العفو والرحمة

ولا يسعنا أن نختم الحديث عن العقوبة والعذاب الإلهي إلاّ ان نشفعه بالحديث عن عفوه ورحمته تعالى، فإن رحمته وسعت كلّ شيء، والعبد مهما بلغ ذنبه شيء من الأشياء، وعفوه قبل غضبه وأوسع من غضبه.
روى الكراجكي في «الكنز» عن عطاء بن يسار عن أمير المؤمنين (ع)، قال: يوقف العبد بين يدي الله تعالى، فيقول: قيسوا (قارنوا) بين نعمي عليه وبين عمله. فيستغرق النعم العمل. فيقولون: قد استغرق النعم العمل.
فيقول: هبوا له النعم، وقيسوا بين الخير والشرّ منه.
فإن استوى العملان أذهب الله الشرّ بالخير، وأدخله الجنة، وإن كان له فضل (أي كانت حسناته تغلب سيئاته) أعطاه الله بفضله. وإن كان عليه فضل أي كانت سيئاته تغلب حسناته)، وهو من أهل التقوى، ولم يشرك بالله تعالى، واتقى الشرك، فهو من أهل المغفرة، يغفر الله له برحمته إن شاء، ويتفضل عليه بعفوه[1].
وفي هذا الحديث يأمر الله تعالى أن يقاس عمل العبد لله تعالى بنعم الله عليه أولاً، استغرقت النعم العمل، قالت الملائكة لقد استغرقت النعم العمل.
وحيث تستغرق النعم الحسنات، فلا محالة تبقى السيئات مكشوفة لا يغطيها شيء، فيأمر الله تعالى ملائكته بإلغاء المقارنة الأولى، والحساب على المقارنة الثانية.
فيقول: «هبوا له النعم، وقيسوا بين الخير والشرّ منه» وهناك المقارنة تكون بين حسناته وسيئاته.
وهي لا تخلو من ثلاث حالات:
فأما أن تفضل حسناته على سيئاته، أو تتساوى سيئاته وحسناته، أو تفضل سيئاته على حسناته.
فإن تساوت حسناته وسيئاته أذهب الله الخير بالشرّ، كما في الرواية.
وإن فضلت حسناته على سيئاته وكان له فضل أعطاه الله بفضله.
وإن فضلت سيئاته على حسناته وكان صاحبها من أهل التقوى، ويتّقي الشرك بالله غفر الله له برحمته.
مِنْ أَينَ ليَ الخيرُ يا رَبِّ وَلاَ يُوجَدُ إلاّ مِنْ عِنْدِكَ؟ وَمِنْ أَينَ ليَ النَجاةُ وَلاَ تُسْتَطاعُ إلاّ بِكَ؟ لا الّذي أَحَسَنَ اسْتَغْنى عَنْ عَوْنِكَ وَرَحمَتِكَ، وَلاَ الذي أساءَ واجْتَرَأَ عَلَيكَ وَلمَ يُرْضِكَ خَرَجَ عَنْ قُدْرَتِكَ.
فإن الله تعالى هو الذي يمكّن الإنسان من النجاة بما يلهمه من الهداية، ولا يملك الإنسان خيراً ولا نجاة من دونه تعالى. يقول تعالى: <مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ>[2].
في هذه الفقرة من الدعاء يضع الامام علي بن الحسين زين العابدين (ع) الإنسان في موضع وسط بين الفقر إلى الله والتسليم لسلطان الله وقهره.
وليس بوسعه ان يستغنى عن الله في فقره، وأنّى له ان يستغنى عن الله في فقره إليه تعالى، وليس بوسعه ان يخرج عن سلطان الله في قهره تعالى، وأنّى له ان يخرج عن حوزة سلطان الله، والكون كله حوزة سلطان الله خاضع لأمره ونهيه، فيقول الامام (ع): «مِنْ أَينَ ليَ الخيرُ يا رَبِّ وَلاَ يُوجَدُ إلاّ مِنْ عِنْدِكَ؟».
من أين للعبد ان يظفر بشيء من الخير إلاّ ان يكون ذلك من عند الله وبإذن الله، وأنّى للعبد أن يظفر بالنجاة إلاّ إذا رزقه الله النجاة.
«لا الّذي أَحَسَنَ اسْتَغْنى عَنْ عَوْنِكَ».
إنما يُحسن المحسنون بتمكين الله تعالى لهم من الإحسان، وهداية الله لهم إلى الإحسان، ولولا أن الله تعالى يمكّن عباده من الإحسان، ولولا ان الله يهدي عباده إلى الإحسان لم يتمكّن احد من شيء من الإحسان.
والجزاء الذي يعطيه الله للمحسنين إنما يعطيه تفضّلا منه ورحمة، فلا يستحق العبد جزاءً على الإحسان، لان الطاعة حق لله تعالى على عباده، وليس لهم ان يطالبوا بالجزاء إذا ادوا إليه حقه في الطاعة، فإذا أحسن العبد فإن إحسانه محفوف بفقرين، فإن الله مكّنه من الإحسان، وهداه إليه وهذا هو الفقر الأول، ورزقه على الإحسان الجزاء، تفضّلا منه ورحمة، وهذا هو الفقر الثاني.
فقر في التوفيق للإحسان وفقر في جزاء الإحسان.
وهذا هو الشطر الأول من الحصار الذي يحاصر العبد بين يدي الله وهو شطر (الفقر).
والشطر الثاني شطر القهر. يقول (ع):
«وَلاَ الذي أساءَ واجْتَرَأَ عَلَيكَ وَلمَ يُرْضِكَ خَرَجَ عَنْ قُدْرَتِك».
واما الذين يسيئون ويجترؤون عليك ويتجاوزون حدودك وأحكامك، فإنهم لا يخرجون عن حوزة سلطانك وقهرك، وأنّى للعاصين أن يجدوا مفراً يفرون إليه من قهرك وغضبك «إلاّ ان يفروا من غضبك إلى رحمتك»، وأنى لهم ان يجدوا ملجئاً يهربون إليه من سخطك «إلاّ ان يلجؤوا إلى رحمتك وعفوك من سخطك».
وهذا هو الشطر الثاني من الحصار الذي يحاصر العبد بين يدي الله، وهو شطر (القهر).
والإنسان يقع بين يدي الله، بين هذين الشطرين: شطر الفقر والقهر.
وليس له من سبيل إلى ان يستغني عن الله في فقره إلى الله، وليس له ان يخرج عن سلطان الله في قهره تعالى وغضبه.
وهذا هو الموقع الصحيح للعبودية تجاه الله تعالى. وهذا هو مطلع الدعاء، وخير مطالع الأدعية ان يعرض العبد على ربه فقره إليه، وتسليمه لسلطانه وقهره .. وأنه ليس له ان يستغني عن الله تعالى في فقره، ولا ان يخرج عن حوزة سلطان الله وقهره.
لا يملك إلاّ ما أعطاه الله تعالى من فضله، وإذا سلبه الله تعالى بعض هذه النعم فلا يجد إليها سبيلا من غير الدعاء والتضرع إلى الله .. وفي نفس الوقت هو مقهور بسلطان الله وقوته، ولا حول ولا قوة له للخروج عن سلطان الله وحكمه النافذ في خلقه، إلاّ بسلطان الله تعالى وحكمه.
وهذا افضل ما يقدّمه الإنسان للدعاء بین يدي الله تعالى .. فإن الدعاء هو أن يعلن العبد فقره وفاقته وحاجته إلى رحمة الله ويقرّ بسلطان الله القاهر عليه وجنايته على نفسه في التمرد على أحكام الله وحدوده.
هذا هو روح الدعاء والاستغفار: بين الفقر والقهر
وعندما ينطلق الإنسان في الدعاء من موقف الفقر والقهر بين يدي الله تعالى، فلا يملك إلاّ الرجاء والخوف والتسليم، الرجاء إلى رحمة الله تعالى في فقره، والخوف من غضب الله وسخطه، والتسليم لسلطانه وقهره، والإنسان يقع بينهما.
وفيما يلي نتوقف عند هذين البعدين من شخصية الإنسان:
- الفقر إلى الله
- التسليم لقهر الله.
أولاً: الفقر
خلق الله الإنسان وعاءً للخير، والخير يفيض على الإنسان من جانب الله .. ومن دون ان يفيض الله الخير والرحمة على الإنسان لا يملك الإنسان شيئاً من الخير .. وهذه هي المرحلة الثانية من فقر الإنسان إلى الله.
وإلى هذا يشير الامام زين العابدين (ع): «مِنْ أَينَ ليَ الخيرُ يا رَبِّ وَلاَ يُوجَدُ إلاّ مِنْ عِنْدِكَ؟».
فلا يجد الإنسان سبيلا إلى الرحمة والخير إلاّ من عند الله.
ولابد من وقفة تأمل عند هذه الكلمة.