أسرار التكرار في الدعاء والنداء

جدول المحتويات
والتكرار في النداء كما في هذه الفقرة من الدعاء: (يا ربّ، يا ربّ، يا ربّ) ليعمّق حالة النداء وتأكيدها وتركيزها في نفس الإنسان .. وأن للتكرار أثر واضح في تأكيد حالة الدعاء والتضرع واللجوء إلى الله.
وقد ورد التأكيد والتكرار في الروايات على تكرار الأذكار ومنها الأسماء الحسنى، وتكرار طائفة من الأدعية، والتكرار في قراءة القرآن.
وفي الأمر سر ونحاول هنا بمناسبة التوحيد بتكرار ذكر (الرب) أن نفتح هنا طرفاً من ملف هذه المسألة.
التكرار في الأذكار يعمّق حالة الحضور من الإنسان الذاكر، والتكرار في الدعاء يعمّق حالة الطلب عند الداعي، والتكرار في قراءة القرآن يعمّق في نفس القارئ حالة الانشداد إلى الخطاب الإلهي.
وتكرار الصوم يعمّق حالة (كفّ النفس) و(الطاعة) عند الصائم، وتكرار الاستغفار يعمق حالة التوبة والندم والخجل والعزم على الكف عن المعاصي في نفس المستغفر.
والصلاة مجموعة متكاملة من الأحوال، منها الذكر، والشكر، والطاعة، والعبودية، والخضوع، والخشوع، والأدب، ووعي حضور الله، والدعاء، والتسبيح، والحمد، ونية القربة، وغيرها من المفاهيم الرفيعة التي تتضمنها الصلاة، وتكرار الصلاة في كل يوم يعمّق هذه الحالات جميعاً في نفس الإنسان.
ولا يختلف التكرار في المهارات الفنية التي تقوم بها (جوارح) الإنسان كالطباعة السريعة والسياقة والسباحة والخط والرسم وسائر المهارات عن الأحوال التي تقوم به (جوارح) الإنسان كالذكر والدعاء والصلاة والتسبيح والحمد والصوم وكف النفس. إن الصلاة والصوم جهد للجوارح، لا شك في ذلك، ولكن روح الصلاة والصوم والذكر هو الجهد الذي تقوم به الجوانح، وهذا الإجمال له تفصيل، وإليك هذا التفصيل.
التكرار في الدعاء
إن حقيقة الدعاء وروحه (الفقر) و(الطلب)، وهي ان يتحسس الإنسان فقره إلى الله، <يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّه>[1] ويتحسس في نفسه الإقبال على الله بالطلب والرجاء والدعاء، <ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ>[2]، <قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ>[3].
وهاتان الحالتان تقترنان عادة، فلا يتحسس الإنسان الفقر في نفسه إلى الله إلاّ مع الدعاء والطلب، ولا يتحسس الإنسان الدعاء والطلب إلاّ مقارناً لوعي الفقر إلى الله.
وهما من أعظم منازل رحمة الله تعالى، وإذا استطاع الإنسان أن يحقق في نفسه وعي الفقر والفاقة إلى الله، وحالة الإقبال على الله في الدعاء والطلب فقد أحلّ في واحد من أعظم منازل رحمة الله، فليغتنم ذلك، وليكثر من الدعاء والطلب، فإن المسؤول كريم، وليس في المسؤول شح وبخل، وإنما الخلل في نفس السائل ودعائه.
إن قوله تعالى: <ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ>[4]. من حقائق الكون الكبرى وسنن من سنن الله تعالى لا تتحول ولا تتبدل، إلاّ ان يعجز العبد من تحقيق حالة الفقر والدعاء في نفسه، أولا يكون السؤال في مصلحة السائل فيؤجل الله تعالى الاستجابة لعبده إلى حين يراه صالحاً له، أو يرزقه بدلاً عنه أبواباً أخرى من رزقه (ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور)[5].
وهذا الوعي وهذا الإقبال (وعي الفقر) و(الإقبال على الله) يتعمقان في نفس الإنسان ويترسخان بالتكرار، وهذا التعميق في الوعي والإقبال بالتكرار أمر محسوس لكل أحد.
التكرار في الأذكار
الذكر ضد الغفلة، والناس بين غافل عن الله وذاكر له. والغفلة حجاب يحجب الإنسان عن الله، فإذا زالت الغفلة بالذكر يرتفع هذا الحجاب.
وعندما يرتفع حجاب الغفلة يجد الإنسان نفسه بحضور الله، ويعي حضور الله، ويملأ هذا الوعي قلبه وعقله، فلا يغيب الله تعالى عن عقله وقلبه .. وكأنه يرى الله تعالى رؤية متصلة شفافة واضحة، ليس فيها لبس.
وهذا هو معنى الحديث عن رسول الله (ص): اعبد الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه، فإنه يراك[6].
وفي حديث آخر عن رسول الله (ص): اعبد الله ولا تشرك به شيئاً واعمل لله، كأنك تراه[7].
والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك[8].
وهذا هو الشطر الأول من الرؤية والشهود، وهو رؤية العبد لربه وشهوده له، والشطر الآخر من الرؤية والشهود شهود الله تعالى لعبده.
وإذا كان الشهود الأول من درجات الصديقين، فإن الإيمان بالشهود الثاني من لوازم الإيمان، وإذا شك العبد فيه اختل إيمانه.
وكان رسول الله (ص) – كما في الرواية – إذا قرأ قوله تعالى: <ولاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً>[9] بكى بكاءً شديداً[10].
وعندما تتكامل هذه الحالة في نفس العبد يرى نفسه دائماً بحضور الله، في كل زمان ومكان.
ومن يرى نفسه بحضور الله، فلا يمكن أن يعصي الله بحضوره، ويتأدب بأدب الحضور، ولا يفارق ذكر الله قلبه ولسانه.
في الحديث القدسي: أن موسى بن عمران (ع) ناجى ربه، قال: يا رب أبعيد أنت مني فأناديك، أم قريب فأناجيك، فأوحى الله جل جلاله: أنا جليس من ذكرني[11].
وفي رواية أخرى: يا موسى أنا جليس عبدي حين يذكرني، وأنا معه إذا دعاني[12].
والتعبير هنا تعبير رمزي بالتأكيد، يرمز إلى شدة وعي العبد لحضور الله، حيث يرى العبد نفسه بحضور الله، ومن يكون بحضور الله يتأدب بأدب الحضور أولاً.
ويملأ حضور الله تعالى قلبه وعقله، ولا يفارق ذكر الله قلبه ولسانه ثانياً.
ويعصم هذا الوعي (وعي الحضور) من ارتكاب المعاصي والذنوب ثالثاً.
عن الحسين البزاز، قال: قال لي أبو عبد الله (ع): ألا أحدثك بأشد ما فرض الله عز وجل على خلقه؟
قلت: بلى.
قال: انصاف الناس من نفسك، ومواساتك لأخيك، وذكر الله في كل موطن.
أما إني لا أقول سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلاّ الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك .. ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هممت على طاعته أو معصيته[13].
وتكرار الذكر له دور مؤثر في تشديد وعي الحضور وتعميقه الذي ورد فيه: «حتى كأنك تراه»، أو «أنا جليس من ذكرني».
إن قطرة الماء التي تقطر على الصخرة الصلبة تحفر الصخرة بالتكرار ومرور الزمن .. وقلب الإنسان اكثر استجابة للتكرار والتأكيد، ولا مناقشة في الأمثال.
فقد لا يكون للذكر في المرة الأولى أو المرات الأولى تأثير كبير في تحضير النفس، وتوعية الحضور الإلهي، ولكن التكرار والتأكيد يعمّق لدى الإنسان حضور النفس ووعي الحضور الإلهي.
التكرار في قراءة القرآن
روي أن رسول الله (ص) كرر ذات يوم (بسم الله الرحمن الرحيم) عشرين مرة[14].
وعن أبي ذر (ع)، قال: أقام بنا رسول الله (ص)، فقام ليله بآية يرددها <إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ>[15]، وتمام الآية <وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ>[16].
وقام سعيد بن جبير (ع) ليلة يردد هذه <وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ>[17].
وقام بعضهم للصلاة في مقام ابراهيم (ع) ليلاً، فلما بلغ قوله تعالى: <أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ>[18]، فأخذ يكررها ويبكي حتى الصباح. إن آيات القرآن بصائر ونور، ومهما يكرر الإنسان الآية من القرآن تتعمق هذه البصائر ويترسخ هذا النور في قلبه وعقله.
وقد يمرّ الإنسان بالآية من كتاب الله، فلا تنكشف لديه ما فيها من بصائر ونور، ولكن مهما يعيد الآية ويكررها تتكشف لديه بصائر الكتاب وتترسخ في نفسه.
وإن التكرار والتأكيد يفعّل هذه البصائر في نفوس الناس. ومهما يرددها الإنسان أكثر يتضاعف تأثير هذه الآية في نفس قارئها أكثر.
وبالتكرار يتحول مقولة القول إلى الحال. وهذا هو الانقلاب الأول داخل النفس، ثم يتحول الحال إلى ملكة نفسانية راسخة ثابتة، وهذا هو معنى الانقلاب الثاني.
ومن التكرار في تلاوة آيات القرآن ما ورد في الصلاة المعروفة بصلاة الإمام المهدي صاحب الزمان (عجل الله فرجه) من تكرار: «إياك نعبد وإياك نستعين» من سورة الحمد، مائة مرة في كل ركعة، وهو عمل جليل يؤكد في نفس الإنسان حالة اللجوء إلى الله تعالى في العبادة (على الخط الصاعد) والاستعانة (على الخط النازل)، ويعمّق في نفسه حصر العبادة والاستعانة بالله.
وملاحظة أخرى لابد من الإشارة إليها في هذا السياق هي ان آيات القرآن خطاب الله تعالى إلى الناس، وإذا استشعر الإنسان هذا المعنى الرفيع، وعلم أن الله يخاطبه من علياء كبريائه وعظمته وجلاله، يجد في خطابات القرآن لذة لا تفوقه لذة، وينشدّ إلى هذا الخطاب، ولا يكاد يطيق ان يفارقه.
إن خطاب (يا أيها الإنسان)، (يا أيها الناس)، (يا أيها الذين آمنوا) يتوجه من لدن الله تعالى إلى الإنسان.
وأي لذة أعظم من أن يجد الإنسان نفسه موضع نداء الله تعالى وخطابه.
وقد حكي عن بعض العارفين أنه كان يقول: كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة، حتى تلوته كأني أسمع رسول الله (ص) يتلوه على أصحابه، ثم تلوته وكأن جبرئيل يلقيه على رسول الله (ص)، ثم تلوته، وكأن الله يخاطبني به فوجدت فيه لذة ونعيماً لا أصبر عنه.
وقد كان يقول أحدهم: «لو طهرت القلوب لم تشبع من القرآن».
فلا محالة يكون للتكرار والتأكيد تأثير في انشداد الإنسان بالخطاب الإلهي، وكلما ينشد الإنسان بخطاب الله، يفتح له القرآن كنوزه أكثر من ذي قبل.
التكرار في الصلاة
قد شرّع الله تعالى التكرار في الصلاة فريضة في صلب التشريع، وجعلها فرضاً على الناس في كل يوم خمس مرات.
ولأمر ما أوجب الله تعالى هذا الفرض على عباده بهذه الصورة من التكرار.
فإن الصلاة تتضمن مجموعة متكاملة من الأذكار والأعمال والدعاء والتسليم والشهادة والتحميد والتسبيح والتكبير والتوحيد والإخلاص والخضوع والخشوع والوقوف بين يدي الله، والالتزام بأدب الحضور بين يدي ذي الجلال والكبرياء.
وهذه المجموعة المتكاملة التي تتضمنها الصلاة من التكبير إلى التسليم، هي غذاء كامل للعقول والنفوس والقلوب وللفرد والمجتمع.
ولا غنى للإنسان، مهما يكن موقفه وثقافته وحظه من القرب من الله من هذه المجموعة المتكاملة التي تتضمنها الصلاة.
وحاجة الإنسان إليها تدخل في دائرة الضرورات التي لابد للإنسان منها في تكوين عقله وقلبه، ومن دونها يبقى الإنسان يعاني من عجز ونقص واضح في شخصيته، لا يسده شيء غير الصلاة.
وأبرز مثل على ذلك ما يعانيه الإنسان في الغرب من الانفصام والانشطار في الشخصية والإحساس بنضوب روافد الفطرة في النفس، والشعور بالغربة وسط ضجيج الحياة الاجتماعية وانهدام الحياة المعنوية والروحية مرة واحدة .. وذلك رغم التقدم العلمي الكبير الذي أحرزه الغرب في العلوم التجريبية والتقنية.
إن العجز والنقص الذي يعاني منه الإنسان في الغرب، لا يسده شيء غير الصلاة، وقد تنكرت هذه الحضارة للصلاة، فلا تزال تعاني من هذه الأعراض النفسية والاجتماعية القاتلة، حتى يأذن الله بسقوط هذه الحضارة، كما سقطت حضارة الإلحاد من قبلها في الاتحاد السوفيتي.
وإذا عرفنا أن الصلاة حاجة ضرورية للإنسان وغذاء لعقله وقلبه لا غنى له عنها .. فلابد ان يواصل الإنسان القيام بالصلاة في كل يوم مرات عديدة ولا ينقطع عنها، لئلاّ يصيبه الجدب والنضوب الذي قد أصاب الإنسان في الغرب .. وكما يعاود الإنسان غذاء الجسم مرة بعد أخرى إذا أراد أن يحافظ على سلامة جسمه، كذلك يجب ان يعاود الإنسان الصلاة مرة بعد أخرى إذا أراد أن يحافظ على سلامة عقله وقلبه.
وملاحظة أخرى لابد من الإشارة إليها في هذا الصدد، كما أشرنا إليها في التكرار في قراءة القرآن: إن الصلاة هي خطاب العبد الصاعد إلى الله، كما أن القرآن هو خطاب الله النازل إلى العباد.
وهذان الخطابان ضروريان في حياة الإنسان، ولا غنى للإنسان عنهما.
ولابد للإنسان أن يتعاطى مع الله تعالى الخطاب، يتلقى منه الخطاب، ويرفع إليه الخطاب، ويجد الإنسان كل قيمة في هذا الخطاب المتبادل بينه وبين الله تعالى.
فالقرآن هو الخطاب النازل من الله تعالى إلى الناس، والصلاة والدعاء هو الخطاب الصاعد من الإنسان إلى الله.
ومن دون هذين الخطابين لا قيمة للإنسان، وقيمة الإنسان أنه يتحمل الخطاب النازل من عند الله، ويملك أن يرفع الخطاب إلى الله، وليس كذلك الجماد والنبات والحيوان والجبال والبحار.
إن الجبال تتصدع لو أن الله تعالى خاطبها بهذا الخطاب الذي يخاطب به الإنسان، ولا تطیق مثل هذا الخطاب:
<لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ>[19].
ولا يملك الحيوان والنبات والجماد ان يرفع إلى الله تعالى ما مكّن الله تعالى الإنسان منه من خطاب الله، وهو تكريم عظيم للإنسان ما فوقه تكريم.
ولابد للإنسان أن يستشعر الخطاب الصاعد إلى الله في الصلاة والدعاء، كما لابد له من ان يستشعر الخطاب النازل من عند الله في القرآن.
ولا يتأتى له هذا الانشداد بالخطاب الصاعد، والاستغراق في لذات هذا الخطاب ما لم يكرر الدعاء والصلاة ويعاودهما، فإن تكرار الصلاة والدعاء بين يدي الله، يعمّق في نفس الإنسان الإحساس بهذا الخطاب الصاعد، والانشداد إليه، والاستغراق في لذاته التي لا حدّ لها.
تكرار الصوم
أبرز صفة في الصيام (كف النفس) عن طائفة من مشتهياتها ولذاتها.
و(كف النفس) كبرى قضايا الإنسان بعد (الذكر).
و(الذكر) و(كف النفس) هما الجناحان اللذان يقلع بهما الإنسان من الحياة البهيمية ويعرج بهما إلى الله تعالى. فهو أحد الركنين الأساسيين لإقلاع الإنسان وعروجه إلى الله.
ولابد للإنسان من تعميق وتأكيد حالة الكف، ومغالبة الهوى، والغرائز، وتكرار الصوم الواجب لشهر واحد من السنة ولفترة طويلة نسبياً في حياة الإنسان يحقق للإنسان هذه الغاية، ويمكنه من نفسه.
والصفة البارزة الأخرى في الصوم (الطاعة)، ومهما يكن التكليف أشق تزدد قيمة الطاعة .. وفي شهر رمضان تبلغ حالة الطاعة مرحلة رفيعة يندر نظيرها في سائر الفرائض، وبالتكرار لشهر واحد تتأكد وتقوى حالة (الطاعة) في نفس الإنسان.
وحالة الطاعة هي حالة العبودية والتسليم لله والانقياد، وهي من القيم الكبرى في حياة الإنسان.
تكرار الأسماء الحسنى
يقول الله تبارك وتعالى: <وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا>[20].
أسماء الله الحسنى مفاتيح أبواب مختلفة من رحمة الله، كل اسم منها مفتاح لباب من أبواب الرحمة. فالرزاق مفتاح الرزق، والودود مفتاح المودة، والشافي مفتاح الشفاء، والقوي مفتاح القوة، والناصر مفتاح النصر، والفتاح مفتاح الفتوحات، والمنتقم مفتاح الانتقام من الأعداء، والرحمن الرحيم مفتاح الرحمة، والعفو الغفور مفتاح العفو والمغفرة .. وهكذا.
واسم الجلالة (الله) مفتاح لجميع أبواب الرحمة .. فإذا طلبت باباً من أبواب الرحمة فاطلبه بالاسم الذي يناسبه، وتكرار الاسم تأكيد وترسيخ للطلب، واستنزال الرحمة من عند الله.
وقد علمنا من أرباب الرياضات أنهم يطلبون أبواب رحمة الله المختلفة بالدعاء بأسماء الله الحسنى المناسبة لذلك الباب من أبواب رحمة الله، ويعيدون الدعاء ويكررونه بذلك الاسم.
وهذا منهج مشروع في الرياضات الروحية. وقد صرح القرآن به <وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا>[21].
بِكَ عَرَفتُكَ، وَأنْتَ دَلَلْتَني عَلَيْكَ، وَدَعَوتَني إلَيْكَ، وَلولا أنتَ لمْ أدْرِ ما أنت
فإن الله تعالى ألهمنا معرفته وتوحيده والإخلاص له، وذلك بفضله ورحمته التي أسبغها عَلى عباده. ولولا أن الله تعالى يلهمنا معرفته وتوحيده لما عرفناه. فقد عرفناه سبحانه بما ألهمنا من الإيمان وما منحنا من الرؤية النفسية الصافية، التي لا يخالطها شك، وهو الذي دلنا عَلى نفسه، وفتح قلوبنا وعقولنا عَلى معرفته. وكل ذلك فضل منه ورحمة.
يقول تعالى: <قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ>[22]، <وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيل>[23].
الحَمْدُ لله الذي أدْعُوهُ فَيُجيبُني وَإن كُنتُ بَطيئاً حينَ يَدعوني
يبتدأ (ع) بحمد الله تعالى على استجابته السريعة لدعاء عبده، يقول تعالى: <وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ>[24]. وهذه نعمة تستوجب الحمد والشكر، كما يعتذر (ع) عن بطئ العبد في الاستجابة لدعوة ربه.
فله الحمد تعالى إذ يستجيب لدعائنا كلما دعوناه، وإن كنا نتباطئ ونتكاسل عن الاستجابة لأمره تعالى كلما دعانا إلى طاعة أو نهانا عن معصية.
وَالحَمدُ للهِ الّذِي أَسأَلُهُ فَيُعطينِي وإن كُنتُ بَخيلاً حينَ يَستَقرضُني، والحمدُ للهِ الّذي أُناديه كلّما شِئتُ لِحاجَتي وَأَخلُو بهِ حيثُ شِئتُ لِسرّي بِغيَرِ شَفيعٍ فَيَقضي لِي حاجَتي.
إشارة إلى قوله تعالى: <مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً>[25]. فلا يملك أحد من دونه تعالى شيئاً كي يقرضه لله، إلا إن من فضله تعالى ورحمته بعباده أن اعتبر ما يطلبه من عباده قرضاً، ولا يخفى عَلى القارئ ما في هذا التعبير القرآني من ألطاف ربوبية جميلة، وقد ضمّن الإمام السجاد (ع) هذا التعبير القرآني في مقام الحمد لله والاعتذار إليه تعالى، عن بخلنا فيما يطلب منا من خير، والخير كله منه تعالى وإليه يعود.
الحَمدُ للهِ الّذي لاَ أَدعُو غَيرَهُ وَلَو دَعَوتُ غَيرهُ لمَ يَستَجِب لِي دُعائي
إشارة إلى قوله تعالى: <وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ>[26].
وَالحَمدُ للهِ الّذي لاَ أَرجُو غَيرَهُ، وَلَو رَجَوتُ غَيرَهُ لأَخلَفَ رَجائي
أخلف رجاءه: أي لم يفِ (الغير) بوعده فيحقق له رجاءه.
وَالحمدُ للهِ الّذي وَكَلَني إليهِ فَأَكَرَمني
وكلني إليه، أي تعهد حاجاتي ورزقي فأكرم وجهي عن السؤال.
وَلم يَكِلني إلى النّاسِ فَيُهينُوني
أي ولم يفوض أمر رزقي وحاجاتي إلى الناس، فيهينوني.
وَالحمدُ للهِ الّذي تَحبّبَ إليّ، وهو غَنيّ عَنّي وَالحَمدُ للهِ الّذي يَحلَمُ عَنّي حتّى كَأَنّي لا ذَنَب لي، فَرَبّي أحمدُ شيءٍ عِندي وأَحقُّ بِحمدِي
تحبب إليّ: اظهر لي الحب والود، وتودد إليّ. والمعنى: أحمد الله تعالى عَلى ما اُظهر لنا من الحب، والتودّد، كرماً منه تعالى وفضلاً. فقد أسبغ تعالى حبه عَلى عباده، وهو غنيّ عن عباده. قال تعالى: <إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ>[27] وقال تعالى: <إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ>[28]، وقال تعالى: <إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ>[29] وقال تعالى: <وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ>[30].
اللّهمَّ
هذا تمهيد للدعاء بعد الحمد.
مشرعة: أي مفتوحة. يقال: أَشرع بابه عَلى الطريق أي فتحه، ومنه الشارع: أي الطريق النافذ. والمنهل: المورد للشرب، يجمع عَلى مناهل. و(اترع) الإناء: امتلأ. والمناهل المترعة: الموارد التي امتلأت وفاضت بالماء. والمعنى: إني أرى السبل إلى دعاء الله والتضرع والابتهال إليه وطلب رحمته مفتوحة للداعين، وموارد رحمة الله تفيض برحمته وآلائه تعالى لمن يرجو رحمته وإحسانه.
إنّي أَجِدُ سُبُل المَطالِبِ إليكَ مُشرَعَةً، وَمَناهلَ الرَجاءِ لديكَ (إليك) مُترَعَةً، والاستِعانةَ بِفَضلِكَ لمن أَمّلكَ([31]) مُباحةً، وَأَبوابَ الدّعاء إليكَ للصّارخينَ مَفتوحةً، وأعلمُ أنّكَ للرّاجين بموضِعِ إِجابةٍ، وللملهوفين
الملهوف: المظلوم الذي يستغيث والحزين المهموم. وترصده: أي ترقبه، والمرصد موضع يترقب فيه الراصد سير الكواكب. والمعنى: انه تعالى يترصد الملهوفين، ليغيثهم ويُمِدّهم برحمته. وليس من شك أنه تعالى محيط بكل شيء، والتعبير بالأرصاد ينمّ فقط عن عنايته تعالى الكبيرة بعباده ولطفه ورحمته، فكأنه تعالى يترصد الملهوفين من عباده ليغيثهم، وهو تعبير حسّي عن هذه الرعاية الإلهية للملهوفين.
وجمل الدعاء هنا في ابتهال الإمام السجاد (ع) تشبه جمل الدعاء الواردة في الزيارة المعروفة بـ(أمين الله) المروية عن الإمام السجاد (ع) حيث ورد فيها (اللّهم إن قلوب المخبتين إليك والهة، وسبل الراغبين إليك شارعة، وأعلام القاصدين إليك واضحة، وأفئدة العارفين منك فازعة، وأصوات الداعين إليك صاعدة، وأبواب الإجابة لهم مفتّحة، ودعوة من ناجاك مستجابة، وتوبة من أناب إليك مقبولة، وعبرة من بكى من خوفك مرحومة، والإغاثة لمن استغاث بك موجودة، والإعانة لمن استعان بك مبذولة، وعداتك لعبادك منجزة، وزلل من استقالك مقالة، وأعمال العاملين لديك محفوظة، وأرزاقك إلى الخلائق من لدنك نازلة، وعوائد المزيد إليهم واصلة، وذنوب المستغفرين مغفورة، وحوائج خلقك عندك مقضيّة، وجوائز السائلين عندك موفّرة، وعوائد المزيد متواترة، وموائد المستطعمين مُعَدّة، ومناهل الظماء مترعة).
بِمَرصد إغاثَةٍ وَأن في الّلهف([32]) إلى جُودِكَ وَالرضا بِقضائِكَ عُوضاً مِنْ مَنْعِ الباخِلين، وَمَندوُحة عَمّا في أَيْدي المُسْتأثرين
المندوحة: السعة والفسحة. استأثر بالشيء عَلى الغير استبد به وخصّه لنفسه، وضنّ به، والمستأثر الضنين الحريص والمعنى: أن في اللجوء إلى جوده تعالى والرضا بقضائه، فيما أعطى ووهب، سعة عن اللجوء إلى ما في أيدي الناس من مال ومتاع يستأثرونه لأنفسهم، ويضنّون به.
وَأنّ الرَاحِلَ إليْكَ قَريبُ المسافة
أي السالك إلى الله عن طريق الدعاء قريب المسافة إلى الله، فلا يحتجب الله تعالى عن عباده، وليس يبعد عن دعائهم وتضرعهم، يقول تعالى: <وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ>[33].
وَأنّكَ لا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقَكَ إلا أنْ تَحْجِبُهُم الأعْمَالُ دُونَكَ
فإن الأعمال السيئة (في بعض النسخ الآمال) هي التي تحجب الإنسان عن الله، وإلا فلا يحتجب الله تعالى عن خلقه. يقول تعالى: <وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ>[34].
يقول تعالى: <كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ 14 كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ 15 ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ 16 ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ>[35] إن السيئات والمعاصي هي سبب الرين على القلوب. والرين هو الصدأ، والرين على القلوب يحجب الإنسان عن الله، وينقلب هذا الحجاب يوم القيامة إلى عذاب جهنم.
وَقَدْ قَصَدْتُ إليكَ بِطَلبتي، وَتَوجّهتُ إليكَ بِحاجَتي، وَجَعلتُ بِكَ اسْتِغاثتي، وَبِدُعائك تَوسّلي مِنْ غَير استحْقاقٍ لاستماعك مِنّي
فلا نملك عملا نستحق به أن يسمع الله دعاءنا، ولم نقدم طاعة نستوجب بها العفو من لدن الله تعالى، إلا إننا نركن ـ مع ذلك إلى رحمة الله ولطفه وعنايته بعباده ونثق بكرمه وجوده.
وَلا استيجابٍ لِعَفوك عَنّي، بَل لِثقتي بِكَرمك، وَسُكوني([36]) إلى صِدق وَعْدك، وَلجائي([37]) إلى الإيمانِ بِتَوحيدك، وَيقيني بِمَعرفَتكَ مِني أن لا رَبّ لي غَيركَ، وَلا إله إلاّ أَنت وَحْدك لا شَريك لَكَ. اللّهم أنتَ القائل وَقولُكَ حَقّ، وَوعدُكَ صِدق: (وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)([38]).
لقد وعد الله المؤمنين الذين يعملون الصالحات مغفرة وأجراً عظيماً يقول تعالى: <وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۙ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ>[39]. ووعد الله حق وصدق، والله سبحانه لا يخلف وعده. يقول الله تعالى: <وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ>[40] ويقول: <إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ>[41].
وَلَيسَ مِن صِفاتكَ يا سَيدي أنْ تَأمر بالسّؤال وَتَمنع العطيّة، وَأنت المنّان بِالعطيّات عَلى أهل مَمْلكتك، وَالعائد عَليهم بَتحنن رَأفتك.
عاد بالمعروف: صنعه معه. والعائدة المعروف والصلة الإحسان، والعائدة العطف والإحسان جمعه عوائد، ومنه الدعاء (إلهي عوائدك تؤنسني)، ومنه ما تقدم في زيارة امين الله (وعوائد المزيد متواترة)، والعائد المتعطف والمحسن. والتحنن: الترحم، والمعنى: أنت سبحانك المتعطف عَلى عبادك برحمتك ورأفتك.
إلهي رَبيتني في نِعمك وَإحسانك صغيراً، وَنوّهت([42]) بأسمي كَبيراً، فيا مَن ربّاني في الدنيا بإحسانه وَتفضّلهِ وَنَعمهِ، وَأشار لي في الآخرة إلى عَفوه وَكرمه. مَعرفتي يا مَولاي دَليلي عَليك
معرفتنا بالله ورحمته وكرمه دلتنا إليه تعالى، إلى التضرع إليه، وطلب رحمته ونعمائه، ونحن مؤمنون عاملون بدلالة هذا الدليل، الذي ألهمنا به الله سبحانه وتعالى.
وَحبي لَك شَفيعي إليك
وأنا احمل حبي لله شفيعاً لي عنده تعالى، يوم تقصر أعمالي عن النجاة من النار. وكيف يعذب الله قلباً فاض بحبه؟ ويحرق بالنار من يحمل بين جنبيه حبه والأيمان به <وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّه>[43]
أَنَا واثِقٌ مِنْ دَليلي بِدَلالَتِكَ، وَ ساكِنٌ مِنْ شَفيعي إلى شَفاعَتِكَ
وساكن: أي مطمئن. والمعنى إنني اطمئن إلى شفيعي في الشفاعة عند الله. وأي شفيع يستشفع به العبد عند الله افضل من حبه لله.
اَدْعُوكَ يا سَيِّدي بِلِسانٍ قَدْ اَخْرَسَهُ ذَنْبُهُ، رَبِّ اُناجيكَ بِقَلْبٍ قَدْ اَوْبَقَهُ جُرْمُهُ
أوبقه جرمه: أي حبسه عن الدعاء والتضرع. فإن القلب ينشرح للدعاء والتضرع والابتهال إلى الله بالأيمان. يقول تعالى: <الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ>[44] ويقول تعالى: <إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ>[45] كما ينغلق القلب عَلى الدعاء والابتهال كلما ازداد الإنسان توغلاً في الجريمة يقول تعالى: <وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ>[46] ويقول تعالى: <فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا>[47].
وإذا قسى القلب، وانغلق عن الدعاء والتوجه إلى الله، ولم ينشرح لذكر الله فقد انقطع عن الله، يقول تعالى: <فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ>[48].
والإمام السجاد (ع) يناجي الله في مقام الانكسار، والتذلل، والصغار، فيقول إذا كان قلب العبد قد أوبقه جرمه، فتفضل عليه بالانشراح والتفتح.
اَدْعوُكَ يا رَبِّ راهِباً[49] راغِباً، راجياً، راجِياً خائِفاً ، اِذا رَاَيْتُ مَوْلايَ ذُنُوبي فَزِعْتُ[50]، وَاِذا رَاَيْتُ كَرَمَكَ طَمِعْتُ، فَاِنْ عَفَوْتَ فَخَيْرُ راحِم، وَاِنْ عَذَّبْتَ فَغَيْرُ ظالِم
حُجَّتي يا اَللهُ في جُرْأَتي[51] عَلى مَسْأَلَتِكَ، مَعَ اِتْياني ما تَكْرَهُ جُودُكَ وَ كَرَمُكَ، وَعُدَّتي في شِدَّتي مَعَ قِلَّةِ حَيائي رَأفَتُكَ وَرَحْمَتُكَ
(الحجّة) ما يحتج به العبد بين يدي الله تعالى، و(العُدّة) هنا ما يستعدّ به العبد من رحمة الله تعالى وفضله لمواجهة الشدائد والأزمات في الدنيا والآخرة، ولابد للعبد بين يدي الله، وهو غارق في المعاصي والذنوب، ومحتاج إلى الله تعالى في دنياه وآخرته، لابد له من أن يسأل الله ويطلب منه ان يفرّج عنه ما يلقاه من الشدائد والأزمات في الدنيا والآخرة .. أقول: لابد للعبد المذنب الخاطئ، وهو يتوجّه إلى الله تعالى بالسؤال والدعاء، ويواجه الشدائد والأزمات .. لابد له من (حُجّة) و(عُدّة). حجة يحتج بها في السؤال والطلب، ويقبلها الله.
وعُدّة يقابل بها الأزمات والشدائد في الدنيا والآخرة. وحجة العبد بين يدي الله مع ما جاء به العبد من المعاصي التي يكرهها الله ويمقتها هي جوده وكرمه. فإن العبد يحتج عند الله بجوده وكرمه تعالى فيما يريد ويسأل الله من المغفرة والرحمة.
وعُدّة العبد فيما يواجهه من الأزمات والشدائد هي رأفته ورحمته تعالى، فهما حجتان وعدتان. أما الحجتان، فهما جوده وكرمه. وأما العدتان في مواجهة الشدائد والأزمات، فهما رأفته ورحمته، يَعْتَدّ بها العبد لمواجهة غضب الله وسخطه.
والإمام (ع) يرجو الله تعالى ان لا يخيب أمله بين هاتين الحجتين وهاتين العدتين (بين ذين وذين).
وكيف ييأس العبد من ربه تعالى ولديه حجتان (هما جوده وكرمه) وعدتان (هما رأفته ورحمته) فاستمع إليه (ع) في هذه الرائعة من روائع المناجاة، يقول معتذراً إلى الله، مسترحماً له، منيباً، مستغفراً إليه.
(حجتي يا الله، في جرأتي على مسألتك، مع اتياني ما تكره جودك وكرمك، وعدّتي في شدّتي – مع قلّة حيائي – رأفتك ورحمتك. وقد رجوت ان لا تخيب بين ذين (الحجتين) وذين (العدتين) منيتي (رجائي وأمنيتي).
وَقَدْ رَجَوْتُ اَنْ لا تَخيبَ بَيْنَ ذَيْنِ وَ ذَيْنِ مُنْيَتي
في بعض النسخ تخيّب، والخيبة: ضد النجاح. والمنية: البغية وما يتمناه المرء.
والمعنى إنني أرجو ألاّ يخيب الله أملي فيه بين جوده وكرمه، وبين رأفته ورحمته، (بين ذين وذين).
فَحَقِّقْ رَجائي، وَاَسْمِعْ دُعائي
ابتداء في الدعاء بعد الحمد والثناء والتمهيد الذي تقدّم، والذي هَيّأ نفس الداعي إلى الالتجاء إلى الحضرة الإلهية، في خضوع وخشوع وابتهال.
يا خَيْرَ مَنْ دَعاهُ داع، وَ اَفْضَلَ مَنْ رَجاهُ راج، عَظُمَ يا سَيِّدي اَمَلي
عَظُم أملي ورجائي في الله بقدر ما ساء عملي، وأنا أرجو أن يعطيني الله بقدر أملي فيه، وأن لا يؤاخذني الله بأسوأ ما تقدم من عملي.
وَساءَ عَمَلي، فَاَعْطِني مِنْ عَفْوِكَ بِمِقْدارِ اَمَلي، وَ لا تُؤاخِذْني بِأَسْوَءِ عَمَلي، فَاِنَّ كَرَمَكَ يَجِلُّ عَنْ مُجازاةِ الْمُذْنِبينَ
جلّ: عظم. والمعنى: إنّ كرمك أعظم من أن تجازي مذنباً بما كان من ذنوبه بعد توبته وإنابته، وحلمك أكبر من أن تكافئ المقصرين بما كان من تقصيرهم بعد ندامتهم واعتذارهم إليك.
وَحِلمك يَكبر عَن مُكافأة المُقصّرين، وَأنا يا سيدي عَائذٌ بِفضلك([52])، هَاربٌ مِنكَ إليكَ
أي هارب من قهرك وغضبك إلى رحمتك ورأفتك، وهارب من عدلك إلى كرمك، إذ لو كان الله تعالى يحاسبنا بعدله هلكنا، إلاّ إنّنا نأمل من كرمه أن يعفو عنا.
ومعنى الجملة: أنّ الهروب من الله تعالى ومن غضبه وانتقامه يستحيل عَلى المذنبين. يقول تعالى: <يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ>[53] فليس من ملجأ يلوذ به المذنبون، ويفرّون إليه غير أن يلوذوا ويلجأوا إلى الله تعالى. يقول تعالى: <فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ>[54]. يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بهذا الصدد في الدعاء المعروف الذي يرويه عنه كميل بن زياد رحمه الله: (اللّهم عظم سلطانك، وعلا مكانك، وخفي مكرك، وظهر أمرك، وجرت قدرتك، ولا يمكن الفرار من حكومتك) فليس من ملجأ للعبد الذي قصر في أعماله غير أن يلوذ العبد بالله ويفر إليه، ويأتي الله نادماً معتذراً، منكسراً، مستقيلاً.
يقول الإمام علي بن ابي طالب (ع) – في نفس الدعاء -: (وقد أتيتك يا إلهي، بعد تقصيري وإسرافي عَلى نفسي، معتذراً، نادماً، منكسراً، مستقيلاً، مستغفراً، منيباً، مقراً، مذعناً، معترفاً، لا أجد مفراً مما كان مني، ولا مفزعاً أتوجه إليه في أمري غير قبولك عذري، وإدخالك إياي في سعة من رحمتك).
مُتنجّز مَا وَعدت مَن الصّفحِ عَمّن أَحسنَ بِكَ ظنّاً، وَما أنا يا رَبّ؟
جاء في بعض النسخ مستنجز، بدل متنجز.
نجز الحاجة وأنجزها: قضاها، وأنجز الوعد: وفى به، والمصدر منه (الإنجاز) وتنجز الحاجة أو الوعد: طلب انجازهما، كما إن استنجاز الحاجة أو الوعد يأتي بنفس المعنى.
وصفح عنه صفحاً: اعرض عن ذنبه. والمعنى إنني اطلب إنجاز ما وعدنا الله تعالى به من الصفح والعفو عمن أحسن به الظن من عباده.
وَما خَطري؟
الخطر: القدر. والمعنى ما قدري وقيمتي إلهي تجاهك فامنحني عفوك ورحمتك.
في هذه الجملة يشير الإمام (ع) إلى صغار العبد تجاه ربه العظيم. فمهما يزداد الإنسان عرفاناً بالله يتصاغر أكثر تجاه جبروته تعالى وكبريائه، ويحتقر نفسه إزاء عظمته وسلطانه تعالى. والعكس صحيح أيضا، فإنّ (الأنانية) تبدأ بالإنسان حيث ينسى ربه العظيم، وحيث لا يشغل ذكر الله قلبه وعقله.
هَبني بِفَضلكَ
ثم يقول الإمام (ع): إذا لم يكن للعبد خطر ولا شأن إلى جنب جلال الله وجماله وعظمته: (فهبني بفضلك) أي: هب لي ذنوبي وجرأتي عليك، فما قيمتي وما خطري تجاه عظمتك لتحاسبني عليها .
وَتصدّق عَليّ بِعَفوك
أي تفضل علي بعفوك، والصدقة: العطية.
والإمام السجاد (ع)يشير هنا إلى صغار العبد وحقارته تجاه كبريائه وعظمته وسلطانه تعالى، فيقول: وما أنا يا رب؟ وما قيمتي وقدري؟ وما قيمة ما يقترفه العبد من مخالفة ويرتكبه من معصية؟ حتى تحاسبه عليه، وأنت رب السماوات والأرضين ورب العرش العظيم. ويسأل الله تعالى أن يتصدق عليه بالعفو (وتصدق علي بعفوك) وهو مأخوذ من قوله تعالى: <وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ>[55] فقد أمر الله تعالى بإنفاق العفو. وأحرى به تعالى أن ينفق هذا العفو من خزائن رحمته التي لا نفاذ لها عَلى عباده المذنبين.
أي ربّ جَلّلني
جللني: غطني. والمعنى: استر عَلى عيوبي بسترك. وكأنما الإمام (ع) يجد نفسه في حضرة الله تعالى، قد ارتفع ما بينه تعالى وبينه من حجب الأنانية التي تحجب الإنسان عن هذه الرؤية الروحية النقية، فينادي ربه بقوله (أي رب) وهي كلمة لخطاب القريب.
بِسِترك، وَاعفُ عَنْ تَوبيخي([56]) بِكَرم وَجهكَ، فَلو اطّلعَ اليَوم عَلى ذَنبي غَيركَ مَا فَعلته
يقول الإمام (ع): لو اطّلع اليوم على عبدك غيرك من الناظرين لم يقدم عَلى ما أقدم عليه من مخالفتك، ولو كان يخاف منك ان تعجّل عليه العقوبة لم يرتكب ما ارتكبه من معصيتك. وليس مع ذلك يستهين بعلمك بما ارتكب في الخفاء من معصية، أو استخف بمعرفتك بما أقدم عليه، بعيداً عن أنظار الناس من مخالفة، ومعاذَ الله أن يستهين بعلمك، أو يستخف بنظرك. وإنما ارتكب ما ارتكب من مخالفة ثقة بسترك وكرمك، وعلماً بأنك خير من يستر عَلى عباده: أعمالهم وجرائمهم، وخير من يحكم بالعفو والرحمة، وأنت قادر عَلى العقوبة والانتقام (أحكم الحاكمين)، تكرم عبادك، وتستر عيوبهم، وتغفر جرائمهم <وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّه>[57] وتعلم ما خفى من أعمالهم وجرائمهم عَلى الناس <عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ>[58] <فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى>[59]، فتستر عليهم بكرمك وحلمك، عسى أن يتوبوا، ويعملوا صالحاً.
ومن هذه الفقرة يبدو ان تأخير العقوبة من جانب الله يكون عَلى نحوين، فقد يكون إمداداً للمجرم عَلى أن يزداد اثماً وبغيا يقول تعالى: <إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا>[60]، وقد يكون حلماً وكرماً من الله عَلى عباده عسى أن يتوبوا ويعملوا صالحاً.
وفي هذه الجملة يرجو الإمام السجاد (ع) من الله أن يكون تأخير العقوبة من النحو الثاني، وأن يؤخر العقوبة عن عبده عسى أن یوفق للتوبة والعمل الصالح. وقد ورد ما يشبه هذه الجملة في كلام الإمام الحسين بن علي (ع) في دعاء عرفة المعروف (ولو اطّلعوا يا مولاي عَلى ما اطلعت عليه إذن ما انظروني، ولرفضوني، وقطعوني، فها أنا ذا يا إلهي بين يديك، يا سيدي خاضع ذليل، حصير، حقير، لا ذو براءة فاعتذر، ولا ذو قوة فانتصر).
وَلو خِفت تَعجيل العُقوبة لاجتَنبتُه
فإن الله تعالى، مع علمه بما يرتكبه عباده من مخالفة ومعصية حليم بهم، لا يعجل في عقوبتهم، عسى أن يتوبوا، ويعملوا صالحاً فيمحو سيئاتهم. ومع قدرته عَلى عقوبتهم والانتقام منهم يعفو عنهم. والحلم بعد العلم والعفو بعد القدرة خليق بالحمد والثناء.
لا لِأَنّك أهونُ النّاظرين إليّ، وأخفّ المطّلعين عَليّ، بَل لأنّكَ يا رَبّ خَيرَ الساترين، وَأحكم الحَاكمين، وَأكرَم الأكرمين، سَتّار العُيوبِ، غَفّار الذُنوبِ، عَلاّمُ الغيوبِ، تَسترُ الذّنبَ بَكرمكَ، وَتؤخّر العُقوبةِ بِحلمكَ.
فَلكَ الحَمدُ عَلى حِلمكُ بَعد عِلمكَ، وَعلى عَفوكَ بَعدَ قُدرتكَ، وَيَحملني وَيجرئني عَلى مَعصيتكَ حِلْمكَ عَنّي وَيدعُوني إلى قلّةِ الحياءِ سِتْركَ عَليّ، وَيُسرعني إلى التوثّبِ عَلى محارمك معرفتي بسعة رحمتك وعظيم عفوك.
فلو كان العبد يتلقى العقوبة عاجلاً لما تجرأ عَلى مخالفة مولاه، ولو كان الله لا يستر عَلى عباده ما يرتكبون لا ستحيى العبد من التوغل في المعصية، ولو كان لا يثق بسعة رحمة الله وعظيم عفوه تعالى لم يسرع إلى التوثب عَلى محارم الله. فما أكثر بؤس هذا العبد الذي يقابل رحمة الله وعفوه وستره وسعة رحمته وعظيم عفوه بالتجرئ عَلى حدود الله، والتوثب عَلى محارمه، والصلف، وقلة الحياء، وكان خليقاً به أن يحمله ذلك كله عَلى التقوى، والانقياد، والخضوع، والطاعة، والحياء.
يا حَليمُ يا كَريمُ
هنا يلتجئ الإمام في مقام التضرع والخشوع إلى التوسل بأسماء الله الحسنى، ليدعو الله تعالى بها فيما يريد قضاؤه من حاجاته. يقول تعالى <وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا>[61].
يا حَيُّ يا قَيُّومُ، يا غافِرَ الذَّنْبِ، يا قابِلَ التَّوْبِ[62]، يا عَظيمَ الْمَنِّ، يا قَديمَ الاْحسانِ، اَيْنَ سِتْرُكَ الْجَميلُ
وهنا يبدأ الإمام باستنجاز ما وعدنا الله تعالى به من رحمة واسعة، وفرج قريب، وغياث سريع، ومواهب هنيئة، وفضل عظيم. والاستنجاز والطلب هنا لم يأت عَلى صيغة الأمر، كما نعهد فيما يستنجز الإنسان من وعد أو يطلب من أمر وإنما جاء الاستنجاز والطلب عَلى صيغة الاستفهام مراعاة لأدب الدعاء والمناجاة مع الله تعالى. فليس مما يناسب هذا المقام أن يطلب العبد من مولاه استنجاز وعده عَلى نحو الأمر، وإنما يحسن به أن يرفع حاجته وطلبه إلى مولاه في صيغة الاستفهام. وكأنه يقول: هلا أصلح أنا لعفوك الجليل؟ وهلا أكون أهلاً لفرجك القريب وغياثك السريع؟ وهلا تجدني محلاً لائقاً لرحمتك الواسعة وعطاياك الفاضلة؟
وقد وعد الله تعالى عباده بكل ذلك. يقول تعالى: <كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا>[63]، ويقول تعالى: <وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ>[64]، ويقول تعالى: <إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ>[65]، ويقول تعالى: <وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ>[66].
اَيْنَ عَفْوُكَ الْجَليلُ، اَيْنَ فَرَجُكَ الْقَريبُ، اَيْنَ غِياثُكَ السَّريعُ، اَيْنَ رَحْمَتُكَ الْواسِعَةِ، اَيْنَ عَطاياكَ الْفاضِلَةُ، اَيْنَ مَواهِبُكَ الْهَنيئَةُ، اَيْنَ صَنائِعُكَ السَّنِيَّةُ، اَيْنَ فَضْلُكَ الْعَظيمُ، اَيْنَ مَنُّكَ الْجَسيمُ، اَيْنَ اِحْسانُكَ الْقَديمُ، اَيْنَ كَرَمُكَ يا كَريمُ، بِهِ فَاسْتَنْقِذْني، وَ بِرَحْمَتِكَ فَخَلِّصْني[67]، يا مُحْسِنُ[68] يا مُجْمِلُ، يا مُنْعِمُ يا مُفْضِلُ، لَسْتُ اَتَّكِلُ فِي النَّجاةِ مِنْ عِقابِكَ عَلى اَعْمالِنا، بَلْ بِفَضْلِكَ عَلَيْنا، لاِنَّكَ اَهْلُ التَّقْوى وَاَهْلُ الْمَغْفِرَةِ
لا يتّكل في النجاة من العقوبة عَلى ما قدّم من عمل صالح. فليس له من عمل صالح يقيه عذاب النار، وإنما اعتماده واتكاله عليك، وعلى واسع رحمتك وعظيم عفوك فإنك أنت يا إلهي أهل للتقوى (أي أهل لأن يتقيك عبادك) وأهل لأن تغفر لهم سيئات أعمالهم.
تُبْدِئُ بِالاْحْسانِ نِعَماً
فقد بدأتني بالنعم إحساناً وتفضلاً منك، وعفوت عن سيئات أعمالي تكرماً منك سبحانك.
وَتَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ كَرَماً، فَما نَدْري ما نَشْكُرُ، اَجَميلَ ما تَنْشُرُ، اَمْ قَبيحَ ما تَسْتُرُ؟
فلست ادري ماذا أشكر من نعمك الكثيرة <وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا>[69] أأشكر جميل ما نشرت عني بين الناس من عمل صالح عملته بين حين وآخر، وهو لا يستحق الذكر، أم أشكر لك ما سترت عليّ من عمل قبيح ارتكبته، ولم يعرف به غيرك، أم أشكر لك عظيم ابتلائك وامتحانك لي لأرقى إليك في مدارج الابتلاء، وما أوليتني من النعم الكثيرة (وفي بعض النسخ عظيم ما أنعمت وأعطيت)، أم أشكر لك انك عافيتني ونجيتني من كثير من البلاء، لم يردّه عني غيرك، ولم يحفظني منه غيرك.
وهذه الجملة كما يرى القارئ شكر جميل من العبد عَلى جميل ما أنعم عليه ربه تعالى من النعمة والرحمة.
وبهذا المضمون جاء في الدعاء الذي رواه كميل بن زياد عن الإمام علي (ع). يقول (ع): اللّهم مولاي كم من قبيح سترته؟ وكم من فادح من البلاء أقلته؟ وكم من عثار وقيته؟ وكم من مكروه دفعته؟ وكم من ثناء جميل لست أهلاً له نشرته؟
اَمْ عَظيمَ ما اَبْلَيْتَ وَاَوْلَيْتَ، اَمْ كَثيرَ ما مِنْهُ نَجَّيْتَ وَعافَيْت
يا حَبيبَ
الحبيب هنا بمعنى المحب. والمعنى: يا من يحب من تودد إليه وأحبه. فإن الله تعالى يحب من عباده من تحبب وتودد إليه وأحبه يقول تعالى <قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ>[70].
وحب الله تعالى من أهم ما يشغل قلب مؤمن، عرف الله حق معرفته، وأحبه حق الحب فيُشغله عن غير الله، ومن متاع الدنيا وزخرفها. يقول الإمام السجاد (ع)في مناجاة المحبين: (إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً، إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك وولايتك، وأخلصته لودّك ومحبتك، وشوّقته إلى لقائك، ورضّيته بقضائك ـ إلى أن يقول ـ وأخليت وجهه لك، وفرّغت فؤاده لحبك، ورغبته فيما عندك، وألهمته ذكرك، واشغلته بطاعتك).
مَنْ تَحَبَّبَ اِلَيْكَ
هنا مقولتان الحب والانقطاع الذي يحبب إلى الله يحبه الله لا محالة .
<قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ>[71].
حب لله + تبعية وطاعة لله ورسوله، حب الله لعبده.
لا شيء ولا أحد يستحق تعلق قلب الإنسان وحب الإنسان غير الله تعالى .. هذا الحطام الزائل في الدنيا والمتاع الذي یكتسب قلوب الناس لا يستحق تعلق القلوب ولا يستحق حب الإنسان. ليس يستحق شيء واحد الحب والتعلق من قلب الإنسان إلاّ الله تعالى وهذه هي الحركة الأولى الصاعدة من القلب إلى الله، ثم الحركة الامتدادية النازلة حب الأنبياء وحب رسول الله (ص) وأهل بيته.<قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى>[72].
والمؤمنون في هذه الحركة الامتدادية النازلة حب في الله، وإلاّ فإن الله تعالى هو فقط يستحق الحب والتعلق من عباده (توحيد الحب) ولا يصح شيء من الحب في القلب السليم إلاّ أن يكون لله (صاعداً) أو في الله (نازلاً).
وَيا قُرَّةَ عَيْنِ مَنْ لاذَ بِكَ
إنّ أكثر الناس يعرفون ملاذات ومعاذات كثيرة غير الله في ساعات الضراء والبأساء والشدة والعسر يلوذون هاهنا وها هناك، ولا يلوذون بالله إلاّ إذا تساقطت أمامهم خيارات السلامة والنجاة كما إذا اختلت بهم الطائرة في أعماق الفضاء فلا يجدون عندئذ ملاذاً ومعاذاً غير الله، فيلوذون بالله.
أما العارفون بالله فلا يجدون ولا يعرفون في ساعات العسر والشدة والبأساء غير الله تعالى .. وذلك لأنهم يعلمون أن الملاذات والمعاذات التي يلجأ إليها الناس كلها من جانب الله تعالى، وتلجئهم وتحميهم بإذن الله فهم لا يعرفون ملجئاً وملاذاً غير الله في حياتهم. فإذا ذهبوا إلى الطبيب بإذن الله فهم قد ذهبوا إلى الله، فهو يعلم (وهذه معرفة ووعي) أن اللجوء إلى الطبيب هو اللجوء إلى الله، وقارب النجاة ملاذ للغريق بإذن الله فهو إذا توجه إلى قارب النجاة يلجأ إلى الله .. فيتذوق عند الرجوع إلى الطبيب والاحتماء بقارب النجاة معنى اللجوء واللواذ بالله.
إذن المسألة مسألة معرفة، وليست مسألة فعل. وهذه المعرفة هي التي تخرج الإنسان من الشرك إلى التوحيد الخالص .. هذه الحقيقة الأولى.
والحقيقة الثانية عامة الناس لا يعرفون الحاجة إلى المعاذ والملجأ إلاّ في ساعات البأساء والضراء. في ساعات اليسر والرخاء لا يجدون حاجة إلى اللجوء واللواذ .. وأهل المعرفة والعرفان يعرفون أنهم في اضطرار دائم .. فهو يتنفس بإذن الله وقلبه ينبض بإذن وذاكرته تعمل بإذن وعقله يعمل بإذن والناس يكرمونه ويعينونه بإذن ولو لم يأذن الله لانقطعت نفسه ونبضات قلبه ولم يعتبه ولا يكرمه أحد .. فهو في كل الحالات مضطر إلى الله وهو دائماً لائذ بالله عائذ به وهذا هو معنى الاضطرار.
أولئك يجدون أن الله قرة أعينهم يلوذون به دائماً.
وهذه المرحلة عالية من الوعي والمعرفة رزقنا الله تعالى.
وَ انْقَطَعَ([73]) اِلَيْكَ.
اَنْتَ الْمحْسِنُ وَ نَحْنُ الْمُسيؤنَ فَتَجاوَزْ يا رَبِّ عَنْ قَبيحِ ما عِنْدَنا بِجَميلِ ما عِنْدَكَ
فتجاوز يا رب عن قبيح جرائمنا وإساءتنا بجميل احسانك وكرمك. فليس لدينا غير الاساءة، ولا نعرف من الله غير الإحسان. فما كان من اساءة فهو منا، وما كان من احسان فهو من الله. يقول تعالى: <مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ>[74].
وَاَيُّ جَهْل يا رَبِّ لا يَسَعُهُ جُودُكَ
وأي جهالة لا يسعها جوده تعالى.
والمقصود بالجهل الإساءة الناشئة عن الجهالة والغفلة، فإن الإساءة التي يقدم عليها العبد لا يمكن أن تصدر عن وعي وعقل، وإنما تصدر عن جهالة وغفلة.
روى الطبرسي في مجمع البيان 3: 23 عن الإمام الصادق (ع) في تفسير قوله تعالى: <إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ>[75] أنه قال: كل ذنب عمله العبد، وإن كان عالماً فهو جاهل، حين خاطر بنفسه في معصية ربه. فقد حكى الله تعالى قول يوسف لإخوته: <هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ>[76] فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله.[77]
اَوْ اَيُّ زَمان اَطْوَلُ مِنْ اَناتِكَ
وأي زمان يقضيه الإنسان في معصيتك ومخالفتك أطول من حلمك (أناتك). فمهما قضى الإنسان من عمره في المعصية والإساءة فهو دون حلم الله، وبوسع الإنسان، مع كل ما ارتكب من إساءة ومعصية، أن يأمل في رحمة الله وعفوه، وأن يسرع إلى التوبة عما ارتكبه من إثم، وما اقترفه من موبقة، قبل أن يدركه الموت. فإن الموت إن أدرك الإنسان، ولم يعدل عن المخالفة والمعصية، فليس ينفعه شيء بعد ذلك. يقول تعالى: <وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا>[78].
وَ ما قَدْرُ اَعْمالِنا في جَنْبِ نِعَمِكَ
ثم كيف نقارن أعمالنا التي بها نرجو النجاة بكرمك؟ فإن ما تفيضه علينا من نعمتك ورحمتك يزيد عَلى حد الوصف، ولا يقاس بما نصنعه من معروف من حين إلى آخر. وكيف نستكثر أعمالاً نقابل بها كرمك؟ وما قدر أعمالنا حتى تعادل كرمك وإحسانك؟ وأي عمل صالح لنا يكافئ كرمك ورحمتك إلينا؟
وَ كَيْفَ نَسْتَكْثِرُ اَعْمالاً نُقابِلُ بِها كَرَمَكَ، بَلْ كَيْفَ يَضيقُ عَلَى الْمُذْنِبينَ ما وَسِعَهُمْ مِنْ رَحْمَتِكَ .
بل أي ذنب يا إلهي، تتعقبه التوبة تضيق به رحمتك. فمهما بلغت ذنوبنا وسيّئاتنا، فإن رحمتك أوسع منها. أو لست أنت وعدتنا برحمتك إن استغفرناك من ذنوبنا وآثامنا.
يا واسِعَ الْمَغْفِرَةِ[79]، يا باسِطَ الْيَدَيْنِ بِالرَّحْمَةِ، فَوَ عِزَّتِكَ يا سَيِّدي، لَوْ نَهَرْتَني
انتهرتني: أي زجرتني. ما برحت عن بابك: أي لم أذهب عن بابك، ولم أتجاوزها إلى غيرها من الأبواب. ولا كففت عن تملقك: أي لم انقطع عن تملقك، ولم اترك السؤال ببابك إلى غيرها.
والإمام هنا يقسم بعزة الله، التي لا عزة فوقها انه ليس بتارك التملق عَلى باب رحمته تعالى والتضرع والابتهال عند أعتاب كرمه وجوده، حتى لو انتهر عبده وأبعده، وحاشاه أن يبعد عن رحمته عبداً التجأ إلى بابه دون الأبواب. وأي باب يقف عندها الإنسان ويركن إليها غير هذا الباب؟ وأين يجد المضطر نجاة عدا هذا الموقف؟ إلى أين يفر المذنب المضطر إن لم يلتجأ إلى رحمته تعالى؟ يقول (ع): فوعزتك يا سيدي لو انتهرتني، ما برحت من بابك، ولا كففت عن تملّقك لما انتهى إليّ من المعرفة بجودك وكرمك.
ما بَرِحْتُ مِنْ بابِكَ
لأنني لا أعرف باباً آخر يؤويني، ولا أعرف ملاذاً آخر ألوذ به، وأين أعطي وجهي من دون باب رحمة الله الواسعة وعفوه العظيم.
ولا أكف عن تملقك .. ولماذا أكف وأنا واثق بعفوك ورحمتك. والتملق من الإنسان لمثله كذب وذل، وأما بالنسبة إلى الله تعالى فلا يكون إلاّ ثناءً صادقاً ومدحاً دون حقه واستحقاقه تعالى .. والتذلل بين يدي الله بالتملق عز للعبد وكرامة له.
وَلا كَفَفْتُ عَنْ تَمَلُّقِكَ، لِمَا انْتَهى اِلَيَّ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِجُودِكَ وَكَرِمَك، وَاَنْتَ الْفاعِلُ لِما تَشاءُ تُعَذِّبُ مَنْ تَشاءُ بِما تَشاءُ كَيْفَ تَشاءُ، وَتَرْحَمُ مَنْ تَشاءُ بِما تَشاءُ كَيْفَ تَشاءُ، لا تُسْأَلُ عَنْ فِعْلِكَ، وَلا تُنازَعُ في مُلْكِكَ، وَلا تُشارَكُ في اَمْرِكَ، وَلا تُضادُّ في حُكْمِكَ، وَلا يَعْتَرِضُ عَلَيْكَ اَحَدٌ في تَدْبيرِكَ، لَكَ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمينَ
وإذ اقسم الإمام بعزته تعالى أن لا يبرح بابه، ولن يترك التملق لديه .. يقول في حيثية هذا القسم واللجوء والانقطاع إلى الله: فإن عندك السلطان كله، تفعل ما تشاء، وتعذب من تشاء، بما تشاء من عذاب، وترحم من تشاء بما تشاء من الرحمة، وتعفو عمن تشاء، وتنتقم ممن تشاء. فأين يفرّ العبد، وأي سلطان يلتجئ إليه من دون سلطانك، ولك السلطان والأمر كله. وليس لأحد أن ينازعك في سلطانك، أو يشاركك ملكك، أو يعارضك في تدبيرك، أو يضادك في حكمك، فلك الأمر والخلق والسلطان كله، تباركت وتعاليت.
يقول تعالى: < ُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّه>[80]، ويقول تعالى: <أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ>[81]، ويقول تعالى: <بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا>[82]، ويقول تعالى: <أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ>[83]، ويقول تعالى: <يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ>[84]، <يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ>[85]، <يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ>[86]، <يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ>[87]، <يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ>[88]، <يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِه>[89].
فأين يفر العبد من سلطان الله المطلق إن لم تؤويه رحمة الله. وان لم يلتجأ إلى عفوه. فليس له إذن إلاّ أن يقف عَلى باب رحمته تعالى، متضرعاً، خاشعاً، مبتهلاً إليه تعالى، راجياً، آملاً، متملقاً، عسى أن تناله رحمة الله <إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ>[90].
يا رَبِّ هذا مَقامُ
وإذا عرف العبد واعترف أن ليس له من الله ملجأ إلاّ إليه، وإلاّ أن يلوذ به ويستجير به يقول: يا رب هذا مقام من لاذ واستجار بكرمك. ثم يعود فيقول: وليس هذا أول عهدي بإحسانك وجودك، فقد الفت إحسانك وجودك من قبل، ومع ذلك فلم أحسن شكرك عَلى نعمك وكرمك، فهلا أسبغت عليَّ ما ألفته من جودك وإحسانك، من قبل، وليس يخفى عَلى القارئ ما في هذه الجملة (يا رب هذا مقام من لاذ بك واستجار بكرمك) من معاني رقيقة. فهي تجسيد لمقام الانقطاع والاضطرار إلى الله، حيث لا يجد العبد ملجأً يلوذ به لينقذه إلاّ الله، وقد سبق أن عصاه وخالفه وتمرّد عَلى امره ونهيه، وتجسيد لمقام الالفة والأنس والمحبة، فهو يعود إلى مقام كان قد ألف جوده وكرمه من قبل كثيراً، ومقام الندم أيضاً إذ يشعر انه أساء إلى ولي هذه النعم التي طالما أسبغها عليه مولاه .. وها هو قد تفرغ لربه بالدعاء في هدأة الليل وفي الثلث الاخير منه، حيث يتوقف الناس عن الحركة والضجيج، وتهدأ الأصوات، فيرفع إلى الله ندمه، وتوبته، واعتذاره. وورد قريباً من هذا المضمون في دعاء السحر.
(يا رب هذا مقام العائذ بك من النار، هذا مقام المستجير بك من النار، هذا مقام المستغيث بك من النار، هذا مقام الهارب إليك من النار، هذا مقام من يبوء لك بخطيئته، ويعترف بذنبه، ويتوب إلى ربه، هذا مقام البائس الفقير، هذا مقام الخائف المستجير، هذا مقام المحزون المكروب، هذا مقام المغموم المهموم، هذا مقام الغريب الغريق، هذا مقام المستوحش الفَرِق، هذا مقام من لا يجد لذنبه غافراً غيرك، ولا لضعفه مقوياً إلاّ أنت، ولا لهمه مفرجاً سواك).
هذه لوحة رائعة لرسم مقام العبد بين يدي الله في الأسحار.
والعناصر المشتركة في رسم هذه اللوحة الاستجارة واللواذ (معنى الاستجارة) الاضطرار كل لواذ يصدر عن الاضطرار لا محالة + والانس والالفة (وألف احسانك) والثقة برحمة الله وفضل الله (وأنت الجواد الذي لا يضيق عفوك ولا ينقص فضلك وقد توثقنا منك بالصفح القديم) هذه الثقة والألفة لها تاريخ قديم (بالصفح القديم).
ثم تأتي اللوحة لرسم المقام الثاني.
مقام الله من عبده:
(أفتراك يا رب تخلف ظنوننا أو تخيب آمالنا).
هذه اللوحة ترسم على منهج بياني استنكار ونفي.
ثم عودة إلى اللوحة الأولى: الرجاء والأمل (إن لنا فيك أملاً) الستر في المعصية والعفو بعد المعصية ورجاء الاستحالة.
مَنْ لاذَ بِكَ، وَاسْتَجارَ بِكَرَمِكَ، وَاَلِفَ اِحْسانَكَ وَنِعَمَكَ، وَاَنْتَ الْجَوادُ الَّذي لا يَضيقُ عَفْوكَ
لا يضيق عفوك عن ذنب اقترفناه، ولا ينقص فضلك بإحسان تحسنه، ورحمة تسبغها، ولا تقل رحمتك إذا انعمت إلى المسيئين من عبادك، وكيف ينقص فضله تعالى، أو تقل رحمته، أو يضيق عفوه، وخزائن رحمته وفضله غير متناهية. وقد ورد في دعاء اليماني المروي عن الإمام أمير المؤمنين (ع): اللّهم صل عَلى مُحمّد وآل مُحمّد، ولا تحرمني رفدك، وفضلك، وجمالك، وجلالك، وفرائد كراماتك، وموائد عطياتك، وعوائد إفاضاتك، ومواهب فيوضاتك، فإنه لا يعتريك لكثرة ما قد نشرت به من العطايا عوائق البخل، ولا ينقص جودك التقصير في شكرك نعمك، ولا تنفذ خزائنك مواهبك المتسعة، ولا تؤثر في جودك العظيم منحك الفائقة الجميلة، ولا يلحقك خوف عدم فينقص من جودك فيض فضلك.
وَلا يَنْقُصُ فَضْلُكَ، وَلا تَقِلُّ رَحْمَتُكَ، وَقَدْ تَوَثَّقْنا مِنْكَ بِالصَّفْحِ الْقَديمِ، وَالْفَضْلِ الْعَظيمِ، وَالرَّحْمَةِ الْواسِعَةِ
توثقنا أي تثبتنا وتيقنّا. والصفح: الاعراض عن الذنب والعفو. والمعنى: اننا وثقنا بك، وبقديم عفوك وصفحك، وعظيم فضلك، وواسع رحمتك، وعلمنا انك كما تقول: <وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ>[91] <رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا>[92]<كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ>[93]، <وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ>[94]، فليس تضيق رحمتك بذنوبنا، ولا يقلّ فضلك بالإحسان إلينا.
اَفَتُراكَ يا رَبِّ تُخْلِفُ ظُنُونَنا، اَوْ تُخَيِّبْ آمالَنا، كَلاّ يا كَريمُ، فَلَيْسَ هذا ظَنُّنا بِكَ، وَلا هذا فيكَ طَمَعُنا يا رَبِّ، اِنَّ لَنا فيكَ اَمَلاً طَويلاً كَثيراً، اِنَّ لَنا فيكَ رَجاءً عَظيماً
والظن بمعنى الوثوق والرجاء. والمعنى افتراك سيدي بعد أن وثقنا بك وبكرمك وفضلك العظيم، والتجأنا إليك وحدك .. تخلف رجائنا وثقتنا بك، ولا تشملنا برحمتك، ولا تسبغ علينا عفوك وفضلك .. كلاّ وكلاّ، وحاشا بكرمك أن يضيق بمثلي ومثل ذنوبي وسيئاتي وان تخلف ظنوننا.
وقد جاء في الأحاديث الشريفة الأمر بحسن الظن بالله، وإن الله تعالى عند حسن ظن عبده به. عن الإمام الباقر (ع) قال: «وجدنا في كتاب علي (ع) أن رسول الله (ص) قال وهو عَلى منبره: والذي لا اله إلاّ هو، ما اُعطي مؤمن قط خير الدنيا والآخرة إلاّ بحسن الظن بالله تعالى ورجائه له، وحسن خلقه، والكف عن اغتياب المؤمنين، والذي لا اله إلاّ هو لا يعذب الله مؤمناً بعد التوبة والاستغفار، إلاّ بسوء ظنّه، والتقصير في رجائه، وسوء خلقه، واغتيابه للمؤمنين، والذي لا اله إلاّ هو لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلاّ كان الله عند ظن عبده المؤمن، لأن الله كريم بيده الخيرات، ويستحي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن، ثم يُخْلف ظنه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه»[95].
وعن الإمام الرضا (ع): «أحسن الظن بالله، فإن الله عز وجل يقول: أنا عند حسن ظن عبدي المؤمن بي»[96].
عَصَيْناكَ وَنَحْنُ نَرْجُو اَنْ تَسْتُرَ عَلَيْنا، وَدَعَوْناكَ وَنَحْنُ نَرْجُو اَنْ تَسْتَجيبَ لَنا، فَحَقِّقْ رَجاءَنا مَوْلانا
ليس المقصود من العصيان هنا معناه المعروف. فالإمام السجاد من بيت أذهب الله عنهم الرجس أهل البيت وطهّرهم تطهيراً، وإنما المقصود بالعصيان ترك ما كان الأولی به أن يصنعه في مقام العبودية لله تعالى، فإن ترك امتثال الأولى في مقام العبودية لله معصية ومخالفة توجب الندم والاستغفار بالنسبة إليه (ع) وان كان ذلك بالنسبة إلى الآخرين الذين لم يبلغوا هذا المبلغ من الانقطاع لله والخلوص من بعض مراتب الطاعة. ولذلك فقد رُوي عن النبي (ص) قوله: «حسنات الأبرار سيئات المقربين» فربّ حسنة يتقرّب بها الإنسان إلى الله تنقلب إلى سيئة بالنسبة إليه، إذا ما ارتفع إلى مرتبة المقربين. فإن مراتب الامتثال والطاعة والتقوى تختلف بالنسبة إلى مواضع الناس من رضوان الله تعالى.
فلم نقطع الأمل والرجاء عنك حتى في حالة المعصية. فقد كنا نعصيك ونحن نرجو أن تستر علينا عيوبنا وجرائمنا. فكيف لا يرجوك عبدك، وقد جاءك تائباً إليك وتوجّه إليك بأسمائك الحسنى.
فَقَدْ عَلِمْنا ما نَسْتَوْجِبُ بِاَعْمالِنا
فقد علمنا نحن ما نستوجبه بأعمالنا. وعلمنا إن أعمالنا التي ارتكبناها جهلاً وغفلةً، تجرنا إلى الهلاك، فليس يخفى علينا، ربنا ما نستحقه بأعمالنا <بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ>[97].. ولكن علمك فينا، ومعرفتك بعجزنا وضعفنا، وعلمنا بأنك كريم لا تصرف السائلين عن بابك، ولا تقنط الراجين من فضلك دفعنا إلى التوقف ببابك، إلى تملقك وسؤالك والرغبة إليك.
وَلكِنْ عِلْمُكَ فينا
علمان متقابلان:
علمك بضعفنا وعجزنا وعلمنا بكرمك ورحمتك جعلنا نلوذ رغم العصيان.
وَعِلْمُنا بِاَنَّكَ لا تَصْرِفُنا عَنْكَ حثَّنا عَلى الرَّغْبَةِ اِلَيْكَ
أنا لدي علمان علم بأعمالي واستحقاقات هذه الأعمال وعلم بأنك لا تصرفنا عنك.
العلم الأول ينتج اليأس والعلم الثاني ينتج الأمل .. ولكن العلم الثاني أقوى بكثير من العلم الأول.
وَاِنْ كُنّا غَيْرَ مُسْتَوْجِبينَ لِرَحْمَتِكَ
وإذا لم نكن نحن أهلاً لاستجابة رحمتك وعفوك وجودك، فأنت يا ربُ، أهل لأن تجود عَلى المسيئين والمذنبين بفضلك. فأمنن علينا بما أنت أهله من واسع الرحمة، وعظيم العفو وكريم الصفح.
فَاَنْتَ اَهْلٌ اَنْ تَجُودَ عَلَيْنا[98] وَعَلَى الْمُذْنِبينَ بِفَضْلِ سَعَتِكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنا[99] بِما اَنْتَ اَهْلُهُ، وَ ُدْ عَلَيْنا[100] فَاِنّا مُحْتاجُونَ اِلى نَيْلِكَ
النيل: السحاب والعطاء، وهو هنا كناية عن واسع رحمة الله.
هذا مدخل آخر إلى الرحمة وهو الحاجة ومثل ذلك مدخل آخر وهو الرجاء.
يقول (ع): «فحقق رجاءنا مولانا». والإمام يعلمنا هنا مداخل رحمة الله.
يا غَفّارُ بِنُورِكَ اهْتَدَيْنا
النور كناية عن الهداية، أي اهتدينا بهديك. قال الله تعالى: <يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ>[101]، فإننا قد اهتدينا بهدى الله، ولولا ان الله تعالى ألهمنا الإيمان به لم يوفق احد للأيمان. وقد ورد في نصوص الزيارات: «الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله».
وَبِفَضْلِكَ اسْتَغْنَيْنا، وَبِنِعْمَتِكَ اَصْبَحْنا وَ اَمْسَيْنا[102]، ذُنُوبُنا بَيْنَ يَدَيْكَ نَسْتَغْفِرُكَ الّلهُمَّ مِنْها وَنَتُوبُ اِلَيْكَ
ذنوبنا بين يديك: أي مكشوفة معروفة عندك لا يخفى عليك شيء منها. ولا ينفعنا إخفاؤها عنك، فإنك أنت عالم السر والخفايا .. نتوب إليك منها، ونسألك أن تغفرها لنا. وقد أنبانا الله تعالى انه الغفور الرحيم قال تعالى: <نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ>[103]، ووعدنا أن لو ذكرنا الله واستغفرناه لذنوبنا غفر لنا خطيئاتنا. قال تعالى: <وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ>[104] وقال تعالى: <إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا>[105] وقال تعالى: <وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ>[106]، إلاّ أن الاستغفار وحده لا يكفي، ما لم يتب العبد إلى الله. يقول تعالى فيما حكى من قول هود (ع) لقومه: <وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ>[107] ولذلك فإن الإمام زين العابدين (ع)يقول: نستغفرك اللّهم ونتوب إليك، فيشفع الاستغفار بالتوبة.
لا نستطيع أن ننفيها وننكرها ولا نستطيع أن نتخلص منها ونهرب منها، وهي مكشوفة لك وليس لنا إلاّ أن نستغفرك منها ونتوب إليك.
الخيار الوحيد الذي نجده أمامنا هو الاستغفار والتوبة، وليس أمامنا خيار آخر، لا نتهرب منها ولا ننكرها وننفيها.
تَتَحَبَّبُ اِلَيْنا بِالنِّعَمِ
تتودّد إلينا، بما تنعم علينا من النعم الكثيرة، ثم نعارض نعمك نحن بالذنوب، ونردّ جميل صنعك بنا بقبيح أعمالنا وأفعالنا. وأي قبيح أقبح من أن يرد العبد جميل ما يسبغه عليه الله سبحانه من النعم الجليلة الجميلة بالعمل القبيح، والإثم والذنب.
قال تعالى: <وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ>[108]. ينزل إلينا خيرك ونعمتك من علياء رحمتك، ويصعد إليك ذنوبنا وآثامنا من حضيض شقائنا وبؤسنا، ولم يزل ولا يزال يأتيك عنا كل يوم ملك كريم، وكّلته علينا، ليحصي علينا أعمالنا، بعمل قبيح نرتكبه، أو موبقة نقترفها.
وَنُعارِضُكَ بِالذُّنُوبِ، خَيْرُكَ اِلَيْنا نازِلٌ، وَشُّرنا اِلَيْكَ صاعِدٌ، وَلَمْ يَزَلْ وَلا يَزالُ مَلَكٌ كَريمٌ يَأتيكَ عَنّا بِعَمَل قَبيح، فَلا يَمْنَعُكَ ذلِكَ مِنْ اَنْ تَحُوطَنا بِنِعَمِكَ
تحوطنا: من التحويط والاحاطة، وهو كناية عن إسباغ النعمة على العبد من كل صوب.
والمعنى: إن استمرار العبد في المعصية، وإصراره عَلى المخالفة لا يمنع المولى سبحانه وتعالى من أن يسبغ نعمه وآلاءه عَلى عباده، ويحوطهم برحمته، ويرد قبيح ما عندهم بجميل ما عنده، عسى أن يستحيي العبد من قبيح ما يصنع، فيتوب إلى الله ويستغفره، وعسى أن تخجله هذه النعم المتوالية عن الاستمرار في المعصية، والمخالفة. وعجيب أمر هذا الإنسان، يعصي أمر ربه، ويتمرّد على سلطانه، وهو يعيش في ملكه، ويتزود بنعمه، ولو شاء الله أن تبتلعه الأرض، أو تنخسف عليه السماء، أو يقف قلبه عن الحركة، أو تنقطع أنفاسه، لم يكن لأحد أن يحول بينه وبين ما يريد.
وَتَتَفَضَّلَ عَلَيْنا بِآلائِكَ، فَسُبْحانَكَ ما اَحْلَمَكَ وَاَعْظَمَكَ وَاَكْرَمَكَ مُبْدِئاً وَمُعيداً
فسبحان الله وتعالى اسمه وشانه، ما أكرمه من مولى، يعفو ويصفح عن ذنوب عباده، وما أحلمه عمّا يصنع عباده من سوء، فلا يأخذهم بذنوبهم، ولا يعجّل عليهم بالعقوبة، وما أعظمه من رب، يرد عَلى قبيح أعمال عباده بجميل صنعه ونعمه. تبدأ عبادك بالنعمة، ثم تعيدها عليهم، وتفتح عليهم أبواب رحمتك مرة بعد أخرى.
والتسبيح تقديس لله تعالى وتنزيه له جل شأنه، وذكر لله بالتنزيه والتقديس، وقد أمر به تعالى في قوله: <وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ>[109]، <فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ>[110].
تَقَدَّسَتْ اَسْماؤكَ وَجَلَّ ثَناؤُكَ، وَكَرُمَ صَنائِعُكَ[111] وَفِعالُكَ، اَنْتَ اِلهي اَوْسَعُ فَضْلاً، وَاَعْظَمُ حِلْماً مِنْ اَنْ تُقايِسَني بِفِعْلي وَ خَطيـئَتي
بعد أن استعرض الإمام (ع) جميل صنع الله تعالى بعبده، وقبيح ما يَرُدّ العبد عَلى مولاه .. يعود فيسال الله تعالى أن لا يكافئ العبد بما يصنع من سوء أدبه وفعله، ولا يَرُدّ عليه ذنبه بالعقوبة، فإنك أنت اللّهم أوسع فضلاً وأعظم حلماً من أن تقايسني، وتقيس ما تهبني من رحمتك بما أعمل من سوء، وما ارتكب من ذنب.
وطرفا القياس هنا درجة العبد عند ربه وذنوبه وخطاياه، وقياس درجته وموقعه عند ربه بذنوبه وخطاياه، وهو حق وعدل، ولكننا نطلب من الله تعالى ان يتعامل معنا بفضله ورحمته، وليس بعدله، فلا يقيسنا بأعمالنا وسيئاتنا.
فَالْعَفْوَ الْعَفْوَ الْعَفْوَ، سَيِّدي سَيِّدي سَيِّدي
وهنا بعد أن مهّد الإمام (ع) للدعاء بهذا اللون من التذلل، والابتهال، والخشوع، والخضوع، والاعتذار .. يتضرع إلى الله في حاجاته بالدعاء مباشرة.
ولابد في الدعاء وفي مناجاة الله تعالى من أن يُعدّ الإنسان نفسه اعداداً كاملاً لمناجاته تعالى، ويتبرّأ عن تقصيراته وذنوبه، ليعفو عنه الله، وليكون اهلاً لمناجاته ودعائه تعالى.
وقد مهّد الإمام (ع) طويلاً للسؤال والدعاء والرغبة إلى الله، بالتذلّل، والخشوع، والخضوع، ثم اعقب ذلك بطلب العفو «العفو العفو العفو، سيدي سيدي سيدي»، في إصرار وتكرار.
وليس من شك ان الله تعالى لا يردّ طلب عبده بالعفو، فهو تعالى يقول: <إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ>[112]وكيف يصف الله تعالى نفسه بالعفو الغفور، ثم يَردّ دعاء عبده بالعفو والمغفرة.
اَللّـهُمَّ اشْغَلْنا بِذِكْرِكَ
هذا هو أول الدعاء، وهو من أهم ما يدعو الإنسان به ربّه أيضاً، فليس هناك من مطلب أهم من أن يشغل الله الإنسان بذكره تعالى، ويصرفه عمّا لا يهمّه، ولا ينفعه، من اهتمامات صغيرة وضيعة إلى الاهتمامات العالية في دنياه وآخرته، إلى ذكره الذي هو أساس كل الاهتمامات العالية في حياة الإنسان.
وذكر الله تعالى هو انشغال القلب في جميع الأحوال به تعالى، وأن تتوجّه اهتمامات الإنسان إلى كسب رضاه سبحانه وتعالى، حتى تكون حياته كلّها لله سبحانه وتعالى «قل إنّ صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله ربّ العالمين» وهذا هو معنى الانصراف إلى ذكر الله تعالى.
فليس ينبغي أن ينسى الإنسان ربّه في حال <رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ>[113] <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ>[114].
وليس الولد والمال مرغوباً عنهما في دين الله، ولا ينهى الله أن ينشغل الإنسان بتجارة أو بيع، وإنما الذي ينهى عنه الله هو أن يلتهي الإنسان بهذا أو بذاك عن ذكره، وينصرف عن ذكر الله تعالى بهذه أو بغيرها من شؤون الحياة واهتماماتها، فإذا كان كذلك وأعرض عن ذكره قدّر الله تعالى له معيشة ضنكا، وقيّض له شيطاناً قريناً <وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ>[115] <وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى>[116]، <وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا>[117]. وبعكس ذلك الاستمرار في ذكر الله، والمداومة عليه يبعث في نفس الإنسان اطمئناناً واستقراراً وركوناً إلى الله <الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ>[118].
وقد ورد هذا المضمون في كثير من جمل الدعاء المأثورة عن أهل البيت (ص). ففي الدعاء الذي رواه كميل بن زياد (رحمه الله) عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «وأسألك بجودك أن تدنيني من قربك، وأن توزعني شكرك، وأن تلهمني ذكرك»، «وأسألك بحقّك، وقدسك، وأعظم صفاك وأسمائك أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة، وبخدمتك موصولة، وأعمالي عندك مقبولة، حتى تكون أعمالي وأورادي كلّها ورداً واحداً، وحالي في خدمتك سرمداً»، «وقوّ عَلى خدمتك جوارحي، واشدد عَلى العزيمة جوانحي، وهب لي الجدّ في خشيتك، والدوام في الاتصال بخدمتك».
وقد أمرنا الله تعالى بذكره كثيراً، وفي كلّ وقت <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا 4وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلً>[119]، <وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً>[120].
وَاَعِذْنا مِنْ سَخَطِكَ، وَ َجِرْنا مِنْ عَذابِكَ[121]، وَارْزُقْنا مِنْ مَواهِبِكَ، وَاَنْعِمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلِكَ، وَارْزُقْنا حَجَّ بَيْتِكَ، وَزِيارَةَ قَبْرِ نَبِيِّكَ صَلَواتُكَ وَرَحْمَتُكَ وَمَغْفِرَتُكَ وَرِضْوانُكَ عَلَيْهِ وَعَلى اَهْلِ بَيْتِهِ، اِنَّكَ قَريبٌ مُجيبٌ، وَارْزُقْنا عَمَلاً بِطاعَتِكَ[122]، وَتَوَفَّنا عَلى مِلَّتِكَ[123] وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ (ص)
اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لي وَلِوالِدَيَّ وَارْحَمْهُما كَما رَبَّياني صَغيراً، اِجْزِهما بِالاْحسانِ اِحْساناً
واجزهما بالإحسان إحساناً، أي هبهما إلهي جزاء إحسانهما إحساناً من لدنك، وهبهما بإزاء إساءتهما غفراناً من لدنك. ومن خير ما يدعو الإنسان ربّه الدعاء للوالدين. وقد أمر الله تعالى به حيث يقول تعالى: <وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا>[124].
ومن دعاء نوح (ع)، كما يحكيه القرآن: <رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ>[125].
وَبِالسّيئاتِ غُفراناً. اللّهم اغْفِرْ لِلمُؤمِنينَ وَالمؤمناتِ، الأحياءِ مِنْهم وَالأمواتِ، وَتابعِ بَيننا وَبَينهُمْ بِالخيراتِ
أي اتبعنا بخيراتهم وبرّهم، وأتبعهم بخيرنا وبرّنا، وألحقنا بخيرهم وبرّهم، وألحقهم بخيرنا وبرّنا، واجعل علاقة ما بيننا وبينهم خيراً وبرّاً. واجعل الدعاء وطلب الخير والمغفرة هو العلاقة ما بيننا وبينهم.
اللّهم اغْفِرْ لحِيّنا، وَمَيّتنا، وَشاهِدِنا، وَغائِبِنا. ذُكرنا، وَانثانا، صَغيرنا، وَكبيرنا، حُرّنا، وَمملوكنا
من جميل أدب الدعاء في الإسلام أن لا ينسى الإنسان الآخرين إذا رفع يديه إلى الله تضرعاً ودعاءً من سؤال الخير، بل يقدّمهم عَلى نفسه في الدعاء والمسألة، حتى تكون مطالبهم ومسائلهم مقدّمة عَلى مطالبه ومسائله، فهو نحو من الشعور بالعطف والإحساس بالإيثار نحو الآخرين.
عن أبي عبد الله الصادق (ع)، قال: قال رسول الله (ص):
ما من مؤمن دعا للمؤمنين والمؤمنات إلاّ رد الله عليه مثل الذي دعا لهم به من كل مؤمن ومؤمنة مضى من أول الدهر أو هو آت إلى يوم القيامة.
وأن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة فيسحب، فيقول المؤمنون والمؤمنات: يا رب، هذا الذي كان يدعو لنا، فشفّعنا فيه، فيشفّعهم الله عز وجل فينجو.[126]
وهذا هو التعميم في الدعاء.
كَذِبَ العادلون بِالله، وَضلّوا ضَلالاً بَعيداً، وَخسروا خُسراناً مُبيناً
كذب الذين يعدلون عن الله المنحرفون عنه، الذين يعدلون في مسائلهم وحاجاتهم إلى غير الله، فإنَّ الله وحده هو الذي يستجيب دعاء المضطرّين، المتضرّعين إليه، وله الأمر والسلطان، وليس لغيره شيء من الأمر.
اللّهم صلّ عَلى مُحمّد وَآل مُحمّد
الصلاة عَلى مُحمّد وآل مُحمّد (ص)، والدعاء لهم إلى الله بالرحمة من أفضل الدعاء ومن خيره. ولا يردّ الله تعالى عبداً يسأل الرحمة لنبيّه وحبيبه. كيف وقد أمر عباده أن يضمّوا صلواتهم على رسول الله (ص) إلى صلواته وصلوات ملائكته على رسوله (ص): <إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا>[127].
ويستحب تقديم الصلاة عَلى النبي (ص) وأهل بيته عَلى دعاء المرء لنفسه، عسى أن يستجيب الله تعالى لدعائه ببركة الصلاة والدعاء له (ص).
واخْتمْ لِي بِخيرْ
اللّهم ارزقني حسن العاقبة (اختم لي بخير)، واختم حياتي بما ترضى به عنه.
وَاكْفني مَا أهمّني مِنْ أمرِ دنياي وَآخِرتي، وَلا تسلّطُ عليّ مَنْ لا يًرْحَمُني، وَاجْعَل عَليّ مِنكَ واقيةً باقيةً
واجعل لي من لدنك ستراً يحميني ويقيني شرّ الدنيا والآخرة، ويبقى معي، ولا يفارقني في حال (واقية باقية). والجُنّة – بالضم – الستر والوقاية.
وَلا تَسلبني صالحِ ما أنعمْتَ بِهِ عَليّ، وَارْزُقني مِنْ فَضلك رِزْقاً، واسعاً، حَلالاً، طَيباً.
ولا تسلبني ما وهبتني من نعمة صالحة، وصحّة، وعافية، وموهبة، وسلامة في أعضائي وجوارحي، وسمعة طيبة، وذكر حسن بين الناس، وقلب قد شغفه حبّك، وفطرة ألهمتني ذكرك والإيمان بك.
اللّهم احرُسني بِحراسَتِكَ، وَاحْفظني بِحفظك، وَاكلأني بِكلاءتكَ
واكلأني: أي احفظني.
والمعنى اللّهم احفظني بحفظك وحراستك وعنايتك ورعايتك، فلا يمسني سوء أو شرّ، ولا أنزلق إلى هلاكة وضلالة. يقول تعالى: <فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ>[128].
وَارزقني حَجّ بَيتِكَ الحرامِ في عامِنا هَذا وَفي كلّ عام، وَزيارة قَبرِ نَبيّك وَالأئمّة عَليهمِ السّلام
من نافلة القول الحديث عن استحباب زيارة مرقد النبي (ص)فقد ثبت عن النبي أنّه قال: من زار قبري وجبت له شفاعتي وقد فصّل القول في طرقه الشيخ الأميني في (الغدير: ج5، ص:93-96) ، والسبكي الشافعي في (شفاء السقام: ج3، ص:11).
كما ورد عنه (ص): من جاءني زائراً، لا تحمله إلاّ زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون شفيعاً له (ذكره السبكي في شفاء السقام: ج3 ص16، والأميني في الغدير: ج5، ص: 97 – 98 عن طرق كثيرة) وورد أيضاً عنه (ص): من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي. (أورده جمع من الحفاظ والمحدّثين كالبيهقي في السنن 5: 246 والسبكي في شفاء السقام 16 – 21 والسمهودي في وفاء الوفاء 2: 137. وقد أورد طرقه بصورة مشروحة العلاّمة الأميني في الغدير: ج5 ص 98 – 100) وغير ذلك من الأحاديث التي نقلها أئمة الحديث والرواية وكبار الحفّاظ والعلماء، وقد ذكر الشيخ الأميني في الجزء الخامس من الغدير طرفاً من هذه الروايات وطرقها.
وَلا تُخلني([129]) يَا رَبّ مِنْ تِلكَ المشاهدِ الشّريفة وَالمواقفِ الكَريمة. اللّهم تُبْ عَليّ حَتّى لا أعْصيك
أي هبني اللّهم توفيقاً لتوبة حقيقية كاملة حتى لا أعصيك بعدها، ولا أعدل عنها.
وقد ورد في قوله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا>[130]، إنّ التوبة الحقيقية هي التي لا يعدل الإنسان عنها إلى الذنب أبداً بعد أن أقلع عنه، وبعد أن غلبه الندم عَلى ما صدر عنه.
وَألهمْني الخيرَ([131]) وَالعَملَ بِه وَخَشيتكَ بِالليل وَالنّهار مَا أَبقَيتني يَا رَبّ العَالمينِ.
أي وألهمني خشيتك دائماً، وفي كلّ وقت، ما أبقيتني عَلى وجه الأرض، حتى لا أجرأ عَلى معصيتك وتجاوز حدودك. والخشية هذه من خصائص العلماء العارفين بالله سبحانه وتعالى، الذين لا يفترون عن ذلك، ولا تفارقهم خشية الله، والذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم. قال تعالى: <إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ>[132].
اللّهم
من المسائل المهمة في حياة الانسان (التوفيق) .. وهو أمر غير السعي والطلب، وإن كان يتوقف كثيراً على السعي والطلب، إلاّ أنه أمر آخر قد يجده صاحب السعي والطلب، وقد لا يجده رغم كثرة السعي والطلب منه.
وهذه المسألة من رقائق التوحيد، لا يعرفها إلاّ الموحدون. فليست أسباب النجاح كلها بيد الانسان، فقد جعل الله تعالى (السعي) و(الحركة) و(الطلب) بيد الانسان، واختص بـ(التوفيق). وليس كل من يسعى ويتحرك ويطلب يحقق الغاية التي يطلبها. وما اكثر الناس الذين يبالغون في السعي والحركة، فلا يحققون ما يريدون.
وهذا هو الذي يذكره القرآن عن العبد الصالح شعيب (ع): <وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ>[133].
ووقوع التوفيق بين النفي والاستثناء في كلام شعيب (ع) هو دليل انحصار التوفيق بيد الله، وأن الله تعالى اختص هو عز شأنه بالتوفيق .. وأما السعي والطلب فقد جعله الله تعالى بيد عباده، يأخذون منها على قدر ما يرزقهم الله تعالى.
إذن لتحقيق الغايات التي يسعى اليها الانسان في حياته لابد من أمرين، أحدهما السعي والطلب، وقد جعله الله تعالى بيد عباده، والآخر التوفيق، قد اختص الله تعالى به، يهب من يشاء من عباده ما يشاء منه، وهو بيد الله تعالى محضاً .. والتوفيق من أبواب التوحيد، يعرف الانسان به يد الله تعالى في حياته.
فقد يسعى الإنسان إلى زوجة صالحة ويطلبها سعياً حثيثاً ثم لا يجدها، ومهما طرق باباً انغلقت دونه.
وقد يبحث الإنسان عن شريك صالح لتجارته في السوق أو موظف صالح يأتمنهما في عمله وتجارته، فلا يجدهما، رغم كثرة السعي والطلب.
وقد يسعى إلى طبيب يعرف مرضه ويعالجه فلا يوفق له، وقد يبحث عن سكن له ولعائلته بالمواصفات التي يريدها فلا يجده رغم كثرة السعي والحركة والسؤال.
إذن السعي والطلب وإن كانا على درجة عالية من الأهمية في تحقيق ما يطلبه الإنسان من نجاح في حياته، ولكنهما ليسا كل شيء، وهناك شطر آخر من أسباب النجاح أمره بيد الله تعالى محضاً، وليس بيد الإنسان، وإلى ذلك يشير رسول الله (ص) فيما يروى عنه: إن لم ييسره الله لا يتيسر[134].
وهذا باب من أبواب التوحيد فتحه الله على عباده، قد أتاح الله تعالى هذا الباب من أبواب المعرفة والتوحيد لكل عباده المؤمن منهم والكافر.
وبعكس ذلك قد يقدم الإنسان على مشروع أو عمل فيجد أسباب ذلك كله أمامه واحداً بعد الآخر. قد يقبل على الزواج فيلتقي في مسعاه الأول بالفتاة الصالحة التي يطلبها، وقد يفكر في شريك صالح لعمله فيجده أمامه في المراحل الأولى من سعيه، وكأنه كان معه على ميعاد. وقد يبحث عن سكن صالح فيجده أمامه من دون مشقة ولا عناء .. وهذا هو التوفيق.
وهناك توفيق يطلبك كما تطلب التوفيق، فقد يخرج الشاب من بيته، وهو لم يفكر في الزواج، فيقترح عليه أحد الزواج من فتاة مؤمنة صالحة، فَتُحْدث في نفسه رغبة في الزواج فيقدم على الزواج منها. وقد يخرج من بيته، وهو لم يفكر في شراكة في التجارة فيقترح عليه أحد الشراكة، فيعتذر بأنه لا يملك رأس المال الكافي للشراكة، فيقول له أنه لا يطلب منه غير العمل والنزاهة والأمانة .. وقد يتصل به أحد فيعرض عليه سكناً للبيع في مكان مناسب وبسعر مناسب فيعتذر بأنه لا يملك المال الكافي للشراء، فيقول إن صاحب الدار يقسّط الثمن عليه، وهذا هو التوفيق الذي يطلبك.
روي عن الإمام الصادق (ع): اطلبوا التوفيق من الله فإن موسى (ع) خرج يطلب لأهله قبساً من النار فرجع بالنبوة (مضمون الرواية) وهناك سوء التوفيق وهو أن يطلب الانسان الحرام ويسعى إليه، فيجد أسبابه ماثلة أمامه من غير جهد ولا مشقة، كما لو كان معها على ميعاد.
وفي مقابل ذلك حسن التوفيق للعبادة والعمل الصالح، فقد يسكن الطالب فترة الدراسة مع طالب صالح يقوم لصلاة الليل، إذا مضى شطر من الليل، فيتعلم منه صلاة الليل ويلتزمها. وقد يبحث عن شريك فيرزقه الله شريكاً صالحاً ينفق من أمواله على الفقراء، فيتعلم منه الإنفاق، وقد يطلب لنفسه سكناً فيرزقه الله سكناً بجنب الجامع فيلتزم حضور الصلاة جماعة في أول وقتها .. وهكذا.
وقد يسلبه الله التوفيق – بسبب سيئاته وذنوبه – فيقوم لصلاة الليل فيغلبه النعاس ويريد أن يصوم فيمنعه المرض.
ولكل ذلك أسباب وعلل، فلا يحدث شيء للإنسان في أعماله ونيّاته إلاّ بسبب. والعلاقة بين عمل الإنسان والتوفيق وسوء التوفيق وسلب التوفيق كالعلاقة بين الظواهر المادية في الكون .. وكما نجد في العلاقات المادية بين الأشياء المادية تأثيراً سببياً بين الظواهر المادية، كذلك العلاقة بين عمل الإنسان صالحاً كان أو فاسداً وبين ظاهرة التوفيق، إيجاباً وسلباً، وحسناً وسوءً.
وليس معنى هذا الكلام إننا تراجعنا عن المبدأ الذي سبق أن شرحناه، وهو أنّ الله تعالى أولى الإنسان السعي والطلب، واختص تعالى لنفسه بعامل التوفيق .. فإن هذا المبدأ لا ينافي القول بأن مفاتيح التوفيق وسوء التوفيق وحسن التوفيق وسلب التوفيق ورزق التوفيق بيد الإنسان بالذات، كما أن النصر من عند الله البتة، ولكن مفاتحه بيد الإنسان، وهو قوله تعالى: <إِنَّ اللَّـهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّروا ما بِأَنفُسِهِم>[135].
ومن المهم أن نتعرّف نحن أسباب التوفيق، وسوء التوفيق، وحسن التوفيق، وسلب التوفيق، ورزق التوفيق، لنتجنّب حالة سلب التوفيق وحالة سوء التوفيق، ونكتسب حالة التوفيق وحسن التوفيق.
وقد روي أن شخصاً شكى إلى أمير المؤمنين (ع) أنه لا يتوفق لصلاة الليل، فقال له (ع): (إن سيئاتك منعتك صلاة الليل).
وفي هذه الفقرة من الدعاء نقرأ شكوى العبد إلى الله من سوء التوفيق: (ما لي كلما قلت قد صلحت سريرتي وقرب من مجالس التوابين مجلسي، عرضت لي بلية أزالت قدمي، وحالت بيني وبين خدمتك سيدي).
(والمشتكى إليه) في هذه الشكوى هو الله تعالى والشاكي هو الإنسان، والله تعالى يسمع شكوى عبده، وينصفه ويزيل عنه الحيف والظلم إذا كان صادقاً في شكواه .. <قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا>[136].
أجل، إن الله سميع بصير يسمع الشكوى ويستجيب لها، ويرفع أسباب الشكوى، إذا كان العبد صادقاً في شكواه.
ولكن من هو الذي نشكو منه إلى الله .. وهذا هو الركن الثالث للشكوى، إنه النفس الأمارة بالسوء بين جنبيه، وهي مصدر كل مصائبنا. وقد روي في أدعية الإمام زين العابدين (ع) شكوى إلى الله في ذلك (أشكو إليك نفساً بالسوء أمّارة).
وهو أعظم شكوى الإنسان. فقد يشكو الإنسان إلى الله إنساناً مثله، وقد يشكو الشيطان الذي يغدر به ويمكر به، ولكن كل هذه الشكاوى دون الشكوى إلى الله من (النفس الأمّارة بالسوء).
وفي هذه الفقرات من الدعاء نشكو إلى الله الحالة التي يستحق فيها الإنسان أن يسلب الله عنه التوفيق .. تأمّلوا:
(اللهم إني كلما قلت قد تهيّأت وتعبّأت وقمت للصلاة بين يديك، وناجيتك، ألقيت عليّ نعاساً، إذا أنا صليت، وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت).
ثم نجد في الدعاء إشارة سريعة إلى أسباب سلب التوفيق وسوء التوفيق في حياة الانسان .. يذكرها زين العابدين (ع) ليعلمنا إياها ويعرفنا عليها:
(لعلك رأيتني مستخفّاً بحقك فأقصيتني، أو لعلك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين، فبيني وبينهم خليتني، أو لعلك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلك بقلّة حيائي منك جازيتني).
ثم حيث يجد العبد أنّه بسيئاته وذنوبه وإعراضه عن الله قد استحق من عند الله سوء التوفيق وسلب التوفيق، فيلوذ بالله ويلجأ إلى الله لينقذه من سوء أعماله وآثارها، ويعفو عنه فيعوذ بالله ويلوذ بالله، حيث لا يجد لنفسه ملاذاً ومعاذاً في مصيبته ومحنته غير الله:
(وأنا عائذ بفضلك هارب منك إليك).
(فإن عفوت يا رب فطالما عفوت عن المذنبين قبلي، لأنّ كرمك أي رب يجل عن مكافأة المقصرين .. وما أنا يا سيدي؟ وما خطري؟ هبني بفضلك، وتصدّق عليّ بعفوك، وجلّلني بسترك، واعف عن توبيخي بكرم وجهك).
والوسيلة التي يقدمها العبد بين يدي الله لقبول عذره وشموله بالعفو هو حسن ظنه بالله، فإن الله تعالى يعطي عبده بحسن ظنه به ما لا يعطيه من لا يحسن به الظن: (وأنا متنجز ما وعدت من الصفح عمن أحسن بك ظناً).
إنّي كَلمّا قُلتَ قَد تَهيّأتَ وَتعبأت([137]) وَقمت للصّلاة بَين يديك وَناديتكَ ألقيتَ عَليّ نُعاساً إذا أنا صَلّيت، وَسلبتني مُناجاتكَ إذا أنا نَاجيت.
والمعنى إنني كلما عزمت عَلى الخلوص لك، والقيام لك بالعبادة ومناجاتك، وقرّرت بيني وبين نفسي أن أنتزع نفسي مما أنا فيه من التكاسل والإهمال، وأنصرف إلى عبادتك وذكرك وطاعتك عرض لي عارض يشغلني ويصرفني عن ذكرك.
فأعني اللّهم عَلى عبادتك وطاعتك، وخذ بيدي وأمددني بمددك، وهيّأ لي أسباب التوفيق، واشرح صدري للإقبال إليك، فلولا إمدادك ورحمتك لي لم تتيسر لي أسباب النجاة. وليس غيرك من يأخذ بيد العباد في مزالق الحياة ومهالكها.
وإنما يسلب الله تعالى توفيق الطاعة والعبادة عن عبده، عندما لا تخلص نيّته، ولا تصدق عزيمته. فإن الله تعالى يجازي العبد عَلى ذلك بأن يسلب عنه توفيق طاعته وعبادته، ويقهره بالكسل، ويبتليه بما يصرفه عن ذكره. وأما عندما تصدق نيّة العبد، ويصحّ عزمه فإن الله تعالى يلهمه الهداية، ويرزقه توفيق الطاعة <وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا>[138].
والإمام السجاد (ع) هنا بصدد التعليم والتوجيه لمن غلبتهم شقوتهم، وطاوعوا أهواءهم، فيسلبهم الله توفيق الطاعة والعبادة، فيعلّمهم الإمام السجاد (ع)كيف يعود العبد إلى ربه، ويتوب إليه، بعد طول انقطاع، وتنكّر لرحمته وآلائه، وتمرّد عَلى شريعته ورسالته.
- [1] الفاطر: 15
- [2] غافر: 60
- [3] الفرقان: 77
- [4] غافر: 60
- [5] دعاء الافتتاح
- [6] بحار الأنوار: ج77، ص47
- [7] كنز العمال: ح5252
- [8] كنز العمال: ح5255
- [9] يونس: 61
- [10] كنز العمال: ح5252، تفسير نور الثقلين: ج2، ص308
- [11] بحار الأنوار: ج93، ص153
- [12] كنز العمال: ح18171
- [13] بحار الأنوار: ج93، ص154
- [14] المحجة البيضاء: ج2، ص237
- [15] أخرجه ابن ماجة: ح1350
- [16] المائدة: 118
- [17] المحجة البيضاء: ج2، ص238
- [18] الجاثية: 21
- [19] الحشر: 21
- [20] الأعراف: 180
- [21] الأعراف: 180
- [22] يونس: 35
- [23] الأحزاب: 4
- [24] المؤمن: 60
- [25] البقرة: 45
- [26] الرعد: 14
- [27] التوبة: 4
- [28] البقرة: 195
- [29] البقرة: 222
- [30] آل عمران: 146
- [31] أمّلك: أي رجاك.
- [32] اللهف: الاستغاثة والاضطرار واللجوء.
- [33] البقرة: 186
- [34] ق: 16
- [35] المطففين: 14-17
- [36] السكون: الاطمئنان والركون.
- [37] اللجاء: الملاذ.
- [38] جاء في بعض النسخ (رحيماً) بدل (عليماً) وهو من خطأ النساخ، وهذه الفقرة تضمين لقوله تعالى في سورة (النساء:32) <وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا>.
- [39] المائدة: 9
- [40] الروم: 6
- [41] إبراهيم: 22
- [42] نوهت باسمي: أي رفعت ذكري.
- [43] البقرة: 165
- [44] الرعد: 28
- [45] الأنفال: 2
- [46] التوبة: 125
- [47] البقرة: 10
- [48] الزمر: 22
- [49] راهباً: خائفاً.
- [50] فزع: ذعر وخاف.
- [51] أي إنّ ما يجرؤ العبد عَلى مسألته تعالى، مع ما يعرف من ذنوبه وجرائمه هو ثقة العبد بجوده وكرمه.
- [52] عائذ بفضلك: أي ألوذ بفضلك وكرمك من ذنوبي وجرائمي.
- [53] الرحمن: 33
- [54] الذاريات: 50
- [55] البقرة: 29
- [56] فلا توبخني عَلى ما كان مني من ذنب وتقصير بكرم وجهك، فلست أطيق توبيخك وعتابك.
- [57] آل عمران: 135
- [58] الحشر: 29
- [59] طه: 7
- [60] آل عمران: 178
- [61] الأعراف: 180
- [62] التوب: التوبة، يتوسل الإمام (ع) إلى الله بأسمائه الحسنى، ويقول: «يا حليم، يا كريم، يا حيّ، يا قيّوم، يا غافر الذنب».
- [63] الإسراء: 20
- [64] الحديد: 29
- [65] غافر: 61
- [66] إبراهيم: 11
- [67] أي خلصني ونجني.
- [68] عود إلى اللجوء إلى أسماء الله الحسنى والتضرع إليه تعالى. و(المجمل) من أجمل: أي أحسن فهو بمعنى المحسن.
- [69] إبراهيم: 34
- [70] آل عمران: 31
- [71] آل عمران: 31
- [72] الشورى: 21
- [73] انقطع إليك: أي افرغ قلبه وفؤاده عن أي حب وتعلق بسوى الله، وانقطع إلى الله.
- [74] النساء: 79
- [75] النساء: 17
- [76] يوسف: 89
- [77] تفسير العیاشي: ج1، ص228
- [78] النساء: 18
- [79] يقول تعالى: <إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ> (النجم:32)
- [80] آل عمران: 154
- [81] الأعراف: 54
- [82] الرعد: 31
- [83] الأعراف: 54
- [84] إبراهيم: 27
- [85] الشورى: 19
- [86] آل عمران: 47
- [87] سبأ: 36
- [88] البقرة: 284
- [89] الشورى: 8
- [90] الأعراف: 56
- [91] الأعراف: 156
- [92] المؤمن: 7
- [93] الأنعام: 54
- [94] آل عمران: 174
- [95] الكافي، ج2، ص27
- [96] الكافي، ج2، ص72
- [97] القيامة: 14
- [98] فإنك أنت أهل الجود والمغفرة.
- [99] ها هنا العلم برحمته ورجاء الرحمة ينقلب إلى الدعاء (فامنن علينا).
- علمك بضعفنا وعجزنا وعلمنا بكرمك ورحمتك جعلنا نلوذ رغم العصيان.
- [100] جُدْ: أمر من جاد يجود، بمعنى الطلب والالتماس، فإنهما من معاني صيغة (افعل) .. والمعنى: تكرّم علينا، وأبدل من رحمتك وفضلك ونيلك.
- [101] النور: 35
- [102] هدايتنا منك، وغنانا منك، ونصبح ونمسي برحمتك.
- [103] الحجر: 49
- [104] آل عمران: 135
- [105] الزمر: 53
- [106] الأحقاف: 31
- [107] هود: 52
- [108] الإسراء: 83
- [109] آل عمران: 41
- [110] الواقعة: 96
- [111] كرم صنائعك وفعالك، أي عزّ وعظم وحَسُن.
- [112] الحج: 60
- [113] النور: 37
- [114] المنافقون: 9
- [115] الزخرف: 36
- [116] طه: 124
- [117] الكهف: 28
- [118] الرعد: 28
- [119] الأحزاب: 42
- [120] الأعراف: 205
- [121] أي احمنا واحفظنا وانقذنا من عذابك.
- [122] أي: وفّقنا أن نعمل بطاعتك. وهو رزق جميل وعظيم من عند الله.
- [123] وأمتنا عَلى ملّتك ودينك، وسنّة نبيّك (ص).
- [124] الإسراء: 24
- [125] نوح: 28
- [126] أصول الكافي: ج:2، ص508، أمالي الطوسي: ج:2، ص95، وسائل الشيعة: ج4، ص:1151
- [127] الأحزاب: 56
- [128] يوسف: 64
- [129] ولا تخلني: أي لا تجعل مكاني خالياً في تلك المشاهد الشريفة.
- [130] التحريم: 8
- [131] الخير هو الإيمان وفضائل الأخلاق والتقوى. والنية الصالحة، والعمل به هو العمل بمقتضى ذلك.
- [132] فاطر: 28
- [133] هود: 88
- [134] الجامع الأحكام تفسير القرطبي: ج5، ص1665
- [135] الرعد: 11
- [136] المجادلة: 1
- [137] تعبأ: أي تهيّأ وتجهّز.
- [138] العنكبوت: 69