مواضيع

فقر الإنسان إلى الله

إن فقر الإنسان إلى الله في مرحلتين:

في مرحلة خلقه وتكوينه. وهذه هي المرحلة الأولى لفقر الإنسان إلى الله.

وفي إفاضة الرحمة عليه من خزائن رحمة الله بعد خلقه وتكوينه.

ففي مرحلة الخلق والتكوين خلق الله تعالى الإنسان وعاءً لرحمته، وهذا الوعاء هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وهذا هو المعنى الأول لفقر الإنسان إلى الله.

وفي المرحلة الثانية يفيض الله على الإنسان رحمته من خزائن رحمته <وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ>[1].

وهذه هي المرحلة الثانية لفقر الإنسان إلى الله، وفيما يلي توضيح لهاتين المرحلتين من فقر الإنسان إلى الله:

المرحلة الأولى: مرحلة الخلق والتكوين

خلق الله الإنسان وعاءً للخير والرحمة والمعرفة.

وهذا هو الذي يعبر عنه الفلاسفة بـ«القوة» ..

فنقول: ان الإنسان عندما يولد لا يكون واجداً للمواهب والقيم والمعرفة من عند الله بالفعل، وإنما يحمل هذه الأمور جميعاً بالقوة، ومعنى القوة هنا: إن الإنسان وعاء صالح لتلقي هذه المواهب من القيم والمعرفة والبصيرة .. التي يرزق الله عباده، ووعاء لكل القيم والخصال الربانية التي ينعم الله تعالى بها على الإنسان.

فإن الإنسان يولد من أمه جاهلاً لا يعلم شيئاً، ولكنه وعاء صالح للعلم والمعرفة، يتلقّى العلم والمعرفة من لدن الله بالوسائل التي يسّرها الله تعالى لذلك.

يقول الله تعالى: <وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا>[2].

وقال: <عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ>[3].

ويولد الإنسان وهو لا يعي من أمر المعرفة والهداية شيئاً، ولكنه وعاء صالح للمعرفة والهداية، فيرزقه الله تعالى الهداية والمعرفة:

<وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى>[4].

<إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى>[5].

ان هذا الوعاء وعاء خير ولم يخلق الله تعالى الإنسان وعاءً للشر، وهو وعاء صالح وليس وعاءً فاسداً .. وهذا الخير والصلاح مغروسان في فطرة الإنسان.

يقول تعالى: <فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ>[6] .. إن الدين القيم الذي جاء به الأنبياء (عليهم السلام) من عند الله يطابق الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ..

إن الإنسان يحب الصدق، والأمانة، والإيثار، والعدل، والإحسان، والاستقامة، والوفاء، والعفاف، والشجاعة، والإنصاف.

ويكره الكذب، والخيانة، والحنث، وسوء الأخلاق، والابتذال، والإساءة، والجبن، والبخل، والشح، واللؤم.

ويحترم العلم ويحبه، ويكره الجهل ويزدريه .. ويحب الجمال في كل شيء، ويكره القبيح في كل شيء. كما يحب النظافة، ويكره القذارة، ويحب الروائح الطيبة، ويكره الروائح النتنة، ويحب النظام، ويكره الفوضى .. ويحب الطيب من الطعام والشراب والنكاح، ويكره الخبيث منه.

وليس الأمر كما يقول منظروا الفلسفة الوجودية:

إن الإنسان يوجد، ثم تتقرر ماهيته، ووجوده يسبق ماهيته .. بل يوجد الإنسان بهويته وماهيته الخاصة الإنسانية، وهي الفطرة التي فطره الله تعالى عليها.

وهذه هي المرحلة الأولى من مراحل فقر الإنسان إلى الله، وهي مرحلة الخلق والتكوين.

المرحلة الثانية: مرحلة الإفاضة

الإنسان من أعظم منازل رحمة الله تعالى ..

وقد خلق الله تعالى الإنسان وعاءً صالحاً لاستقبال كثير من أبواب رحمة الله، فيهب الله تعالى الإنسان النور، والمعرفة، والبصيرة، والفهم، والقوة، والذكر، والشكر، والتقوى، والرقة، والصدق، والإيمان، والتوحيد، والإخلاص، وحب الخير، والسداد، والصواب، والعقل، والفهم، والشجاعة، والصبر، والاستقامة، والعفاف، والجود، والإيثار، والعاطفة، والوفاء، والرضا بأمر الله، والتسليم لله، والتفويض له تعالى، والتوكل عليه، وحبه، والتضرع إليه، والإخبات له.

وهذه الإفاضات الإلهية وغيرها من إفاضات الرحمة الربانية تفيض على الإنسان من خزائن رحمة الله.

<وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ>[7].

هذه الإفاضات الربانية من خزائن رحمة الله على قلب الإنسان ونفسه وعقله، لم يفسد الإنسان وعاء نفسه.

ومن إفاضات الرحمة التي يفيضها الله تعالى على عباده الصالحين: المغفرة والشكر، والذكر، والرضا، والحب.

ونقصد بالشكر هنا شكر الله لعبده، فإن الله غفور لعباده، شكور، يشكر لهم عبوديتهم وطاعتهم واستجابتهم لأمره، ويغفر لهم سيئاتهم وذنوبهم، إذا تابوا إلى الله <إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ>[8].

وكما يذكر العبد ربه، يذكر الله عبده.

<فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ>[9].

وكما يحب العبد ربه، يحب الله تعالى عبده، إذا أحبه عبده، واتبع رسوله (ص).

<قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ>[10]

وكما يرضى العبد عن ربه ويرضى بقضائه يرضى الله تعالى عن عباده، ويبادله الرضا بالرضا.

<رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ>[11].

إذن يفيض الله على الصالحين من عباده عفوه وشكره، ورضاه، وحبه، وذكره.

إن وعاء النفس الإنسانية من أشرف الأوعية التي خلقها الله تعالى، يتنزل عليها من عند الله النور والبصيرة، والهدى، والمغفرة والاستقامة، ورضاه تعالى، وشكره، وذكره لعبده ..

وما أكثر بؤس الإنسان وشقاؤه، وظلمه لنفسه، وجنايته عليها عندما يجهل قيمة هذا الوعاء الذي رزقه الله دون كثير من خلقه <إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً>[12].

ومن هذه الإفاضات إفاضة النصر على المؤمنين، فإن النصر من عند الله، يهبه لمن يشاء من عباده، طبقاً لسنن وقوانين إلهية في الحياة، كما أن التوفيق في الحياة من مواهب الله تعالى لعباده، يهبه لمن يشاء من عباده، طبقاً لقوانين وسنن يقررها الله.

ومن هذه المواهب الإلهية: الرزق، فإن الرزق من عند الله، يهبه الله لمن يشاء، طبقا للسنن الإلهية في حياة الناس، وهكذا الإنسان فقير إلى الله في كل شيء، لا يملك شيئاً من الرزق والنصر والتوفيق والسلامة والعافية والعزة والكرامة، إذا لم يرزقه الله تعالى منه.

ولا يملك شيئاً من النور والهدى، والبصيرة والإيمان، والإخلاص، والتقوى، والرحمة والرقة، والدعاء، والتوبة إذا لم يرزقه الله تعالى .. وهذا هو قوله تعالى: <يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ>[13].

وهذه هي المرحلة الثانية لفقر الإنسان إلى الله.


  • [1] الحجر: 21
  • [2] النحل: 78
  • [3] العلق: 5
  • [4] الضحى: 7
  • [5] الليل: 12
  • [6] الروم: 30
  • [7] الحجر: 21
  • [8] فاطر: 34
  • [9] البقرة: 152
  • [10] آل عمران: 31
  • [11] المائدة: 119
  • [12] الأحزاب: 72
  • [13] فاطر: 15
المصدر
كتاب شرح دعاء الأسحار - دعاء أبي حمزة الثمالي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى