الاضطرار هو وعي الفقر والقهر

هذا موقع الإنسان في هذه الدنيا، وفي الآخرة، من الفقر إلى الله، والقهر إلى سلطان الله .. ولو أن الإنسان وعى موقعه بين يدي الله من الفقر والقهر تذوق معنى الاضطرار إلى الله تعالى في كل شيء.
والذي يتذوق الاضطرار إلى الله في كل شيء فقد رزقه الله وعي الدعاء وجميل الإجابة.
يقول تعالى: <أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ>[1].
فإن حقيقة الاضطرار هو وعي الفقر إلى الله في كل شيء، ووعي قهر الله تعالى له في كل شيء. فإذا وعى الإنسان هاتين الحقيقتين تذوق الاضطرار إلى الله في كل شيء.
فإن عامة الناس لابد ان يشعروا معنى الاضطرار إلى الله في حياتهم، حيث لا يجدوا سبباً يلجؤون إليه إلاّ الله تعالى، ويشعرون عنده بفقرهم إلى الله وخضوعهم لسلطان قهر الله ..
ولكن قليلاً من الناس يشعر بهذه الحقيقة المزدوجة (الفقر والقهر) في كل موقع، وكل وقت، وفي كل شيء، وهذه درجة عالية من الوعي لا يؤتاها إلاّ أصحاب البصائر من عباد الله. أولئك يعون الاضطرار إلى الله في كل شيء وفي كل زمان ومكان، وأولئك يرزقهم الله طعم الدعاء والانقطاع إلى الله تعالى في الطلب والمسألة، ويرزقهم الله لذة الإجابة من جانب الله تعالى: <أمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ>[2].
وموقع (الاضطرار إلى الله) هو المنطلق الصحيح للدعاء، ومثل هذا الدعاء لا تخطؤه الإجابة.
وهاتان معادلتان قرآنيتان متطابقتان مع حقائق الكون:
المعادلة الأولى: ان الدعاء هو الاضطرار، وما عدا ذلك صورة دعاء، وليس دعاءً وأما الاضطرار فهو مرحلة عالية من مراحل وعي الفقر .. الفقر إلى الله حيث لا يغنيه أحد من دون الله إلاّ بإذن الله، والإحساس بسلطان قهر الله عليه، لا يعيذه احد منه إلاّ بإذنه، ولهذا الاضطرار وجهان:
وجه سلبي: وهو الإيمان بأنّه لا يغنيه أحد من دون الله، ولا يعيذه احد من دون قهر الله.
وجه إيجابي: هو اللجوء إلى الله تعالى عند الدعاء حق اللجوء .. وهذا اللجوء الحق وهو الوجه الإيجابي للاضطرار، وهذا اللجوء الحق إلى الله في المسألة هو حقيقة الدعاء أو الدرجة العالية منه.
وهذه هي المعادلة الأولى.
المعادلة الثانية: إن الدعاء عن اضطرار يساوي الإجابة دائماً، إلاّ أن يعلم الله تعالى مصلحة العبد في التأجيل فيؤجله.
«ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور. فلم أر مولى كريماً أصبر على عبد لئيم منك يا رب»، أو يرى مصلحة العبد في تبديل طلبه برزق آخر يرزقه الله تعالى فيبدله الإجابة في دعائه.
وما عدا ذلك فلا يخطئ الدعاء الإجابة، إذا كان الدعاء مصداقاً للجوء الصادق والاضطرار إلى الله.
ذلك أن الدعاء يمثّل وعي الإنسان لحاجته وفقره واضطراره إلى الله، وهذا الوعي هو من اعظم مفاتيح رحمة الله تعالى.
ورحمة الله تهبط على مواضع وعي الفقر والحاجة والاضطرار، كما يطلب جري الماء على وجه الأرض المواضع الواطئة من الأرض، ويترك المواضع النائية والعالية.
كذلك رحمة الله تطلب مواضع الفقر والحاجة والاضطرار، ومواضع وعي الفقر والحاجة والاضطرار دائماً.
يا رَبّ يا رَبّ يا رَبّ
تأتي كلمة (الرب) بمعنيين: مالك الشيء وخالقه، ومنشؤه، ومن يتولى تربيته.
والنداء هنا يأتي في هذا الإطار: أي يا ربي، ويا مالكي، ويا من خلقني، ورباني، وأنشأني. إلى من يلجأ المخلوق إن لم يلجأ إلى خالقه. وإلى من يلجأ المملوك إن لم يلجأ إلى مالكه.
وقد أمرنا الله تعالى أن ندعوه بهذا النداء في مواضع عديدة من القرآن.
يقول تعالى: <وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا>[3]
<وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً>[4].
<وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ>[5].
وقد دعا الله تعالى بهذا النداء الأنبياء (ع).
ومن ذلك دعاء آدم (ع): <قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ>[6].
ودعاء نوح (ع): <وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً>[7].
ودعاء إبراهيم (ع): <رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ>[8].
ودعاء موسى (ع): <قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ>[9].
ودعاء سليمان (ع): <قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ>[10].
ودعاء زكريا (ع): <وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ>[11]، <قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء>[12].
ودعاء عيسى (ع): <قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ>[13].
وكما أمرنا بالدعاء بهذا النداء: (يا ربّ) ووجدنا إن جملة من دعاء الأنبياء (ع) كان بهذا النداء، كذلك نجد ان الاستجابة من جانب الله تعالى لدعاء عباده وردت تحت عنوان (الرب).
<فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أو أُنثَى>[14].