مواضيع

العلاقة بين الذنوب والعقوبة

يبقى ان نشير إلى العلاقة بين العمل والجزاء، في سياق الحديث عن الذنوب والعقوبات .. وهذا البحث من رقائق الثقافة القرآنية.

قد تكون العلاقة بين العمل والجزاء من نوع العلاقات التشريعية كالعلاقة بين جريمة شرب الخمر والجلد والعقوبات الواردة في التشريع كلّها من هذه القبيل .. وهذه العقوبات تخصّ الحياة الدنيا .

النوع الآخر من العقوبات، العقوبات التي تقع موقع النتيجة والجزاء الطبيعي من الجريمة والعلاقة بينهما من نوع العلاقة بين الأسباب والمسببات كالعلاقة بين الظلم وما يصيب الظالم من سوء العاقبة .. فإن الظالمين يلاقون في هذه الدنيا نتائج أعمالهم قبل الآخرة .. وقد عاصرنا كثيراً من الظالمين أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، ولقوا في هذه الدنيا نتائج عدوانهم وظلمهم .. يقول تعالى: <وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ>[1].

<فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ>[2].

<فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ>[3].

وهذه العقوبات تعم الدنيا والآخرة، وهي بحكم نتائج أعمال الإنسان في سنن الله تعالى.

والنوع الثالث من العقوبات عقوبة المجرمين بنفس جرائمهم .. فإن لأعمال الإنسان ظاهراً في هذه الدنيا، وباطناً في الآخرة، فإذا انتقل الإنسان من الدنيا إلى الآخرة وجد أعماله أمامه قد سبقه إليها، غير ان هذه الأعمال أحضرت له هذه المرة بصورة أخرى غير التي كان يعرفها في الدنيا، وهي باطن الأعمال وجوهرها.

فإن لأعمال الإنسان صورة ظاهرة في الدنيا، وحالة باطنة هي جوهر العمل وروحه، والذي يحضر للإنسان من عمله في الآخرة هو باطن العمل وليس ظاهره.

يقول تعالى: <يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا>[4].

ويقول تعالى: <وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا>[5].

ويقول تعالى: <يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ>[6].

وهذه الآيات وأمثالها في القرآن ظاهرة في أن أعمال الإنسان نفسها تنتقل إلى الآخرة[7]، وأن الإنسان عندما يحشر يواجه عمله الذي قدّمه بين يديه إلى الله <يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا>[8] والذي يحضر للإنسان في الآخرة هو عمله من خير أو شرّ.

غير أن الذي يعرفه الإنسان من عمله في الدنيا هو ظاهر عمله، ولأعمال الإنسان ظاهر يعرفه في الدنيا، وباطن يعرفه ويلقاه في الآخرة، وهو يختلف اختلافاً نوعياً عمّا يعرفه من ظاهر عمله في الدنيا.

فالذي يأكل أموال اليتامى ظلماً، لا يعرف من عمله إلاّ هذه الصورة التي ترغّبه وتشهّيه في هذا الإثم، وهو التمتع بأموال الأيتام .. ولهذا الإثم صورة أخرى، هي باطن العمل، تظهر له في الآخرة، وتلك قوله تعالى:

<إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا>[9].

وهذه النار التي يلقاها الإنسان في الآخرة هي باطن هذا الإثم، ولو كان يشهد باطن عمله في الدنيا لم يرتكبه قطّ.

ويقول تعالى: <وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ>[10].

إن للغيبة ظاهراً وباطناً .. أما الظاهر منه فهو الذي يشهّي الناس ويرغبهم فيها، وأما باطنها فهو أكل لحوم الأموات. وفي الحياة الدنيا لا يرى الناس إلاّ هذا الظاهر الذي يشهّيهم في الغيبة، ولو كانوا يرون باطن الغيبة، ويعرفون أنهم يلوكون بالغيبة لحوم إخوانهم لاشمأزوا ونفروا من الغيبة.

إنّ ما يلقاه المجرمون في نار جهنم من عذاب وسعير إنما هي أعمالهم تجسدت لهم في الآخرة بهذه الصورة .. وكذلك العكس ما يلقاه المؤمنون أصحاب التقوى والعمل الصالح من نعيم ورحمة في الجنة هو أعمالهم الصالحة تلقوها في الآخرة بهذه الصورة الجديدة التي لم يألفوها من قبل في الدنيا.

إن عمل الإنسان لا ينعدم من خير أو شر، فإذا مات الإنسان واجه عمله بعينه، غير أنه في الآخرة يظهر له بشكل آخر غير ما كان يعرفه في الدنيا.


  • [1] فاطر: 43
  • [2] الأنعام: 10
  • [3] النحل: 34
  • [4] آل عمران: 30
  • [5] الكهف: 49
  • [6] الزلزلة: 7-8
  • [7] راجع في توضيح وتفصيل هذا البحث الكتاب القيم: (العدل الإلهي)، للشهيد الشيخ مرتضى المطهري، فصل (عذاب الآخرة).
  • [8] آل عمران: 30
  • [9] النساء: 10
  • [10] الحجرات: 12
المصدر
كتاب شرح دعاء الأسحار - دعاء أبي حمزة الثمالي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى