عند مجموعة من النقاط يشير إليها الإمام علي (ع):

مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ:

يخطئ الإنسان خطأ فادحاً إذا تصور أن الزمان هو الزمان؛ لا فرق، فيُقْدِمُ على عمل، نجح فيه غيره، فيقتحمه من غير احتساب عامل الزمان، فيخونه الزمان، ويفشل.

يقول علي (ع) في هذا المعنى: «مَنْ وَثِقَ بِالزَّمَانِ صُرِع»[7].

كمن يجد غيره يمشي على ماء ضحل ويعبره، فإذا وجد ماءً تصور أن الماء هو الماء، فيقتحمه فيخونه الماء، فيقع في وحل وغرق؛ كذلك الزمان.

إن الزمان يختلف عن الزمان، والزمان ذو غِيَر، ومن أمن غِيَر الزمان خانه، فيسقط ويفشل، ولابد قبل أي عمل من دراسة حال الزمان الذي يقدم فيه الإنسان على العمل.

ثم يقول (ع): وَمَنْ تَعَظَّمَ عَلَيْهِ أَهَانَهُ:

ليس لأحد أن يحتقر الزمان، ويتعظم عليه، ويجازف، ويقدم، من غير احتساب دور الزمان في العمل، والذي يجازف، ويقدم، مستهيناً بالزمان، يهينه الزمان، ويحتقره، ويتجاوزه.. يقول الإمام علي (ع) في هذا المعنى: «مَنْ كَابَرَ الزَّمَانَ عَطِب»[8].

ثم يقول (ع): وَمَنْ تَرَغَّمَ عَلَيْهِ أَرْغَمَهُ:

وكما ليس للإنسان أن يتعظم على الزمان ويحتقره، ويتجاوزه، كذلك ليس له أن يرغم الزمان على ما لا يستجيب له.. فإن الزمان يحكم الإنسان، ولا يحكم الإنسانُ الزمان، ومن حاول أن ينفلت من قبضة الزمان، بإرغام الزمان على ما لا يستجيب له، أرغمه الزمان.. إن حتمية الزمان من الحتميات القاهرة في التاريخ.

يقول أمير المؤمنين علي (ع) في هذا المعنى: «من عاند الزمان أرغمه»[9].

نعم؛ من الممكن أن يعالج الإنسان الزمان، فيجعل من الزمان الشؤم زماناً مباركاً، ومن الزمان الصعب زماناً سهلاً، ومن عصر الدكتاتورية والاستبداد السياسي عصراً للثورة على الظالمين، ولكنْ هذا علاج وتوجيه وتعديل للزمان، وليس إرغاماً ولا احتقاراً للزمان.. والعلاج والتعديل غير المكابرة.

ولكل من مكابرة الزمان والتحكم به وعلاجه، أحكام وظروف خاصة ليس موضعه الآن.

ثم يقول (ع): وَمَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ أَسْلَمَهُ:

ليس معنى ما تقدم من النهي عن ائتمان الزمان ومكابرته ومراغمته، أن يلقي الإنسان نفسه في أحضان الزمان ويستسلم له، ويأخذ بمقتضيات الزمان مهما كان؛ خيراً أو شراً؛ ضعفاً أو قوة، فإن هذا السلوك المتلون مع الزمان هو الحالة الانتهازية التي ينهى عنها الإسلام.

إن علينا أن نفهم الزمان ونعالجه ولا نأتمنه ولا نكابره ولا نراغمه، وعلينا أيضاً أن نحذر من ركوب الزمان، وأن نتطبّع بمتطلبات الزمان، فإن من توحي إليه نفسه أن يركب موجة الزمان، ويعمل بمقتضاه؛ مدحاً أو ذماً، إيماناً أو كفراً، هزيمة أو مقاومة، حباً أو بغضاً، طاعة أو تمرداً .. أقول: إن من يستسلم لحكم الزمان، ويركب الموجة، يسلمه الزمان إلى الموجة، ويتحول الإنسان عندئذٍ من عامل مؤثر في التاريخ إلى خشبة عائمة على موجة الزمان.. وفي هذا المعنى يقول الإمام علي (ع): «من عاند الزمان أرغمه، ومن استسلم إليه لم يسلم»[10].

وبين معاندة الزمان ومراغمته، وبين الاستسلام المذل للزمان، يجب أن يقف المؤمن موقفاً وسطاً في التاريخ والمجتمع، وهو موقف دقيق، لا يسعنا الوقت لشرحه أكثر من هذا الحد.

ثم يقول (ع): وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ:

فقد يرمي أحد ويصيب، وقد يرمي آخر فيخطئ، وليس الفرق في الرمي والاستهداف، وإنما الفرق في الزمان، فقد يرمي أحد في زمان، فتصيب الرمية، ويرمي آخر في زمان آخر، فلا تصيب الرمية.

إن إهمال عامل الزمان من أكبر أخطاء الناس، ومن لا تصيب رميته، لا يعاتب الزمان، ولا يعاتب حظه، فليست القضية في الحظ ولا في الزمان، وإنما عليه أن يراجع حساباته في تشخيص الزمان، حتى يعرف متى يرمي، ومتى يكف عن الرمي؟ ومتى يتحرك، ومتى يكف عن الحركة؟ ومتى يقوم، ومتى يقعد؟ ومتى يهتف، ومتى يهمس؟ ومتى يقاتل، ومتى يسالم؟ ومتى ومتى؟؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة جميعاً تندرج في تشخيص الزمان ومعرفته. فإذا رمى في غير وقت الرمي، فلم تصب رميته، فلا يعاتب الزمان، وإنما يعاتب نفسه، لأنه لم يعرف الزمان، فإن الزمان لا يتقبل عتابا من يعاتبه.

يقول علي (ع): «الزمان يخون [من] صاحبه، ولا يستعتب لمن عاتبه»[11].. اعرف زمانك جيداً، ثم اعمل بما تمليه هذه المعرفة من العلاج والتخطي؛ حتى لا تحتاج إلى عتاب الزمان، فيرفض الزمان منك العتاب.

ثم يقول (ع): إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ:

إن بين الزمان والسلطان علاقة جدلية حميمة، يغير الزمانُ السلطان، ويغير السلطانُ الزمان، فكم من زمان صالح أفسده السلطان! وكم من سلطان صالح أضعفه الزمان! وقد كان صاحب هذه الكلمة صلوات الله عليه حاكماً صالحاً وإماماً معصوماً، قمة في العدل والعقل والتدبير والحزم والعزم والقيادة الحكيمة، ولكن زمانه جعله في مواجهة ابن أبي سفيان.. يقول (ع) لمعاوية: «فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ! إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي وَلَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي»[12]، ولو كان يأتي في زمن غير ذلك الزمان، لتغير وجه المجتمع الإسلامي ووجه التاريخ الإسلامي، ولكان للتاريخ الاسلامي وللحضارة الإسلامية في الماضي والحاضر والمستقبل شأن غير هذا الشأن، ولكنه (ع) تولى الحكم بعد أن عمل من كان قبله من الحكام على تأسيس حكومة بني أمية في الشام، وتوطيد أركانها منذ خلافة الخليفة الثاني الذي ولّى معاوية، ومن قبله أخاه يزيد بن أبي سفيان على إقليم الشام كله، فأحكم بنو أمية أركان ملكهم في الشام، فلما تولّى الإمام علي (ع) الحكم حكمه الزمان، ولم يتمكن أن يزيل بني أمية من الحكم، وتغير وجه التاريخ الإسلامي منذ ذلك الحين على أيدي بني أمية، ثم جاء بنو العباس بنفس المنهاج في الظلم والإسراف وانتهاك حرمات الله تعالى.

فلم يكن في الإمام علي (ع) وابنه الحسن ضعف أو عجز أو قصور، وإنما حكمَهم الزمان الذي يقهر الناس، ولا يُقهر، وإنا لله وإنا إليه راجعون.


  • [1] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، كتاب العقل والجهل، ج1، ص61، ح29.
  • [2] الصدوق، الخصال، ج2، ص523.
  • [3] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص1552، ح7625.
  • [4] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، كتاب الروضة (من خطبة الوسيلة)، ج15، ص72، ح4.
  • [5] . ابن أبي الحديد، شرح نهج اللاغة، ج20، ص267.
  • [6] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص215.
  • [7] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج2، ص53.
  • [8] حسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، ص82.
  • [9] عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، حكمة: 2209، ص129.
  • [10] المصدر نفسه.
  • [11] المصدر نفسه، حكمة: 2394، ص137.
  • [12] نهج البلاغة، الكتاب: 9، من كتاب له عليه السلام إلى معاوية، ص314.
المصدر
كتاب الثقافة القيادية والإدارية في القرآن والسنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى