حقيقة العبودية

جدول المحتويات
وحقيقة العبودية إلى الله هو الفقر إلى الله.
وهذا الفقر فقر شامل مطلق في كل شيء، من دون استثناء: <ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ>[1]. (عبداً مملوكاً) لا يملك شيئاً و(لا يقدر على شيء). وهاتان الكلمتان تبلوران حقيقة العبودية بشكل كامل. ولا أعرف تحديداً للفقر أبلغ من هاتين الكلمتين (لا يملك ولا يقدر).
حقيقة تعلق العبد بالله
وتعلّق العبد بالله عندما يكون قائماً على أساس الفقر إلى الله يكون من (الإضافة الإشراقية)، وليس من (الإضافة المقولية) التي تتألف من (متعلق) و(متعلّق) و(علاقة)، فيكون (المتعلق به) هو الله تعالى في الإضافة المقولية و(المتعلق) هو العبد و(العلاقة) هي العبودية والفقر، ويكون للأنا بروز وظهور وظلال، وهذه هي مصيبة الإنسان الكبرى.
وأما في الإضافة الإشراقية فلا وجود للمتعلّق، ولا يوجد إلاّ (المتعلق به) وهو الله تعالى و(العلاقة) وهي الفقر والعبودية.
الفقر إلى الله
وفقر العبد إلى الله، كما قلنا فقر شامل مطلق في كل شيء فلا يملك العبد شيئاً من دون الله، ولا يقدر على شيء من دون الله.
فقر شامل في كل شيء، في وجوده، ونفسه، وعقله، وضميره، وقلبه، ووعيه، وإرادته، وفهمه، وحوله، وقوته، وحياته، واستقامته، وهدايته، وما رزقه الله من الأموال والأزواج والبنين والسلطان والموقع في الدنيا والآخرة، ليس يملك منها شيئاً، ولا يقدر على شيء منه، إلاّ ما ملّكه الله، ومكّنه الله منه (عبداً ملوكاً لا يقدر على شيء).
المراحل الثلاثة للعروج إلى الله
والفقر إلى الله معراج الإنسان إلى الله تعالى، والانسان ينطلق للعروج إلى الله من هذه النقطة بالذات، وأية نقطة أخرى غير هذه النقطة لا تمكنه من العروج إلى الله. فالفقر إذن، قاعدة الانطلاق والعروج إلى الله. ويتم عروج الإنسان إلى الله ضمن ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: وعي الفقر إلى الله
وإذا لم يدرك الإنسان فقره إلى الله لا يدرك سلطان الله وفضله ورحمته عليه .. ولا يتمكن الإنسان ان ينطلق في العروج إلى الله من غير ان يعي وعياً كاملاً شفافاً فقره وفاقته وحاجته إلى الله.
المرحلة الثانية لهذه الحركة: التعلق والعلاقة بالله.
والتعلق بالله على أنحاء وصور مختلفة، منها: (الإيمان)، و(الرجاء)، و(الخوف)، و(الحب)، و(الأمل)، و(الأنس)، و(الشوق) وغير ذلك.
وكل من هذه الألوان من أنماط العلاقة بالله.
ولابد في العلاقة بالله من هذه الحزمة من الألوان وغيرها جميعاً ومن مجموعها يتألف طيف العلاقة بالله.
وهذه هي العلاقة السليمة بالله، أما العلاقة الوجدانية ذات اللون الواحد فهي علاقة غير متعادلة غالباً.
والمرحلة الثالثة في هذه المرحلة: حركة العبد النفسية إلى الله بالدعاء والسؤال من الله والتوكل على الله، وطاعة الله، وشكر الله.
فإن الدعاء والسؤال يتبعان الرجاء والأمل بالله، والتوكل على الله يتبع الثقة بالله وبسلطان الله وقوته، وطاعة الله تتبع الإيمان بألوهية الله لعباده، وشكر الله يتبع الإيمان بربوبية الله لعبده .. وهذه وغيرها نماذج من حركة العبد إلى الله.
وهذه الفقرة تشير إلى ذلك، وسوف يأتي توضيح وشرح لهذه الرحلة الربانية.
وَرَجائي وَتَوَكُّلي
هذه الفقرة مزيج رائع من التعلقات والأفعال النفسية، تمتزج مع بعض في هذه الرائعة العرفانية.
ولإيضاح هذا المعنى نقول:
إن الإنسان يمثل الفقر إلى الله والتعلق بالله والحركة إلى الله. وهذه وجوه ثلاثة لقضية واحدة نتحدث عنها بالتسلسل:
- وعي الفقر إلى الله:
يقول تعالى: <يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إلى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ>[2].
والفقر هو حقيقة العبودية، ولا يدرك الإنسان العبودية إن لم يدرك الفقر. يقول تعالى في معنى العبودية:
<ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ>[3].
وفي هذه الآية العبودية تتجسّد في هاتين الكلمتين: (مملوكاً لا يقدر على شيء)، نفي الملك ونفي القدرة: لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء، وهذا هو حقيقة الفقر: نفي الملك ونفي القدرة، في مقابل الأنانية والطغيان الذي هو دعوى الملك والقدرة: <إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى>[4].
والأنانية والطغيان لا يعادلان الاستغناء بالملك والقدرة عن الله، وإنما يعادلان تخيّل الاستغناء عن الله. والتعبير هنا دقيق <أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ>[5].
وبعكس ذلك الفقر، فإنه وعي ومعرفة وليس تخيلاً ووهماً.
ولا نعرف تعريفاً للفقر والمعرفة أفضل مما ورد في قوله تعالى: <عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ>.
وهذا الفقر شامل في حياة الإنسان، فهو لا يملك وجوده ولا نفسه ولا عقله وإرادته ولا المواهب التي أودعها الله في نفسه، ولا سلامته ولا الهدى ولا التقوى، ولا التوحيد. وإنما ذلك كله مما آتاه الله تعالى، وهو مالكه وخالقه، وصانعه وواهبه، وكلما وهبه الله من أموال وبنين وأزواج وموقع ونفوذ وسلطان ونعمة فهو أمانة من عند الله أودعها عنده، وجعله خليفة عليه. فهو لا يملك شيئاً من دنياه وآخرته ومعاشه ومعاده، وإنما ذلك كله ملك لله.
ولا يقدر على شيء مما يقوم به إذا سلبه الله ما رزقه من القدرة، فلا يتحرك، ولا يتنفس، ولا يتعلم، ولا يأخذ، ولا يعطي، ولا يتزوج، ولا ينجب، ولا يفتح، ولا يغلق، ولا ينطق، ولا يأمر، ولا ينهى إلاّ بتقدير الله. فهو من دون تمليك الله وتقديره لا شيء. وتعلقه بالله من الإضافة الإشراقية، وليس من الإضافة المقولية – كما قلنا – فهو ليس شيئاً يتعلق بالله، وإنما هو محض التعلق بالله بخلاف الإضافة المقولية التي تتألف من شيئين اثنين يتعلق أحدهما بالآخر.
وكما لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء .. كذلك لا يقدر على أن يدفع عن نفسه ضراً من مرض أو عدوا أو قضاء سوء إلاّ بتقدير الله تعالى، وهذا هو الوجه الأول.
- التعلق النفسي بالله:
وإذا وعى الإنسان من نفسه هذه الحقيقة، وعرف أنه لا يملك شيئاً، ولا يقدر شيء من الخير، ولا دفع شيء من الضر عن نفسه إلاّ بالله تعالى .. أقول: إذا وعى الإنسان هذه الحقيقة حق الوعي، ينقلب رجاؤه كله إلى الله وثقته بالله، ورغبته فيما عند الله، وخوفه من عند الله، وحبه لله، وشوقه وأنسه إلى الله، وهذا هو التعلق النفسي بالله، ولهذا التعلق وجهان: وجه إيجابي هو الثقة بالله، والرجاء والرغبة فيما عند الله، والخوف من عند الله. ووجه سلبي هو نفي الخوف من عند غير الله، يخشونه ولا يخشون أحداً إلاّ الله[6]. ونفي الرجاء والرغبة إلى غير الله، إلاّ أن يكون في امتداد الرجاء والرغبة إلى الله وفي امتداد حب الله وفي امتداد مخافة الله.
وهو يؤول إلى الرجاء في الله والرغبة فيما عند الله والخوف من الله. وهذا هو الوجه الثاني للقضية المتقدمة.
- الحركة النفسية إلى الله:
وهذا هو الوجه الثالث لنفس القضية، وهو حركة النفس إلى الله .. فإن النفس تتحرّك في امتداد تعلقاتها، فإذا تعلّقت ثقتها بالله وآمنت بقوته، وسلطانه توكلت على الله، وإذا كان رجاؤه وأمله في الله سأل الله تعالى وطلب منه ودعاه لا محالة. وإذا آمن بألوهية الله أطاع الله، وإذا آمن بربوبية الله شكر الله، وإذا آمن بسلطان الله وأمره ونهيه وغضبه خاف الله، وإذا عرف قدرة الله على حمايته استعاذ بالله، ولجأ إلى الله .. وهذه هي حركة النفس الى الله، وهي الوجه الثالث لنفس القضية.
ونعيد النظر مرة أخرى بالإجمال إلى هذه القضايا الثلاثة التي هي ثلاثة وجوه لقضية واحدة:
- وعي الفقر إلى الله.
- التعلق النفسي بالله.
- تحرك النفس إلى الله.
وبعد هذا الإيضاح نستطيع أن نقرأ هذا النص من الرائعة العلوية للإمام علي بن الحسين (ع) فهو يصوّر لنا الوجه الثاني والثالث لوعي الفقر إلى الله.
والآن نتأمل في النص:
(سَيِّدي عَلَيْكَ مُعْتَمَدي وَمُعَوَّلي، وَرَجائي وَتَوَكُّلي، وَبِرَحْمَتِكَ تَعَلُّقي، وَبِفَنائِكَ اَحُطُّ رَحْلي، وَبِجُودِكَ اَقْصِدُ طَلِبَتي، وَبِكَرَمِكَ اَيْ رَبِّ اسْتَفْتِحُ دُعائي، وَلَدَيْكَ اَرْجُو فاقَتي، وَبِغِناكَ اَجْبُرُ عَيْلَتي، وَتَحْتَ ظِلِّ عَفْوِكَ قِيامي، إلى جُودِكَ وَكَرَمِكَ اَرْفَعُ بَصَري، وإلى مَعْرُوفِكَ اُديمُ نَظَري).
أنت ثقتي ومآلي ورجائي، وموقع توكلي، وأنا متعلق برحمتك وبساحة رحمتك أنزل (أحط رحلي) وأقصد طلبتي ثقة بجودك وكرمك، وافتتح دعائي وطلبتي باسمك وعندك – وحدك – أطرح فاقتي وفقري وأرجو منك أن تغنيني وتدفع فاقتي .. الخ.
فَلا تُحْرِقْني بِالنّارِ وَاَنْتَ مَوْضِعُ اَمَلي، وَلا تُسْكِنِّىِ الْهاوِيَةَ، فَاِنَّكَ قُرَّةُ عَيْني، يا سَيِّدي لا تُكَذِّبْ ظَنّي بِاِحْسانِكَ وَمَعْرُوفِكَ فَاِنَّكَ ثِقَتي، وَلا تَحْرِمْني ثَوابَكَ، فَاِنَّكَ الْعارِفُ بِفَقْري.
ثم يقول (ع) في نفس السياق:
(فَلا تُحْرِقْني بِالنّارِ وَاَنْتَ مَوْضِعُ اَمَلي، وَلا تُسْكِنِّىِ الْهاوِيَةَ فَاِنَّكَ قُرَّةُ عَيْني، يا سَيِّدي لا تُكَذِّبْ ظَنّي بِاِحْسانِكَ وَمَعْرُوفِكَ فَاِنَّكَ ثِقَتي، وَلا تَحْرِمْني ثَوابَكَ فَاِنَّكَ الْعارِفُ بِفَقْري).
وهل يمكن أن يخيب الله تعالى أمل عبد يضع أمله ورجاءه كله في رحمة الله .. فيحرقه الله بالنار بذنوبه وسيئاته؟
وهل يمكن ان يقابل الله تعالى هذا الأمل الذي وضعه في قلب عبده فيخيّب أمله، ويؤاخذه بذنوبه ويحرقه بالنار؟
وهل يمكن أن يسكن عبده الهاوية(الهاوية – أعاذنا الله – من دركات الجحيم، وهو منزل الذين تخف موازين أعمالهم الصالحة <وأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ 8 فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ>[7]. يتعذب فيها، وهو يحب ربه تبارك وتعالى، ويضع فيه كل رجائه وأمله وحبه، وهو تعالى قرة عينه؟
اِلهي اِنْ كانَ قَدْ دَنا اَجَلي وَلَمْ يُقَرِّبْني مِنْكَ عَمَلي فَقَدْ جَعَلْتُ الاْعْتِرافَ اِلَيْكَ بِذَنْبي وَسائِلَ عِلَلي.
يعلمنا الإمام (ع) أن نناجي الله تعالى فنقول: اِلهي اِنْ كانَ قَدْ دَنا اَجَلي، وَلَمْ يُقَرِّبْني مِنْكَ عَمَلي .. فإني ألجأ إلى وسيلة أخرى، تقربني منك وهي الاعتراف بالذنوب والسيئات فإن لدى العبد وسيلتين إلى الله:
الوسيلة الأولى هي العمل الصالح وهو وسيلة الصالحين، وإذا دنا أجل العبد، ولم يجد في حياته من الأعمال الصالحة ما يقربه إلى الله، فلا يبقى لديه إلاّ الوسيلة الأخرى، وهي الاعتراف بالذنوب والسيئات.
ومن عجب أن الاعتراف بالذنوب والسيئات يقرب الإنسان إلى الله، كما تقرب الأعمال الصالحة صاحبها إلى الله .. إلى هذه الحقيقة يشير القرآن الكريم، يقول تعالى: <فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ>[8].
والآية الكريمة واضحة في أن الله تعالى يبدل سيئات عباده حسنات.
ولكن كيف؟
الآلية التي تتحول بها السيئات إلى الحسنات هي الاستغفار والاعتراف. ومآل الاعتراف إلى الاستغفار.
والسؤال الثاني والثالث: ما هو حدود الاعتراف؟ وكيف يُقرّب الاعتراف صاحبه إلى الله؟
إن الاعتراف إلى الله ليس لكي نُسمع الله ذنوبنا، فإن الله تعالى يعلم بسيئاتنا وذنوبنا اعترفنا له أم لم نعترف.
وإنما الغاية من هذا الاعتراف أن نشعر أنفسنا بذل المعصية بين يدي رب العالمين.
فإن العبد إذا استعرض بين يدي الله ذنوبه وسيئاته، يعترف بها ذنباً بعد ذنب، وسيئة بعد سيئة. ويشعر بذل المعصية بين يدي الله.
والاستشعار بذل المعصية بين يدي الله يمنح الإنسان عزماً على الكف عن المعصية، ويشعره بقبح الذنب والتجري على الله.
وهذه النقاط جميعاً من منازل رحمة الله فإن رحمة الله تعالى هابطة باستمرار واتصال، ولا تنقطع هذه الرحمة .. ولهذه الرحمة منازل تنزل الرحمة عندها، وبعكس ذلك هناك مواقع في حياة الناس نائية عن رحمة الله.
فمن الناس من يعرف منازل الرحمة الإلهية فيضعون أنفسهم في هذه المنازل، فتصيبهم رحمة الله، كل بقدر وعائه النفسي والعقلي. ومن الناس من يعيش نائياً عن منازل رحمة الله، فلا تصيبه رحمة الله إلاّ بقدر محدود يشمل الناس جميعاً، مما لابد لهم منه في دنياهم.
وليس العجز في رحمة الله ولا شح في رحمة الله، وإنما الناس يختلفون في القرب والبعد من رحمة الله وتختلف أوعيتهم النفسية والعقلية في النيل من رحمة الله.
ومآل اختلاف أوعية الناس في النيل من رحمة الله هو موضعهم من منازل رحمة الله، فكلما يكون مواضعهم أقرب إلى منازل رحمة الله تزداد وعاء نفوسهم وعقولهم في النيل من الرحمة الإلهية.
فالشأن كل الشأن إذن في نيل رحمة الله، هو معرفة منازل الرحمة والحصول عندها.
منازل الرحمة
ومنازل رحمة الله كثيرة فالعبودية والذل بين يدي الله من منازل الرحمة، والاستكبار والأنانية تحجب الإنسان عن منازل الرحمة.
ومهما كان العبد يشعر بالذل بين يدي الله يكون أقرب إلى منازل رحمة الله.
ووعي فقر العبد إلى الله من منازل رحمة الله، وتخيل الاستغناء عن الله والطغيان يبعد الإنسان عن منازل رحمة الله، والإيمان من منازل الرحمة، والكفر والشرك يبعدان الناس من منازل رحمة الله والعلم والمعرفة من منازل رحمة الله والجهالة تبعد الإنسان من رحمة الله والأدب من منازل رحمة الله وسوء الأدب يبعد الإنسان من رحمة الله. والإيثار من منازل الرحمة والإثرة تبعد الإنسان عن منازل رحمة الله.
والشكر من منازل الرحمة، والكفران يبعد الإنسان عن منازل رحمة الله والقناعة من منازل الرحمة. والطمع والجشع يبعدان الإنسان عنها.
والبكاء وانكسار القلوب من منازل الرحمة، والفرح والحبور يبعدان الإنسان عن منازل الرحمة.
والطاعة من منازل رحمة الله، والمعصية تبعد صاحبها عن منازل الرحمة.
والسؤال من الله والدعاء من منازل الرحمة. والاستكبار من الله يبعد الإنسان عن رحمة الله.
<وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ>[9].
والرقة من منازل الرحمة، وقسوة القلوب تبعد الإنسان عن رحمة الله وقصر الأمل في الدنيا يقرب الإنسان من منازل الرحمة. وطول الأمل يبعد الإنسان عن رحمة الله.
وذكر الله من منازل الرحمة. والإعراض عن ذكر الله يبعد الإنسان عنها.
والذكر من منازل الرحمة، والغفلة تبعد الإنسان عن منازل الرحمة.
ومصاحبة الصالحين من منازل الرحمة. وصحبة الظالمين والفاسقين تبعد الإنسان عن رحمة الله.
كيف تنقلب السيئة إلى الحسنة، وتنقلب الحسنة إلى السيئة؟
وبناء على التقرير المتقدم: الاعتراف بالذنب من منازل الرحمة، لأن العبد يستشعر بذل المعصية بين يدي الله عند الاعتراف .. وهذا التذلل يشعر الإنسان بقبح المعصية والخجل من ارتكاب الذنب والعزم على التوبة. وهذه جميعاً من منازل الرحمة، تجعل صاحبها عند منازل رحمة الله، فتنقلب السيئة التي يعترف بها صاحبها بين يدي الله إلى الحسنة، لأن الاستغفار والتذلل بين يدي الله، واستشعار الخجل والخوف من معصية الله .. كل ذلك حسنات .. وهذا هو معنى انقلاب السيئات إلى الحسنات. <فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ>[10]. والله أعلم بآياته وكتابه.
وبالعكس قد تنقلب الحسنات إلى السيئات وذلك عندما تبعث الحسنات (العجب) التي في نفس صاحبها، أو يقصد بها صاحبها ابتغاء مرضاة الناس (الرياء). فتتحول الحسنة بالعجب والرياء إلى السيئة، كما تتحول السيئة بالاعتراف والاستغفار إلى الحسنة.
إن العبد إذا أتى الله واعياً لعجزه وفقره إلى الله، شاعراً ذله، وصغاراً بين يدي الله، حلّ في المنازل التي تحلّ فيها رحمة الله، وإذا أتى الله بأنانيته وذاته مُعجباً بعمله ونفسه حُجب عن الله فإن منازل الرحمة منازل المخبتين والفقراء إلى الله والواعين لفقرهم وفاقتهم وذلهم وصغارهم بين يدي الله.
وفي الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لكميل، نقرأ هذه الفقرات المربيّة التي تعلمنا كيف نأتي الله:
وقد أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي، معتذراً، نادماً، منكسراً، مستقيلاً، مستغفراً، منيباً، مُقرّاً، مذعناً، معترفاً، لا أجد مفراً مما كان مني، ولا مفزعاً أتوجه إليه في أمري، غير قبولك عذري.
كذلك ينبغي أن يكون قدوم العبد إلى الله: يعرف أن ليس له مفرّ ولا مفزع مما كان منه في الحياة الدنيا من الذنوب والسيئات إلاّ الله، ويشعر بالاضطرار إلى الله في مصائبه العظيمة. والاضطرار إلى الله هو حالة من لا يعرف لنفسه غير الله تعالى ملجأ ومفزعاً .. وهؤلاء هم الذين يستجيب لهم الله في مصائبهم ومحنهم <أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ>[11] رحلة العبد الصالح ذي النون إلى الله:
ومن خلال الصورة التي يرسمها القرآن الكريم لرحلة العبد الصالح ذي النون إلى الله تعالى نتعلم كيف ينبغي أن يكون قدوم العبد إلى الله.
يقول تعالى: <وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ 87 فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ>[12].
لقد غادر ذو النون (ع) قومه (مغاضباً) عليهم لأنهم لم يؤمنوا بالله، وشاقوه، وجادلوه، وأعرضوا عن دعوته، داعياً عليهم بالعذاب من عند الله، <وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً>، وظن أن لن يضيق الله عليه لنفاذ صبره من تحمل مشاكسات قومه وعذابه (فظن أن لن نقدر (نضيق) عليه.
فلما التقمه الحوت نادى في الظلمات (ثلاث ظلمات: بطن الحوت، وظلمات البحر، وظلمة الليل):
لا إله إلاّ أنت سبحانك. إني كنت من الظالمين. فاستجاب له ربه ونجاه من بطن الحوت.
وكانت رحلة العبد الصالح ذي النون إلى الله من بطن الحوت، من خلال كلمات ثلاث يذكرها القرآن، نتعلمها منه (ع) في رحلة العودة إلى الله.
وهذه الكلمات الثلاثة هي:
- لا إله إلاّ أنت.
- سبحانك.
- إني كنت من الظالمين.
الكلمة الأولى: (لا إله إلاّ أنت)
وهذا هو توحيد المفزع والمفر، حيث لا يجد الإنسان في مصائبه مفزعاً ومفراً إلاّ الله، يقول أمير المؤمنين (ع) فيما علّم كميل من الدعاء: (لا أجد مفراً، ولا مفزعاً مما كان مني إلاّ قبولك عذري). وتوحيد المفزع والمفر من شعب التوحيد، شأنه شأن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الخلق، وتوحيد الدين .. كذلك توحيد المفر والمفزع من شعب التوحيد.
وهذا التوحيد هو معنى الاضطرار إلى الله، الذي تشير إليه آية سورة النمل <أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ>[13].
ولكي يحل العبد في المنازل التي تحل فيها رحمة الله، لابد له من أن يحمل معه في هذه الرحلة حالة الاضطرار إلى الله.
الكلمة الثانية: (سبحانك)
وهذه هي الكلمة الثانية، تنزيه الله تعالى عن كل سبب لاعتراض العبد، فهو العادل الرحمن الرحيم الذي لا يمسّ عبده بظلم، ولا يحل لعبد يريد أن يأتي الله ويحلّ في محال رحمته أن يحمل معه حالة الاعتراض على الله، لما أصابه .. وكثير من الناس يحملون في طيات نفوسهم اعتراضاً مكتوماً على الله، أولئك لا يقدرون أن يحلّوا في منازل رحمة الله، بما يختزنون في نفوسهم من الاعتراض المكتوم على قضاء الله وقدره.
والقلوب السليمة الراضية بقضاء الله وقدره، المؤمنة بأن ما يصيب الإنسان من سوء في هذه الدنيا أو في الآخرة فهو بما كسبت يداه .. تلك القلوب هي التي تحلّ في منازل رحمة الله، وتصيب منها. <وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ>[14].
وما لم يسلم القلب من عقدة الاعتراض على الله لا يحل في محال رحمة الله.
وهذا هو معنى (سبحانك) في رحلة ذي النون (ع) إلى الله.
الكلمة الثالثة: (إني كنت من الظالمين)
وهذه هي كلمة الاعتراف. لم يجادل ذو النون (ع)، ولم يكابر، ولم يبرّر بين يدي الله غضبه على قومه، ودعائه عليهم، وحاشاه عن ذلك، وإنما اعترف لله سبحانه وتعالى، بما كان منه، مما كان ينبغي إلاّ يرتكبه من التعجل في الدعاء على قومه .. وسلام الله على يونس بن متى ذي النون، لقد عصمه من الزلل والخطأ، ولكن ارتكب في التعجل على قومه بالدعاء عليهم، ما كان ينبغي لمثله أن لا يتعجل به.
وهذا الاعتراف هو خير ما يأخذه العبد معه إلى الله. وهو خير ما ينزل به العبد في منازل رحمة الله، ولو كان العبد يكابر ويجادل. <وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً>[15].
ويبرر لنفسه الخطأ .. فإن هذه المكابرة والمجادلة والتبرير تبعده عن منازل الرحمة، لأن المكابرة والمجادلة والتبرير بين يدي الله تحمل معنى الاستكبار والأنا والأنانية، ولا شيء يحجب الإنسان عن الله مثل الاستكبار، والأنا والأنانية.
وهذا الاعتراف يتضمن معنى الاستكبار والاعتذار .. ولا نجد في آية ذي النون استغفاراً، ولكننا نجد فيها ذل اعتراف العبد الصالح بين يدي الله.
وسرعان ما حلّ ذو النون (ع) بهذه الكلمات في منزل الرحمة والاستجابة والنجاة <فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ>[16].
ولا يختص هذا القانون بالعبد الصالح ذي النون، وإنما يعم كل من يستجير بالله، ويلوذ بالله ببضاعة الاعتراف والذل والفقر بين يدي الله <وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ>.
أحاديث في الاعتراف بالذنوب
في أصول الكافي عن علي الأحمس، عن أبي جعفر (ع)، قال: والله ما ينجو من الذنب إلاّ من أقرّ به[17].
وعن ابن فضال عمّن ذكره، عن أبي جعفر (ع)، قال: لا والله ما أراد تعالى من الناس إلاّ خصلتين: أن يقروا له بالنعم فيزيدهم، وبالذنوب فيغفرها لهم[18].
وعن علي بن إبراهيم بسنده عن أبي عبد الله (ع)، قال سمعته يقول: إن الرجل ليذنب، فيدخله الله الجنة. قلت: يدخله الله بالذنب الجنة؟ قال: إنه ليذنب، فلا يزال منه خائفاً، ماقتاً لنفسه، فيرحمه الله فيدخله الجنة[19].
وعن أبي عبد الله (ع)، قال: إنه والله ما خرج عبد من ذنب بإصرار، وما خرج عبد من ذنب إلاّ بإقرار[20].
التعجيل في الاعتراف بالذنوب
وعلى العبد أن يتعجل في الاعتراف بالذنوب، فإن الاعتراف النافع هو الاعتراف في الدنيا. أما في الآخرة، فلا ينفعه، ولا يجديه الاعتراف، حيث تشهد عليه يداه وقدماه ولسانه وسمعه وبصره. <يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ>[21].
عندئذٍ لا ينفعه الاعتراف. <فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ>[22].
<فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ>[23].
وعلى العبد أن يتعجل في الاعتراف ما دام الاعتراف ينفعه، فإن الاعتراف بعد الموت يؤخذ منه قهراً، ولا ينفعه الإنكار والمكابرة، كما مرّ، ولا ينفعه الاعتراف يومئذٍ.
اِلهي اِنْ عَفَوْتَ فَمَنْ اَوْلى مِنْكَ بِالْعَفْوِ، وَاِنْ عَذَّبْتَ فَمَنْ اَعْدَلُ مِنْكَ فِي الْحُكْمِ
إن الله تعالى عادل، لا أعدل منه، ورحيم لا أرحم منه، حكيم يضع كُلا في موضعه، العدل في موضع العدل، والرحمة في موضع الرحمة. ولكن رحمته تغلب عدله. ونحن نعوذ برحمته من عدله، ونسأله أن يعاملنا برحمته ولا يعاملنا بعدله.
فإذا عفى الله تعالى عن ذنوب عباده فهو من رحمته بعباده، وإن عذب الله عباده فهو من عدله والحمد لله الذي لا يخشى الناس إلاّ عدله.
والإمام (ع) يخاطب الله تعالى بهذا الخطاب الرقيق بين العدل والرحمة .. ويقول بأنك إذا عاقبت عبدك فليس لأحد أن يعترض عليك، لأنك لا تعدو العدل في عذابك وعقابك ولا أعدل منك، وإن عفوت عنه فبرحمتك وفضلك.
ونحن عبيدك نطلب منك أن تعاملنا برحمتك دون عدلك، لأنك تأمر عبادك بالعفو والفضل والرحمة، وتحب العفو والفضل والرحمة.
وقد قلت: <وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ>[24].
فمن يكون أولى منك بالفضل والعفو والرحمة (إلهي إن عفوت فمن أولى منك بالعفو). يقول تعالى: <وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ>[25].
هؤلاء يجعل الله لهم على نفسه أجراً <فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ>، وقد جاء في الرواية: إذا جاء يوم القيامة نادى منادٍ: من كان له على الله أجر فليقم، فيقوم جمع فتسألهم الملائكة: وما هو أجركم على الله؟ فيقولون: نحن قوم كنا نعفو عمّن ظلمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة بغير حساب .
ارْحَمْ في هذِهِ الدُّنْيا غُرْبَتي، وَعِنْدَ الْمَوْتِ كُرْبَتي، وَفِي الْقَبْرِ وَحْدَتي، وَفِي اللَّحْدِ وَحْشَتي، وَاِذا نُشِرْتُ لِلْحِسابِ بَيْنَ يَدَيْكَ ذُلَّ مَوْقِفي، وَاغْفِرْ لي ما خَفِيَ عَلَى الاْدَمِيّينَ مِنْ عَمَلي، وَاَدِمْ لي ما بِهِ سَتَرْتَني، وَارْحَمْني صَريعاً عَلَى الْفِراشِ تُقَلِّبُني اَيْدي اَحِبَّتي، وَتَفَضَّلْ عَلَيَّ مَمْدُوداً عَلَى الْمُغْتَسَلِ يُقَلِّبُني صالِحُ جيرَتي، وَتَحَنَّنْ عَلَيَّ مَحْموُلاً قَدْ تَناوَلَ الْاَقْرِباءُ اَطْرافَ جَنِازَتي، وَجُدْ عَلَيَّ مَنْقُولاً قَدْ نَزَلْتُ بِكَ وَحيداً في حُفْرَتي، وَارْحَمْ في ذلِكَ الْبَيْتِ الْجَديدِ غُرْبَتي، حَتّى لا اَسْتَاْنِسَ بِغَيْرِكَ
هذه مواضع ضعف الإنسان وكربته من الدنيا إلى الآخرة .. وفي هذه المواضع يحسّ الإنسان بفقره وفاقته الشديدة إلى الله، ويسترحم الله .. يستعرضها الإمام علي بن الحسين (ع) موضعاً بعد موضع ليذكّرنا بمواقع الضعف والعجز والكرب في حياتنا، ويوجهنا فيها إلى الله.
ولكي يتوجّه الإنسان إلى الله، ويطلب الرحمة، بكل جهده النفسي من عند الله، لابد له أن يتذكر محطات الضعف والعجز والفاقة والكرب في دنياه وآخرته.
ولا تبتدئ مواقع الضعف والعجز في حياة الإنسان عند الموت، وإنما يواجهها الإنسان منذ حياته في الدنيا، عندما تشتد به الأزمات، فيتخلى عنه أقرب الناس إليه، ويملّونه، فيشعر عندئذٍ بالغربة، وهو وسط أهله وأصدقائه وأقربائه، فيلجأ العبد فيها إلى الله (ارحم في هذه الدنيا غربتي)، ثم كربته الكبيرة عند الموت، عند مفارقة الدنيا، وهي أصعب ساعات الإنسان في حياته يشهد احتضار نفسه، وخروجه من الدنيا، وينتزعه الموت في لحظة واحدة عن كل تعلقاته، من أزواج، وبنين، وأموال، وعلاقات.
وساعة رهيبة الساعة التي يختم بها الإنسان حياته. وأن الإنسان يقرأ آيات سورة القيامة عن اللحظة التي يفارق فيها الإنسان هذه الدنيا فيمتلأ قلبه رُعباً وهولاً:
<كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ 26 وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ 27 وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ 28 وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ 29 إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ>[26].
ثم وحشة القبر واللحد، عندما ينصرف عنه مشيعوه، ويتركوه لوحده في حفرة القبر.
ثم ذل موقفه في الحساب عندما يعرض على الله تعالى بسيئاته وآثامه، فلا يعلم ماذا يصنع الله به، يعاقبه ويعذبه وهو العدل الحكيم شديد العذاب، أم يعفو عنه وهو أرحم الراحمين.
يوم يتساقط عن الإنسان ما ستره الله تعالى به في الدنيا، ويبرز الإنسان أمام الأنبياء والأولياء، وعباد الله الصالحين (عليهم السلام) عارياً مكشوفاً بكل عوراته وسوءاته، <يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ>[27].
ويا فضيحة الإنسان إذا برز عارياً بكل سوءات أعماله وعوراته التي كانت خافية على المؤمنين من قبل، فيشهدونه بأقبح صورة وينفرون منه، ويطردونه من حلقاتهم وأوساطهم. فيسأل الله تعالى – لهذه الحالة – أن يرحمه، ويغفر له سيئات عمله، ويحاسبه حساباً يسيراً، ويتجاوز عنه بكرمه، ويسدل عليه ما كان يستر به قبائح أعماله في الدنيا، فإن الستّار في الدنيا ستار في الآخرة ..
عن الإمام زين العابدين (ع):
أشد ساعات ابن آدم ثلاث ساعات: الساعة التي يعاين فيها ملك الموت، والساعة التي يقوم فيها من قبره، والساعة التي يقف فيها بين يدي الله تبارك وتعالى، فأما إلى الجنة وإما إلى النار[28].
وعن الإمام الرضا (ع):
إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد من بطن أمه فيرى الدنيا، ويوم يموت، فيعاين الآخرة، ويوم يبعث فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا[29].
ثم يعود الإمام (ع) ليستعرض أمامنا مشاهد أخرى من كربة الإنسان وعجزه وضعفه: (وارحمني صريعاً تقلبني أيدي أحبتي)، حين يشتد به العجز والضعف، فلا يستطيع أن يتقلب على فراشه إلاّ أن يقلبه أهله وأحبته، وحين يقلّبه أصدقاؤه وصالح جيرته على المغتسل: (وتفضّل عليّ ممدوداً على المغتسل تقلّبني أيدي أحبتي .. الخ).
تذكر لحظات الضعف:
هذه ساعات عجز الإنسان وكربته من الدنيا إلى الآخرة.
وهذه الساعات قائمة في حياة كل إنسان، تذكّرها أم لم يتذكرها، ولا تنتفي هذه الساعات إذا تناساها الإنسان وتغافل عنها .. إلاّ أنه إذا تناساها وتغافل عنها .. تفاجئه بغتة من غير استعداد لها.
وما أكثر ما تستغرق الإنسان ساعات الغفلة والنشوة والغرور والشهوة. وهذه الساعات تحجب العبد عن الله، وتعيق حركته إليه، بخلاف ما لو تذكّر ساعات ضعفه وعجزه وكربته فإنها تقرّبه إلى الله، وتعدّل سلوكه.
الساعات الضارة والنافعة في حياة الإنسان:
حياة الإنسان في الدنيا ساعتان: ساعة ضارة، وساعة مفيدة. أما الساعة الضارة فهي ساعات الغفلة والنشوة والغرور والشهوة في الدنيا .. وأما الساعات النافعة فهي الساعات التي يتذكّر فيها ضعفه وعجزه وكربته في الدنيا. والساعة الأولى تحجب الإنسان عن الله، وتغيّب عنه الوعي والمعرفة، وتغيّب عنه نفسه.
والساعة الثانية تعيده إلى الله، وتعيد إليه الوعي، وتعيد إليه نفسه.
وقد تكون الساعات الضارة في حياة الإنسان متخالفة، ولكنها على كل حال ساعات ضارة، كالغرور واليأس، فإنهما حالتان متعاكستان وكذلك (الغضب) و(الاسترخاء) فإنهما ساعتان مختلفتان متعاكستان ولكنهما على كل حال ساعتان ضارتان.
وفي مقابل الغرور: الإحساس بالفاقة إلى الله في كل شيء، وفي مقابل اليأس: التوكل على الله، والثقة بحول الله تعالى وقوته حالة نافعة للإنسان وساعة نافعة.
والعلامة الفارقة بين الساعات الضارة والنافعة أن الساعة الأولى تنسي الإنسان ذكر الله وتحجبه عن الله، والساعة الثانية تذكر الإنسان بالله.
ولكي يكون الإنسان على ذكر الله دائماً، ولا يغيب عن ذكر الله، فعليه أن يذكر ساعات عجزه وضعفه وكربته دائماً، ويذكر الموت وأهوال الآخرة ما بعد الموت، فإن التذكير يذكّر الإنسان بالله، ويعيده إلى الله.
ومن عجب أن تذكّر ساعات عجز الإنسان وكربته ومحنته في الدنيا والآخرة تعيد إلى قلبه وعقله ذكر الله، فتكون مصدر قوة في نفسه، لأن ساعة ذكر الله ساعة قوة ووعي وذكر، والاستغراق في نشوات الغرور والأنانية تحجبه عن الله، وإذا حجب الإنسان عن الله، نفد صبره وحوله وأصابه اليأس في مواجهة ابتلاءات الحياة الدنيا، وهو ساعة ضعف في حياة الإنسان.
إذن في حياة الإنسان ساعات ضارة وساعات نافعة، وفي حياة الإنسان ساعات قوة وساعات ضعف، وبين هذه الساعات تداخلات، وما يهمنا هنا في شرح هذه الفقرة من كلام الإمام (ع): إن على الإنسان أن يتذكّر دائماً ساعات ضعفه وعجزه وكربته في الدنيا والآخرة .. فإن هذا التذكر يذكّره بالله، وذكر الله تعالى في حياة الإنسان نور وقوة.
وهاتان معادلتان تنفع الإنسان معرفتهما.
المعادلة الأولى: إن ذكر الموت ومفارقة الدنيا، وأهوال ما بعد الموت، والقبر، والبرزخ، والحشر، والحساب، والصراط، والنار، والميزان، وعذاب القبر، وعذاب النار، وسائر أهوال القيامة يذكر الإنسان بالله تعالى لا محالة، ويلجأ الإنسان فيها إلى الله، ويستغيث بالله، ويستعين بالله، ويستغفر الله.
والمعادلة الثانية أن ذكر الله نور وقوة وطمأنينة في حياة الناس <أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ>[30] وعلى العكس التربية المادية الغربية التي تنصح الناس بالابتعاد عن ذكر الموت ومصائب الدنيا وكربات الآخرة، وساعات العجز والضعف والابتلاء، لأنها تورث الكآبة والحزن للإنسان .. على عكس هذه التربية تنصح التربية الإسلامية الناس ان لا يفارقوا ذكر الموت وكرباته ولحظات عجزهم ومحنتهم. عن رسول الله (ص): أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت، وأفضل العبادة التفكر[31].
وعن رسول الله (ص) أيضاً: أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت، وأفضل العبادة ذكر الموت، فمن أثقله ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة[32].
عن رسول الله (ص): أكثروا من ذكر هادم اللذات. فقيل: يا رسول الله (ص)، فما هادم اللذات؟ قال: الموت، فإن أكيس المؤمنين أكثرهم ذكراً للموت، وأشدهم له استعداداً[33].
وعن رسول الله (ص): أكثروا ذكر الموت، فإنه يمحص الذنوب، ويُزهّد في الدنيا، فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه، وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم[34].
وعنه (ص): أكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكر الموت إلاّ أحيى الله قلبه وهوّن عليه الموت[35].
وعن علي (ع): اذكروا هادم اللذات، ومنغص الشهوات، وداعي الشتات. اذكروا مفرّق الجماعات، ومباعد الامنيات، ومُدني المنيّات، والمؤذن بالبين والشتات[36].
إن التربية الغربية لا تمنح الناس السعادة النفسية – كما يتصور بعض الناس – وإنما هي الهروب عن النفس ومصيرها وعاقبتها، ولا ينفع الإنسان هذا الهروب، فإن مثل هذا الهروب مثل ما يفعله طير (الغبج) عندما يلاحقه الصياد، فيدفن رأسه في الثلج لئلا يشهد الصياد، وهو يحسب أنه إذا غاب هو عن الصياد، فإن الصياد يغيب عنه أيضاً.
هذا هو خطأ الحضارة الغربية والتربية المادية في الغرب القائمة على أساس الهروب من الواقع.
يا سَيِّدي اِنْ وَكَلْتَني اِلى نَفْسي هَلَكْتُ
منازل الآخرة رهيبة وصعبة، إذا أوكل الله تعالى عبداً إلى نفسه وعمله هلك.
وثقة العبد في المنازل الرهيبة التي تستقبله من حين الموت برحمته وفضله، وليس بعمله وجهده.
وقد ورد في نصوص أدعية أهل البيت (ع) كثيراً هذا المضمون (اللهم لا تكلني إلى نفسي، فإنك إن وكلتني إلى نفسي هلكت).
وهذه النقطة بالذات هي النقطة الفارقة بين التربية المادية للحضارة الجاهلية في الغرب ومنهج التربية الإسلامية .. فإن قيمة الإنسان في التربية المادية في الغرب هو الاعتماد على النفس، والثقة بالنفس، وقيمة الإنسان في منهج التربية الإسلامية هو الاعتماد على الله تعالى والثقة به.
والمنهجان يقعان في خطّين متقابلين متعاكسين. وليس معنى الاعتماد على الله والثقة بتسديده وتأييده، سوء الاعتماد على النفس وكفاءاتها وقدراتها،
بل معنى ذلك أن الإنسان يستمد الكفاءة والتأييد والتسديد والقوة لنفسه من عند الله، ويشعر بأن ما عنده من كفاءة وسداد وقوة فهو من عند الله.
سَيِّدي فَبِمَنْ اَسْتَغيثُ اِنْ لَمْ تُقِلْني عَثَرْتي؟ فَإلى مَنْ اَفْزَعُ اِنْ فَقَدْتُ عِنايَتَكَ في ضَجْعَتي؟ وَاِلى مَنْ اَلْتَجِئُ اِنْ لَمْ تُنَفِّسْ كُرْبَتي؟
سَيِّدي، مَنْ لي؟ وَمَنْ يَرْحَمُني اِنْ لَمْ تَرْحَمْني؟ وَفَضْلَ مَنْ اُؤَمِّلُ اِنْ عَدِمْتُ فَضْلَكَ يَوْمَ فاقَتي؟ وَاِلى مَنِ الْفِرارُ مِنَ الذُّنُوبِ اِذَا انْقَضى اَجَلي؟
- [1] النحل: 75
- [2] فاطر: 15
- [3] النحل: 75
- [4] العلق: 6-7
- [5] العلق: 7
- [6] الفتوحات المكية، ج3، ص196
- [7] القارعة: 8-9
- [8] الفرقان: 70
- [9] غافر: 60
- [10] الفرقان: 70
- [11] النمل: 62
- [12] الأنبياء: 87-88
- [13] النمل: 62
- [14] الشورى: 30
- [15] الكهف: 54
- [16] الأنبياء: 88
- [17] أصول الكافي: ج 2، ص 426 كتاب الإيمان والكفر/ باب الاعتراف بالذنوب
- [18] أصول الكافي: ج 2، ص 426، كتاب الإيمان والكفر/ باب الاعتراف بالذنوب
- [19] أصول الكافي ج 2، ص 427، كتاب الإيمان والكفر/ باب الاعتراف بالذنوب والندم عليها
- [20] أصول الكافي، ج2، ص427، كتاب الإيمان والكفر/ باب الاعتراف بالذنوب والندم عليها
- [21] النور: 24
- [22] الملك: 11
- [23] غافر: 11
- [24] البقرة: 237
- [25] الشورى: 40
- [26] القيامة: 26-30
- [27] الطارق: 9
- [28] الخصال: 108-119
- [29] عيون أخبار الرضا، ج 1، 257
- [30] الرعد: 28
- [31] كنز العمال: ح 42104
- [32] جامع الأخبار: 473 – 1334
- [33] بحار الأنوار: ج 82 ص167
- [34] كنز العمال: ح 42098
- [35] كنز العمال: ح 42105
- [36] غرر الحكم للآمدي: 2575 – 2576