أقسام العقوبات

جدول المحتويات
العقوبة ثلاثة أقسام:
- العقوبة التأديبية والتهذيبية: «إلهي لا تؤدبني بعقوبتك».
- عقوبة الاستدراج والمكر: «ولا تمكر بي في حيلتك».
- عقوبة التنكيل.
وإليك توضيح هذه العقوبات الثلاثة:
عقوبة التأديب والتهذيب
العقوبات التأديبية والتهذيبية متقاربة، ولكنهما يختلفان عن بعض ببعض الاختلاف.
فإن العقوبات التأديبية هي العقوبات التي تنبّه العبد إلى خطأه وزلـله وتوجّهه إلى الاستغفار والتوبة.
والعقوبات التهذيبية هي الابتلاءات التي يواجهها العبد في الدنيا أو في سكرات الموت عند الاحتضار أو في العقوبات التي يلقاها بعد موته .. وهذه الابتلاءات والعقوبات تزيل عنه أوضار الذنوب ورين المعاصي، فتهذبه وتصفيه لدخول الجنة، فإن الجنة دار السلام، ولا يدخلها المؤمنون إلاّ بعد أن يتطهروا ويتخلصوا عن كل ما لصق بهم في دار الدنيا من أوضار الذنوب.
والقدر المشترك بين هاتين العقوبتين، أنهما من أبواب رحمة الله تعالى بعباده العاصين، فإن العقوبة التأديبية تنبّه العبد إلى الإقلاع عن الذنب وتوجهه إلى الندم والاستغفار والتوبة.
وهذه رحمة من عند الله وفضل منه تعالى لعباده المذنبين.
والعقوبة التهذيبية تخلص العبد من أوضار الذنوب والمعاصي، ليصلح لدخول الجنة، فإن الجنة لا يدخلها المؤمن إلاّ بعد ان يتطهّر ويتخلّص من كل ذنوبه ومعاصيه، فهما من أبواب رحمة الله تعالى بعباده وفضله عليهم.
وهاتان العقوبتان، في مقابل عقوبة المكر والاستدراج، ففي عقوبة الاستدراج يستدرج الله العبد العاصي من نعمة إلى نعمة، فيتقلّب في النعم وينسى الاستغفار، فيموت وهو محمّل بالذنوب، معرض عن الاستغفار. وفي عقوبة التأديب التهذيب ينبّه الله العبد إلى الخطر المحدق، وضرورة الإقلاع عن الذنب والإسراع إلى التوبة، ليقلع عن الذنب، ويتحرر من أوزاره قبل أن يموت.
والفارق بين العقوبتين ينشأ من الفارق بين الطائفتين من العصاة والمذنبين.
فإن الطائفة الأولى من المذنبين، رغم اقترافهم للذنوب، وخروجهم عن دائرة الطاعة لم يخرجوا عن دائرة الرحمة الإلهية الواسعة التي وسعت كل شيء، فتشملهم رحمة الله، رغم ما يرتكبون من المعاصي والذنوب، فينبههم الله تعالى بذنوبهم بما يلقون من الابتلاءات في الدنيا إلى الخطر وضرورة الإسراع إلى الاستغفار والتوبة ويذهب الله تعالى بما يبتليهم في الدنيا، وبما يلقون في سكرات الموت عند الاحتضار وبعده .. يُذهب الله تعالى بذلك عنهم أوضار الذنوب، أو يخففه عنهم وهو من رحمة الله وفضله.
وأما الطائفة الثانية، وهم الذين يعاقبهم الله عقوبة المكر والاستدراج، أو عقوبة التنكيل .. فقد أخرجتهم ذنوبهم عن دائرة رحمة الله الواسعة التي لا تضيق بشيء، فيكلهم الله تعالى إلى أنفسهم وشهواتهم وأهوائهم ويُملي لهم بالنعمة بعد النعمة، حتى لا يذكروا ذنوبهم، ولا يندموا على أفعالهم، ولا يستغفروا الله، ولا يتخففوا من أوضارها، كما هم يشتهون ..
وعليه، حتى إذا أذنب الإنسان، يجب عليه ألاّ يقطع حبله عن حبل الله، ويبقى حبله موصولاً بحبل الله، لئلاّ تخرجه ذنوبه عن دائرة الرحمة، فتشمله رحمة الله، وتعيده إلى الله، وترفع عنه أوضار الذنوب والمعاصي، ليدخل إلى دار السلام.
عن سفيان بن سمط قال أبو عبد الله)ع): إذا أراد الله بعبد خيراً، فأذنب ذنباً، اتبعه بنقمة، ويذكّره الاستغفار. وإذا أراد بعبد شراً، فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار، ويتمادى بها، وهو قول الله عز وجل: <سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ>[1].[2]
وعن الراوندي، قال الصادق (ع): اتقوا الذنوب، وحذّروها إخوانكم، فوالله ما العقوبة إلى أحد أسرع منها إليكم، لأنكم لا تؤاخذون بها يوم القيامة.[3]
عقوبة التهذيب
وهذه العقوبة قد تكون في الدنيا على شكل ابتلاءات تصيب الناس، وتتوالى عليهم في الدنيا لتخفف عنهم الذنوب التي يحملونها، كالأمراض والمصائب التي تصيب الناس، فإن لم يخلص العبد فيها عن ذنوبه، تهجم عليه عند الموت على شكل سكرات الموت عند النزع – أعاذنا الله منها – فإن لم يخلص العبد منها عن ذنوبه تدخل عليه قبره، فيعذب فيه ليتخلص من ذنوبه ومعاصيه. فإن لم يتخلص منها رافقه العذاب إلى البرزخ. فإن لم يتخلص منها طال وقوفه عند الحساب حتى يتخلص منها. فإن لم يتخلص منها ادخله نار جهنم، – نعوذ بالله – حتى يتخلص منها في نار جهنم، ويطهر فيها، ليصلح دخول الجنة.
ونتلو عليك الآن طائفة من الروايات الإسلامية في هذا الشأن، عن رسول الله (ص) انه قال: إذا مرض المسلم كتب الله له كأحسن ما كان يعمل في صحته، وتساقطت ذنوبه، كما يتساقط ورق الشجر.[4]
وهذه المصائب والابتلاءات تخفف عن المؤمن في الدنيا الذنوب التي ارتكبها في غفلاته وسهوه.
عن الإمام زين العابدين (ع): ما من مؤمن تصيبه رفاهية في دولة الباطل إلاّ ابتلي قبل موته ببدنه أو ماله حتى يتوفر حظه في دولة الحق.[5]
وعن أمير المؤمنين (ع) ما من الشيعة عبد يقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتى يبتلى ببلية تمحص بها ذنوبه: إما في مال، أو في ولد، وأما في نفسه حتى يلقى الله عز وجل وما له ذنب، وإنه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه، فيشدد به عليه عند موته.[6]
عن أبي محمد العسكري (ع)، قال: دخل موسى بن جعفر (ع) على رجل قد غرق في سكرات الموت، وهو لا يجيب داعياً، فقالوا: يا ابن رسول الله وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف حال صاحبنا؟
فقال: الموت هو المصفاة تصفي المؤمنين من ذنوبهم، فيكون آخر ألم يصيبهم كفارة آخر وزر بقي عليهم.
وأما صاحبكم هذا، فقد نخل من الذنوب نخلاً، وصُفّي من الآثام تصفية، وخلص حتى نقي كما ينقى الثوب من الوسخ، وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا إلى الأبد.[7]
وقال رجل لامرأته: اذهبي إلى فاطمة بنت رسول الله (ص) فاسأليها عني: أنا من شيعتكم؟
فقالت: قولي: إن كنت تعمل بما أمرناك وتنهى عما زجرناك، فأنت من شيعتنا، وإلاّ فلا. فرجعت وأخبرته.
فقال: ياويلاه، ومن ينفك عن الذنوب والخطايا، فإذن أنا خالد في النار.
فرجعت المرأة فقال لفاطمة (عليها السلام) ما قال زوجها.
فقالت فاطمة (عليها السلام): قولي له ليس هكذا. إنّ شيعتنا من خيار أهل الجنة، وكل محبينا إذا خالفوا أوامرنا ونواهينا ليسوا من شيعتنا، وهو مع ذلك في الجنة بعد ما يطهَّرون، ولكن انما يطهَّرون من ذنوبهم بالبلايا والرزايا، أو عرصات القيامة بأنواع شدائدها، أو في الطبق الأعلى من جهنم بعذابها .. إلى أن نستنقذهم بحبّنا منهم، وننقلهم بحضرتنا.[8]
وعن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد الله (ع): والله لا یصف عبد هذا الأمر فتطعمه النار.
قلت: إن فيهم من يفعل ويفعل.
فقال: إنه إذا كان كذلك ابتلى الله أحدهم في جسده، فإن كان ذلك كفارة لذنوبه، وإلاّ ضيّق الله عليه في رزقه، فإن كان ذلك كفارة لذنوبه، وإلاّ شدد عليه عند الموت، حتى يأتي الله ولا ذنب له، ثم يدخله الجنة.[9]
وعن المفضل، قال: قال أبو عبد الله (ع): يا مفضل، إياك والذنوب، وحذرها شيعتنا، فوالله ما هي إلى أحد أسرع منها إليكم، إن أحدكم لتصيبه المعرّة من السلطان، وما ذاك إلاّ بذنوبه، وأنه ليحبس عليه الرزق، وما هو إلاّ بذنوبه، وأنه ليشدّد عليه عند الموت، وما هو إلاّ بذنوبه.
فلما رأى ما قد دخلني قال: أتدري لم ذاك يا مفضل، قال: قلت: لا أدري جعلت فداك.
قال: ذاك والله أنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة، وعجلت لكم في الدنيا.[10]
وهذه العقوبة، رغم أنها داخلة في دائرة رحمة الله الواسعة إلاّ أنها صعبة عسيرة.
عن الإمام الصادق (ع)، عن رسول الله (ص): إن العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام، وأنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن.[11]
وهذا هو النحو الاول من العقوبة التي يشير إليها الإمام زين العابدين (ع) في دعاء الأسحار بقوله: «إلهي لا تؤدبني بعقوبتك».
عقوبة الاستدراج والمكر
وهي النحو الثاني من العقوبات الإلهية. ظاهرها النعمة، وباطنها النقمة، بعكس عقوبة التأديب والتهذيب التي كان ظاهرها النقمة وباطنها الرحمة.
في هذه الطائفة من العقوبات يتقلب المجرمون من عافية ونعمة إلى عافية ونعمة. ويُمِدُّهم الله تعالى ويمهلهم ويملي لهم .. وهذا الإملاء والإمهال نحو من مكر الله تعالى بالمجرمين، فيغفلوا عن ذكر الله والاستغفار، ويغلبهم الطيش والغرور، حتى يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
وإنما يكلهم الله تعالى إلى أنفسهم، ويستدرجهم بالنعم، وينسيهم الاستغفار والتوبة، لأنهم اختاروا الاعراض عن رحمة الله .. ومن يعرض عن رحمة الله فلا تشمله الرحمة، لا لأنّ الرحمة الإلهية تضيق بأحد، فإن رحمة الله لا تضيق بشيء، والعبد شيء من الأشياء، وإنما لأنهم – أي المجرمون – أصرّوا على الإعراض عن رحمة الله، والدخول في دائرة مشاققة الله ومحاربته والتمرد عليه .. فيكلهم الله إلى أنفسهم، كما أرادوا، فلا تصيبهم معرّة، أو ابتلاء في الدنيا، كما يصيب المؤمنين، وإنما يتقلبون في النعمة والعافية، حتى ينقض عليهم الأجل، فيأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. وهذا هو الإملاء والاستدراج.
ومعنى الإملاء: الإمهال، فلا يعجّل الله بعذابهم كما يعجل بعذاب المؤمنين لينتبهوا من غفلاتهم، بل يمهلهم، ليمعنوا في التمرد والإجرام والإفساد، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
ومعنى الاستدراج أن يفسح الله لهم الطريق إلى المعاصي والذنوب، فيتدرجوا من عصيان إلى عصيان ومن إجرام إلى إجرام، دون أن يعيقهم إليه عائق من ابتلاء، أو مصيبة، كما يصيب المؤمنين المذنبين .. وكأنما الله تعالی يستدرجهم إلى ما يطلبونه من المعاصي والجرائم استدراجاً.
يقول تعالى: <وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ 182 وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ>[12]
توضيح للاستدراج
يستخدم البوليس طريقة (استدراج المجرمين) لإثبات الجريمة بالجرم المشهود، فيراقبون المجرم عن كثب، في جميع مراحل ارتكاب الجريمة، دون أن ينتبه إلى هذه المراقبة ليلقوا عليه القبض، وهو متلبس بالجريمة .. وذلك لغرض إثبات الجريمة بالجرم المشهود المحسوس.
ويجري نفس العمل في سنن الله تعالى، ولكن لغاية أخرى، وليس لإثبات الجريمة .. فإن جوارحهم تشهد عليهم بما أجرموا يوم القيامة، ولا حاجة إلى استدراجهم لإثبات الجريمة عليهم بالحسّ والشهود يوم القيامة.
وإنما يجري استدراج المجرمين في سنن الله تعالى لغرض تفعيل ما في نفوسهم ونيّاتهم من شرّ أو خبث، ونقصد بالتفعيل المعنى الفلسفي لهذه الكلمة، وهو الخروج من القوة إلى الفعلية.
فإن المجرمين يحملون في أنفسهم ونيّاتهم شراً وخبثاً كثيراً، كما يحمل الصالحون في نفوسهم خيراً كثيراً .. وكما يتمنّى الصالحون ان يوفقهم الله لتفعيل هذا الخير وإبرازه وتحقيقه، كذلك يتمنى المجرمون ان يحقّقوا ما في نفوسهم ونيّاتهم من شرّ وخبث ودناءة. فيفعّل الله لكل منهما ما يحبون ويتمنون.
والتفعيل الأول هو الاستدراج.
والتفعيل الثاني هو التوفيق.
والتوفيق في مقابل الاستدراج ومعنى الاستدراج – بناءً على ذلك – هو تفعيل ما يريده ويطلبه المجرمون من إجرام وإفساد.
كما أن التوفيق هو تفعيل ما يطلبه الصالحون من صلاح وخير وإصلاح.
ويتم هذا وذاك ضمن سنن الله تعالى فإن نواة التفاحة ونواة الشوكة تحملان بالقوة كل ما في التفاحة من نفع وفائدة، وكلما في الشوكة من أذى وضرر .. والله تعالى يفعل هذه وتلك في نظام الخلقة العام.
ولابد في نظام الخلقة العام من التفاحة والشوكة والصحة والمرض والخير والشرّ معاً.
وفي نفس الإنسان خير وشرّ، وعدل وظلم، فاذا كان الغالب عليه هو الخير وفقه الله تعالى للخير، وخلّصه مما في نفسه من شرّ بما في نفسه من الخير.
وإذا كان الشرّ غالباً أعانه الله على ما في نفسه من شرّ للتخلص منه، ووفقه لما في نفسه من خير.
فإذا تمادى الإنسان في الشرّ والضلال وَكّله الله إلى نفسه .. عندئذٍ يتمكن الشرّ من نفسه، ويطغى الشرّ على نفسه ونيّته وعمله، وهذا هو موضع الاستدراج في سنن الله تعالى.
فيملي له الله تعالى فيما يريد من ذنب وعصيان، ويمهله ليتمادى في عمله، ولا يبتليه فإن الابتلاء يصدّ صاحبه عن التمادي في الغي والشرّ.
وحيث ان هؤلاء المجرمين أعرضوا عن رحمة الله، وخرجوا من دائرة الرحمة الإلهية الواسعة التي وسعت كل شيء، فلا ينالون هذه الرحمة بالضرورة.
وعليه، فإن الله يمهلهم ليتمادوا في غيّهم، ويحققوا كل ما يطلبون من شرّ وفساد.
سئل أبو عبد الله الصادق (ع) عن الاستدراج، فقال: هو العبد يذنب الذنب، فيملي له، ويجدد له عنده النعم، فيلهيه عن الاستغفار من الذنوب، فهو مستدرج من حيث لا يعلم.[13]
وروي عن أمير المؤمنين (ع): «أيها الناس ليراكم الله من النعمة وجلين، كما يراكم من النقمة فرقين. إنه من وُسِّع عليه في ذات يده، فلم يرَ ذلك استدراجاً فقد أمِنَ مخوفاً، ومن ضُيِّق عليه في ذات يده، فلم يرَ ذلك اختباراً فقد ضيع مأمولاً».[14]
والإمام (ع) يشير هنا إلى أمن وخوف في غير موضعهما.
أما الأمن فهو ان يتقلب الإنسان في النعم، فيأخذه الغرور، ولا يحسب أنه قد يكون ذلك استدراجاً له .. وهذا هو الإحساس الكاذب بالأمن.
وأما الخوف والقلق الخاطئ فهو ان يواجه الإنسان ابتلاءً، فيقلق فيها، ويخاف منها، ولا ينظر إليها من منظار الاختبار الإلهي لعبده، فيخسر وعي باب من أبواب رحمة الله تعالى بعباده، وهو الابتلاء والاختبار.
وهذا هو النحو الثاني من العقوبات الإلهية، التي يشير إليها الإمام زين العابدين (ع) في دعاء الأسحار حيث يقول (ع): «ولا تمكر بي في حيلتك».
فإنه وإن كان ظاهره النعمة، فإن باطنه النقمة والعذاب، وعلى العبد ان يعوذ بالله تعالى ان يمكر به في حيلته، ويستدرجه إلى معصيته ومخالفته.
عقوبة التنكيل والاستئصال
نقرأ في دعاء الافتتاح: «وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة، وأعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة».
نتساءل لماذا كان الله تعالى «أرحم الراحمين» في موضع العفو والرحمة، وكان «أشد المعاقبين» في موضع النكال والنقمة .. وكان يناسب رحمته ان يكون أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأخف المعاقبين في موضع النكال والنقمة.
والجواب، إن الله تعالى مطلق في كل شيء شديد في كل شيء، وهو فعّال لما يريد .. فإذا أراد الرحمة كان شديد الرحمة، أرحم الراحمين، وإذا غضب وسخط على عبده – معاذ الله – كان أشدّ المعاقبين، ولكن رحمته أوسع من غضبه وقبل غضبه، وغضبه من عدله، ورحمته من فضله، ونحن نعوذ برحمته، وفضله من عدله.
ولذلك فلا يأمن العبد عقاب الله، لأنه أشدّ المعاقبين، ولا يخيب عن رحمة الله، لأنه أرحم الراحمين، ويتردد العبد بين رجاء الرحمة ومخافة العقوبة .. بين الخوف والرجاء، وهذه هي العلاقة الصحيحة بالله تعالى. والاستدراج في الدنيا، والعقوبة في الآخرة كل منهما حاصل من غضب الله تعالى.
إلاّ أن الاستدراج يختص بالدنيا، وعذاب التنكيل يعمّ الدنيا والآخرة، وهذا هو الفرق الأول بين العقوبتين.
والفرق الآخر أن عقوبة الاستدراج ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وعقوبة التنكيل ظاهرها العذاب وباطنها العذاب. وهذا هو الفرق الثاني بين عقوبة الاستدراج وعقوبة التنكيل.
يقول تعالى في تعميم عقوبة التنكيل للدنيا والآخرة: <فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ* فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ>[15].
ويقول تعالى فيما أنزل على قوم لوط من العقوبة والعذاب في الدنيا:
<فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ* مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ>[16].
ويقول تعالى عن العقوبة التي انزلها بأبرهة وجيشه من أصحاب الفيل:
<أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ 1 أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ 2 وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ 3 تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ 4 فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ>[17].
ويقول تعالى عن العذاب الذي أنزل على ثمود:
<فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُون>[18].
والفرق بين عقوبة التنكيل والعقوبات التأديبية التي تنزل على المذنبين من المؤمنين في الدنيا، أن الأولى عذاب الاستئصال كما نزل بقوم لوط، وثمود، وأصحاب الفيل، والسبت، وقوم صالح، والثاني عذاب تنبيه وتذكير.
وإذا نزل عذاب التنكيل والاستئصال بقوم، فلا ينفعهم إيمانهم ودعاؤهم لرد العذاب إلاّ ما كان من قوم يونس .. فقد نزل بهم العذاب، ولكنهم لما لجأوا إلى الله بالدعاء والتضرّع والتوبة، دفع الله عنهم العذاب.
<فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ>[19].
وهذه العقوبة كالعقوبة السابقة لا تنزل بقوم إلاّ عندما يعرضون عن رحمة الله إعراضاً كاملاً، وعندئذٍ يخرجون عن دائرة رحمة الله.
وحسبك في هذه العقوبة أنها تنزل بالإنسان عن غضب الله وسخطه الذي لا تطيقه الجبال الرواسي ولا تقوم له السماوات والأرض، نعوذ بالله من غضبه وسخطه.
وعن هذه العقوبة ومقارنتها بما يبتلي الله تعالى عباده في الدنيا من أنواع الابتلاء .. يقول أمير المؤمنين (ع) كما في رواية كميل بن زياد رحمه الله في دعاء كميل:
وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها، وما يجري فيها من المكاره على أهلها .. على أن ذلك بلاء ومكروه قليل مكثه، يسير بقاؤه، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة، وجليل وقوع المكاره فيها، وهو بلاء تطول مدته، ولا یدوم بقاءه ولا يخفف عن أهله، لأنه لا يكون إلاّ عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، يا سيدي، فكيف بي، وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين.
ثم يذكر الإمام (ع) أن اعظم ما في هذه العقوبة هو شعور العبد في نار جهنم أن الله أبعده عنه وحكم بفراقه له، وأنه تعالى لا يحب جواره وقربه، وأنه يمقته وغاضب عليه. إن هذا الإحساس لدى العبد، وهو يعذب في نار جهنم أشدّ شيء عليه في هذه العقوبة، رغم كلّ قساوة نار جهنم وضراوتها وعذابها، فاستمع إليه (ع) كيف يصوّر حالة العبد في نار جهنم، وهو يشعر بأن الله غاضب ساخط عليه، مفارق له، وحاشره مع أعدائه في مكان واحد.
« فَلَئِنْ صَيَّرْتَنِي لِلْعُقُوباتِ مَعَ أَعْدائِكَ، وَجَمَعْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَهْلِ بَلائِكَ، وَفَرَّقْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحِبّائِكَ وَأَوْلِيائِكَ؛ فَهَبْنِي يا إِلهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي، صَبَرْتُ عَلَى عَذابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِراقِكَ؟ وَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلى كَرامَتِكَ؟ أَمْ كَيْفَ أَسْكُنُ فِي النّارِ وَرَجَائِي عَفْوُكَ؟».
ثم يقسم (ع) .. انْ لو تركه الله مع أعدائه في نار جهنم، وأقصاه عن قربه وأحبائه .. أن يعلن في وسط نار جهنم، ومن بين أعدائه ومناوئيه – لو تركه ناطقاً – عن حبّه له، وعظيم رجائه به، وأمله في رحمته، ويضج إليه في وسط نار جهنم ضجيج الآملين، ويطلبه بصراخه وعويله، ويبكي لفقده وفراقه، بكاء الفاقدين .. استمع إليه (ع):
«فَبِعِزَّتِكَ يا سَيِّدِي وَمَوْلايَ أُقْسِمُ صادِقاً، لَئِنْ تَرَكْتَنِي نَاطِقاً لَأَضِجَّنَّ إِلَيْكَ بَيْنَ أَهْلِها ضَجِيجَ الآمِلِينَ، وَلَأَصْرُخَنَّ إِلَيْكَ صُراخَ المُسْتَصْرِخِينَ، وَلَأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بُكاءَ الفاقِدِينَ، وَلَأُنادِيَنَّكَ أَيْنَ أَنْتَ يا وَلِيَّ المُؤْمِنِينَ، يا غايَةَ آمالِ العارِفِينَ، يا غِياثَ المُسْتَغِيثِينَ، يا حَبِيبَ قُلوُبِ الصّادِقِينَ».
- [1] الأعراف: 182
- [2] بحار الأنوار: ج5، ص217، ح 9
- [3] بحار الأنوار: ج6، ص57، ح 8
- [4] مكارم الأخلاق: 195
- [5] نفس المصدر
- [6] بحار الأنوار: ج6، ص 157، ح 4
- [7] بحار الأنوار: ج 6، ص155، ح 10
- [8] لئالئ الأخبار: ص 458
- [9] بحار الأنوار: ج6، ص 160، ح 26
- [10] بحار الأنوار: ج6، ص 157، ح 15
- [11] الكافي: ج 2، ص 272
- [12] الأعراف: 182-183
- [13] بحار الأنوار: ج5، ص218، ح 11
- [14] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: ص 536
- [15] فصلت: 15-16
- [16] هود: 82-83
- [17] الفيل: 1-5
- [18] الذاريات: 44
- [19] يونس: 98