الخط النازل والصاعد في العلاقة المتبادلة بين الله وعباده

جدول المحتويات
في هذه الكلمات سياقات ثلاثة في علاقة الله بعبده، وعلاقة العبد بالله.
وهذه السياقات الثلاثة ترسم العلاقة المتبادلة بين الله وعباده في ثلاثة خطوط: الخط النازل في علاقة الله بعباده، والخط الصاعد في علاقة العباد بربهم، والخط الثالث في العلاقة المزدوجة بين الله وعبده.
ففي الخط النازل وهو في رحمة الله بعبده ورعايته له وإحسانه إليه ومغفرته ورزقه وهدايته وتعليمه له، نقرأ:
سَيدي أنا الصّغير الذي رَبّيته، وَأنا الجّاهل الّذي عَلّمته، وأنا الضّال الّذي هَديته، وَأنا الوَضيعُ الّذي رَفَعته، وَأنا الخائفُ الّذي آمنته، والجّائعُ الّذي أشبعته، وَالعَطشانِ الّذي أرْوَيتَه، وَالعاري الّذي كَسَوته، وَالفقير الّذي أغْنيتهُ، وَالضّعيفُ الّذي قُوّيته، وَالذّليل الّذي أعززته، وَالسّقيم الّذي شَفيته، وَالسّائل الّذي أعْطَيته، وَالمذنبُ الّذي سَترته، وَالخاطئُ الّذي أقَلتهُ، وَأنا القَليل الّذي كثّرته، وَالمُستضعفُ الّذي نَصرته، وَأنا الطّريد الّذي آويته. هذا في الخط النازل.
ونقرأ في الخط الصاعد من هذه العلاقة، في علاقة العبد بربه:
(أنا يَا رَبّ الّذي لمَ أستحيك في الخَلاء، وَلمَ أُراقبكَ في الملاء. أنا صَاحب الدّواهي العُظمى، أنَا الّذي عَلى سَيدهِ اجْتَرأ، أنا الّذي عَصَيتُ جبّار السّماء، أنا الّذي أعطيتُ عَلى مَعاصي الجّليل الرُشى، أنَا الّذي حينَ بُشّرت بِها خَرجْتُ إليها أسعى).
ونقرأ في الخط الثالث في العلاقة المزدوجة بين الله وعبده في خط صاعد نازل في جملة واحدة:
(أنَا الّذي أمهلتني فَما ارعَويتُ، وَسترتَ عَليّ فَما اسْتحييتُ).
هذه ثلاثة خطوط في العلاقة المتبادلة بين الله تعالى وعباده.
ورحم الله العارف الذي كان يقول:
(إلهي، الحمد لله لكل ما ينزل إلينا من عندك ونستغفر الله لما يصعد إليك منا).
وهذه الكلمة توجز العلاقة المتبادلة بين الله وعباده. إن الذي ينزل إلينا من جانب الله رحمة، وفضل، وإحسان، وعفو، ومغفرة، وتوفيق، وتأييد، ورزق، وجميل من أياديه .. وما لا أطيق إحصاءه من أنحاء فضله ورحمته بعباده.
وما يصعد من عباده إليه ذنوب، ومعاصي، وآثام، وموبقات يرتكبها العبد.
فهما سنخان مختلفان متعاكسان من العلاقة، وأقل ما يقال في هذه العلاقة المتخالفة عدم الوفاء لله تعالى في أياديه الجميلة بعبده.
وأعظم ما يقال فيه جرأة العبد على مولاه ومخالفته وعصيانه له.
ولا يزال الله تعالى يواصل على عبده الرحمة، والفضل، والنور، والهداية، ولا يزال العبد يرفع إلى الله السيئات، والمعاصي، والذنوب.
فما أجمل إحسانه إلينا!
وما أقبح سيئاتنا إليه!
وإنه لمن المفيد للإنسان أن يجعل أمامه هذه اللوحة في العلاقة المتبادلة بينه وبين ربه ليستحيي من ربه، ويحاول أن يعدّل سلوكه بما يناسب رحمة الله تعالى وفضله إليه، ولئلاّ يدخله العجب إذا قام بين يدي الله بركعتين أو أنفق من ماله بدرهمين لله.
مقام الاعتراف
الخط الصاعد في علاقة العبد بالله، هو مقام الاعتراف بين يدي الله.
واستمع إلى جمل الاعتراف بين يدي الله تعالى من الإمام زين العابدين (ع): (أنا يَا رَبّ الّذي لمَ أستحيك في الخَلاء، وَلمَ أُراقبكَ في الملاء. أنا صَاحب الدّواهي العُظمى، أنَا الّذي عَلى سَيدهِ اجْتَرأ، أنا الّذي عَصَيتُ جبّار السّماء).
هذه جمل من الاعتراف بين يدي الله، يعلمنا الإمام علي بن الحسين (ع) في هذا الدعاء الجليل.
ويتساءل البعض: ما جدوى الاعتراف بين يدي الله؟ فإن الله تعالى عالم بما جنى العبد على نفسه، قبل هذا الاعتراف، ويذكر ما ينساه العبد من جنايته.
والجواب: أن الاعتراف بين يدي الله ينفع العبد المعترف نفسه بين يدي الله.
يُذكّره بذنوبه وسيئاته وجرأته على مولاه، ويُحسّسه بصغاره وذلّ موقفه بين يدي الله، ويُشعره بالاستحياء من الله.
إن العبد يعصي الله تعالى بحضوره، والله تعالى لا يغيب عن شيء من سيئاتنا وآثامنا، وهو حاضر في الكون كله، فإذا أدرك العبد هذه الحقيقة واستذكر ذنوبه وسيئاته بحضور الله استحيى من عند الله، وندم على ما صدر منه من السيئات، وعزم على الكف منها فيما يستقبل من حياته .. وهذه المقامات جميعاً (الحياء، الندم، التوبة، والعزم على الكفّ عن الذنب) منازل الرحمة الإلهية في حياة الإنسان.
بين مقامات العبودية ومنازل الرحمة
إن في حياة الإنسان مقامات للعبودية وهذه المقامات هي منازل رحمة الله، تحل فيها الرحمة الإلهية.
ومن هذا القبيل مقام الاعتراف، ومقام الندم، ومقام الاستحياء من الله، ومقام التوبة، ومقام الخوف والرهبة من عند الله ..
هذه المقامات هي مقامات العبودية .. وكل مقام من هذه المقامات مطابق منزلاً من منازل رحمة الله. وبين مقامات العبودية ومنازل الرحمة والقرب إلى الله تناسباً طردياً، فكلّما يكون مقام العبد أكثر تمثيلاً لذلّ العبودية وصغارها بين يدي الله يكون أقرب إلى الله وإلى منازل رحمة الله.
نقرأ في دعاء الأسحار في شهر رمضان، برواية الشيخ الطوسي ; هذه اللوحة الرائعة لمقامات العبودية:
(يا رب هذا مقام العائذ بك من النار.
هذا مقام المستجير بك من النار.
هذا مقام المستغيث بك من النار.
هذا مقام الهارب إليك من النار.
هذا مقام من يبوء لك بخطيئته، ويعترف بذنبه، ويتوب إلى ربه.
هذا مقام البائس الفقير.
هذا مقام الخائف المستجير.
هذا مقام المحزون المكروب.
هذا مقام الغريب الغريق.
هذا مقام المستوحش الفرق.
هذا مقام من لا يجد لذنبه غافراً غيرك).
وهذه المقامات كلها من مقامات العبودية بين يدي الله:
مقام اللجوء إلى الله، والاستجارة به.
مقام الاستغاثة والهروب إلى الله.
مقام الاعتراف والتوبة.
مقام البؤس والفقر بين يدي الله.
مقام الخائف من الله المستجير بالله.
مقام الغريب الغريق .. الخ.
وهذه المقامات جميعاً تجعل الإنسان في منازل رحمة الله. منازل الرحمة:
إن رحمة الله تعالى في إفاضة ونزول مستمر ودائم من خزائن رحمته، والدعاء والاستغفار والصلاة لا تثير رحمة الله تعالى.
فهي في إفاضة دائمة ومتصلة ومستمرة لا تنقطع ولا تتوقف، ولا تحتاج إلى عامل للإثارة والإفاضة.
ونحن لا نستثير رحمة الله بدعائنا، ولا نرققه علينا ونستعطفه بضعفنا وانكسارنا، وسبحانه وتعالى أجل من أن نرققه ونسثيره نحن بدعائنا وضعفنا واستكانتنا بين يديه.
ولكننا بالدعاء والانكسار والتذلل بين يديه، نضع أنفسنا في منازل هبوط رحمته ومغفرته ورزقه وكرمه.
ولنضرب لذلك مثلاً: فقد يستخرج أحد الماء من الأرض، فيحفر الأرض، ويصل إلى المياه الجوفية داخل الأرض، فيرتوي من الماء ويسقي زرعه وأنعامه منه. وقد لا يكون الأمر كذلك، وإنما يجري الماء على الأرض على مسافة، فيسعى طالب الماء إلى مشرعة الماء ليرتوي منه، ويأخذ معه أنعامه إلى الماء ليسقيها الماء، ويزرع الأرض على شواطئ الماء ليسقيها.
وبين الأمرين فرق .. في الحالة الأولى هو يستخرج الماء من الأرض حيث هو وزرعه وأنعامه، وفي الحالة الثانية يسعى هو إلى الماء حيث مشرعة الماء، ويأخذ معه أنعامه وزراعته.
ومثلنا في ابتغاء رضوان الله ورحمته هو الثاني، وليس الأول، وأنّ الدعاء والصلاة، والتذلل، والانكسار بين يدي الله، والخضوع، والإخبات، والتوبة، والإنابة، إنما هي حركة في داخل النفس إلى منازل رحمة الله، حيث تهبط رحمة الله على عباده. وليس على عباد الله إلاّ أن يعرفوا منازل رحمة الله فيقصدونها.
ومنازل رحمة الله تختلف من منزل إلى منزل، فهناك منازل تهطل فيها الرحمة، كالشلاّل الهادر، أو ما هو أعظم من ذلك، وهناك منازل للرحمة تنزل فيها الرحمة كما ينزل المطر الغزير، كأفواه القرب، وهناك منازل للرحمة دون ذلك.
وهناك منازل بعيدة عن رحمة الله، ولا نقصد بها المنازل الزمانية والمكانية، وإنما نقصد بها المنازل النفسية، وسوف يأتي توضيح ذلك إن شاء الله.
ولنضرب على ذلك مثلا للتوضيح، عاجلاً قبل ان ندخل تفاصيل الموضوع.
إن الرحمة تنزل على المواضع النفسية الهابطة والواطئة، ولا تنزل على المواطن النفسية المستعلية والناتئة، كما يجري الماء على المواضع الواطئة من الأرض، ولا يصعد إلى النقاط المرتفعة والناتئة.
فتنزل الرحمة على مواطن الفقر إلى الله، ووعی الفاقة إلى الله، ومواطن الذلّ، والانكسار، والإخبات، والندم، والاستغفار، والحياء من عند الله، وهي جميعاً تمثّل المواضع الواطئة والهابطة من النفس.
ولا تنزل الرحمة الإلهية على مواطن الاستكبار، والاستعلاء، والطغيان، والأنانية في نفس الإنسان.
فإذا أقبل الإنسان على الله تعالى مستكيناً، مستغفراً، منيباً، مقراً، مذعناً حلّ في منازل رحمة الله، وإذا أقبل الإنسان على الله تعالى مستكبراً، معتدّاً بنفسه، يتخيّل الاستغناء عن الله <أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ>[1]، ويحمل معه (الأنا) و(الأنانية)، ويداخله العجب والغرور، فلا يبلغ منازل رحمة الله.
مثل آخر:
إن المطر ينزل من السماء فينزل على الصخور الصلبة، وسرعان ما ينحسر عنها، وتعود الصخور إلى الجفاف والنضوب، وينزل المطر على التربة الهشة فينفذ فيها المطر، ويمتص المطر، وسرعان ما تتفجّر عليها العيون، وتجري عليها، وتخضرّ الأرض، وتنبت عليها الأشجار المثمرة والأزهار، والرياحين .. وليس في نزول المطر شُحّ، وإنما البأس كل البأس في منازل نزول المطر.
وكذلك الأمر في رحمة الله، إن الرحمة تنزل على الناس جميعاً، فتستقبلها النفوس المؤمنة والقلوب الرقيقة، وترفضها النفوس الملحدة والمشركة، والمنافقة، والقلوب القاسية الغليظة.
إننا إذا استغفرنا الله تعالى، ودعونا الله، لا نقصد بذلك أن نرقق الله تعالى ونسترحمه لحوائجنا، فهو سبحانه: رحمان، رحيم، رؤوف، شفيق على عباده، ولكننا نبتغي من ذلك أن نسترق(من الاسترقاق بمعنى طلب ترقيق النفس.)نفوسنا، ونشعرها بالحياء من عند الله والانكسار، والتضرع، والإنابة، والندم، لتحل فيها رحمة الله، (فإنّ الله في القلوب المنكسرة)
ونقصد بذلك أن نضع أنفسنا في مواطن الضعف والعجز والفقر والإخبات إلى الله، وهي المواطن النفسية الواطئة لتنزل عليها رحمة الله، ونبعّدها من مواطن الاستعلاء، والاستكبار، والعجب، والغرور، البعيدة عن مواطن رحمة الله.
إن رحمة الله هابطة، باستمرار واتصال، ولكنها تتجه إلى مواطن العجز، والفقر، والرقة، والفاقة، والانكسار، والندم، والحياء من عند الله في نفس الإنسان، ولا تنزل على مواطن الغرور، والاستكبار، والعجب، والقسوة، والأنانية في نفس الإنسان. وعلى الإنسان أن يسعى لتحقيق هذه المنازل داخل نفسه.
النقاط الثلاثة في منازل الرحمة
ولابد لهذا الإيجاز من شرح، وسوف نشرح إن شاء الله منازل الرحمة ضمن ثلاث نقاط:
- نزول الرحمة.
- منازل الرحمة.
- ابتغاء الرحمة.
أولاً: نزول الرحمة
لم نستحدث نحن كلمة نزول الرحمة، وإنما اقتبسناها من القرآن الكريم.
فقد استخدم القرآن هذه الكلمة في مواضع متعددة وفي موارد عديدة من أبواب رحمة الله.
ولم تختص كلمة النزول في القرآن بموارد الرحمة المادية المحسوسة، كالماء، والمطر، والحديد، والأنعام.
وإنما تشمل الموارد المادية للرحمة والموارد غير المادية وغير المحسوسة من الرحمة. وسوف نورد نماذج من تلك وهذه يقول تعالى:
<وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ>[2].
<هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقاً>[3].
<وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ>[4].
<أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا>[5].
<وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ>[6].
<يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا>[7].
<وَأَنـزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ>[8].
<وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً>[9].
كما يستعمل القرآن النزول في موارد الرحمة غير المادية، يقول تعالى:
<هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ>[10].
<فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ>[11].
<قَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْـزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ>[12].
<وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا>[13].
<وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ>[14].
<وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ>[15].
<وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ>[16].
<إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا>[17].
والآية التي هي كالقانون لكل نزول للرحمة هي آية الحجر:
<وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ>[18].
هذه الرحمة الإلهية النازلة، تنزل على الجميع من غير انقطاع، تنزل على المؤمن، والكافر، والمشرك، والجاحد، والإنسان، والحيوان، والنبات، وعلى الكون كله.
وهذه هي الرحمة الرحمانية التي تعم الجميع، المؤمن، والمشرك، والجاحد، والكافر، والصالح، والفاسق، والإنسان، والحيوان، والنبات .. كالماء والمطر، والحديد، والأنعام، والصحة، والسلامة، والرزق، والعلم، (والهداية العامة).
وهناك الرحمة الرحيمية التي تخص المؤمنين، كالمعرفة، والإخلاص، والتقوى، والمغفرة، والقرب، و(الهداية الخاصة)، والنور، واليقين ..
ولسنا نتحدث عن الرحمة الرحمانية فإنها رحمة عامة تعم الجميع المؤمن والكافر، والمشرك، والفاسق، والإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد .. وهي ايضا متصلة ولها منازل ومداخل.
ولقد نقرأ في الدعاء الذي يألفه المؤمنون في شهر رجب بعد صلوات الفريضة.
يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله، ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة .. أقول: لا نتحدث عن الرحمة الرحمانية، وإنما نتحدث عن الرحمة الثانية: مثل العفو، والمغفرة، والتوبة، والهداية، والنور، والبصائر، والمعرفة، واليقين، والتوفيق، والتسديد، والإيمان، والإخلاص، والخلوص، والرضا <رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ>[19]، والحب <قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ>[20]، والذكر <فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ>[21] إلى سائر أبواب الرحمة، وهي كثيرة.
هذه الأبواب من الرحمة مفتوحة على أهلها جميعاً .. إلاّ أن لها منازل في حياة الناس. فمتى طلبها الإنسان من منازلها، وجعل نفسه عند منازلها نال من رحمة الله تعالى، بمقدار ما يقرب من منازلها ويحل فيها.
ثانياً: منازل الرحمة
ونقصد بمنازل الرحمة المواضع التي تهبط فيها الرحمة .. وأعظم هذه المنازل أربعة:
- المنازل الزمانية، مثل يوم عرفة، ليلة الجمعة، ليلة النصف من شعبان، شهر رمضان، ليلة القدر، ليلة الرغائب .. وما يشبه ذلك .. ولا شك إن رحمة الله تعالى هابطة على عباده في كل زمان.
ولكن لهذه الليالي والأيام خصوصية وامتياز في نزول رحمة الله .. وقد ورد في فضل شهر رجب: سمی شهر رجب شهر الله الأصب لأن الرحمة علی أمتي تصب صباً فیه.
والعارفون بمنازل رحمة الله، يعرفون هذه المنازل، ويطلبون رحمة الله فيها.
- المنازل المكانية، لا يخلو مكان من رحمة الله، ولكن لطائفة من الاماكن خصوصية في نزول رحمة الله تعالى فلا توجد في غيرها، مثل البيت الحرام، والمساجد الواقعة من ركن الحجر الأسود، ومقام إبراهيم (ع) (بين الركن والمقام) والصفا، ومسجد رسول الله (ص) وروضته، ومسجد الكوفة، والحائر الحسيني، والمساجد.
المحور الزماني والمكاني: وقد يقترن الزمان والمكان مع بعض مثل وادي عرفة يوم عرفة بعد الزوال إلى الغروب.
ولا سبيل لنا إلى أن نتعرف على هذه الازمنة والأمكنة، إلاّ من طريق الوحي.
- الأحوال: وهي مواطن لرحمة الله داخل النفس الإنسانية، مثل حالة الانكسار (إن الله في القلوب المنكسرة)، وحالة الدعاء والمناجاة، وحالة الرقة والبكاء، وحالة الاخلاص، وحالة التقوى، وحالة التضرع والإنابة والإخبات بين يدي الله، وحالة الاضطرار والانقطاع إلى الله .. ولا شك ان هذه الاحوال داخل النفس البشرية مواطن رحمة الله.
- الأعمال، مثل جهاد العدو، والصلاة، والصلاة جماعة، وتجمعات المواطنين الراشدة، والسجود، والإنفاق، وطلب العلم، والسعي إلى الرزق في الأسواق، فإن هذه الأعمال إذا كانت موصولة بالأعمال من مواطن رحمة الله تعالى ..
ثالثاً: ابتغاء الرحمة وانتهازها في منازلها
إن عباد الله العارفين بقيمة هذه المنازل في حياة الإنسان، يسعون إلى معرفة هذه المنازل، ويراقبونها لئلاً تفوتهم هذه المنازل، وينتهزونها ويعرفونها، كما ينتهز التجار فرص البيع والشراء ويعرفون مواضعها في الأسواق، ويعرفون مواطن الرحمة ومنازلها، ويراقبونها، وينتهزونها، ويبادرون إليها، هؤلاء هم الذين يحظون بأبواب رحمة الله تعالى، ويستثمرون أعمارهم أفضل الاستثمار.
وقد قرأت كتاباً لأحد العرفاء العارفين بمواطن رحمة الله باسم (مراقبات السنة للعارف للتبريزي) يذكر مواطن رحمة الله في أيام السنة، ويذكّر المؤمنين بمراقبة هذه الفرص لئلاّ تفوتهم.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): إن لله في دهركم هذا نفحات ألا فتعرضوا لها[22].
وقليل من الناس من يعرف قيمة هذه النفحات الربانية في حياة الناس وينتهزها. وقد ورد أن أمير المؤمنين (ع) اسْتَشْهَدَ الفجر في اليوم الذي ضربه اللعين عبد الرحمان بن ملجم: ان كان قد رآه نائماً في مثل هذا الوقت.
إن هذه الليالي والأيام يعيشها عامة الناس، وليس لأحد على آخر امتياز في ذلك، ولكن من الناس من يعرف منازل الرحمة فيها ويراقبها، وينتهزها، ومن الناس من لا يعرف قيمة هذه الساعات والليالي والأيام، فتفوته فيها فرص الرحمة الإلهية، ونفحات الرحمة الربانية.
يوجد في مدينة النجف مسجد بقرب مرقد الإمام أمير المؤمنين (ع) يعرف بمسجد (الهندي)، ولا أعتقد أن فقيهاً وعالماً وطالباً من طلبة العلوم الدينية درس في النجف ولم يحضر شطراً من دروسه في هذا المسجد الشريف ..
وكان هذا المسجد ولا زال حافلاً بعشرات الحلقات وحلقات الدراسة والبحث العلمي، وتقام فيه أوسع الجماعات، وقد قضيت في هذا المسجد شطراً من حياتي الدراسية في النجف .. فهو حقاً مسجد مبارك .. وقد بلغني ان مؤسس هذا المسجد عندما أراد ان يضع حجر الأساس لهذا المسجد طلب من الحاضرين أن يتقدم لوضع الحجر الأساس شخص لم تفته فريضة الفجر في عمره أداءً أبداً، فأحجم القوم عن التقدم إلاّ مؤمن صالح من الهند تقدم إلى وضع حجر الأساس وقال: إنه لم تفته فريضة الفجر في عمره منذ عرف الصلاة إلى هذا اليوم أبداً. فعرف المسجد باسمه منذ ذلك الحين. وقد أدركت في مدينة (علي الغربي) في العراق شيخاً في التسعينات من عمره (هو السيد عبد السلام الموسوي، وكان إمام جماعة في جامع علي الغربي توفي رحمه الله)، وكان صائماً أيام شهر رمضان، وقال لي: إنه لم تفته صيام شهر رمضان منذ ان بلغ سن البلوغ إلى اليوم، ولم يسافر أيام شهر رمضان لئلاً يفوته صيام هذا الشهر الشريف.
هذه الساعات والأيام والليالي محدودة في عمر الإنسان، وإذا فاتت الإنسان فرصة من هذه الفرص فلا تعود إليه مرة أخرى.
عن رسول الله (ص): من فتح له باب من الخير فلينتهزه، فإنه لا يدري متى يغلق عنه )كنز العمال:43134)
وعن انتهاز الفرصة قال رسول الله (ص): اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك[23].
عن أمير المؤمنين (ع): الفرصة تمر مر السحاب فانتهزوا فرص الخیر[24].
وعنه (ع) أيضاً: الفرصة سريعة الفوت، بطيئة العود[25].
وعن أمير المؤمنين (ع): عباد الله، الآن، الآن، قبل الندم، ومن قبل ان تقول نفس: < يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه>[26].
مراقبة منازل الرحمة ومزالق الشيطان
إن على الإنسان مراقبتين:
- مراقبة منازل الرحمة.
- ومراقبة مزالق الشيطان.
المراقبة الأولى هي الانتباه إلى منازل الرحمة في حياة الإنسان وانتهازها، وقد تحدثنا عنها.
والمراقبة الثانية مراقبة مزالق الشيطان، فإن الشیطان يكمن في طريق الإنسان إلى هذه المنازل بـ(الغفلة) و(النسيان)، و(الجهل)، و(الإهمال)، و(الكسل)، و(الاسترخاء)، و(التسويف).
فيفوّت هذه الفرص على الإنسان.
وللشيطان نوع آخر من المزالق، في منازل الرحمة، وهي مزالق العجب والرياء اللذان يحبطان العمل الصالح حبطاً كاملاً، ويخرجانه من دائرة التوحيد إلى دائرة الشرك والغرور.
وَأنا الجّاهل الّذي عَلّمته، وأنا الضّال الّذي هَديته
الإنسان، من دون ان يعلمه الله، لا يعلم شيئاً، ومن دون ان يهديه الله، لا يهتدي، ومن دون ان يشعره الله لا يدرك .. فان الإنسان وعاء للعلم والمعرفة، ومن غير ان يعلمه الله لا يعلم شيئاً.
يقول تعالى: <عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ>[27] يعني مكّنه من ان يتعلم، وهذا التمكين من عند الله.
يقول تعالى: <أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً>[28] فهو وعاء للعلم،
والله تعالى هو الذي يمكنه من ان يتلقى العلم، وسخر له من يعلمه
والإنسان وعاء للهداية، وأما الهداية فانه من عند الله: <إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى>[29] <وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى>[30].
وعلى العموم لا يقوى الإنسان على شيء الا بالله <اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً>[31] وهذه حقائق المعرفة، وينبغي ان لا تحجبنا من هذه الحقائق الأسباب المادية في العلم والمعرفة والهداية والقوة بعد الضعف.
وَأنا الوَضيعُ الّذي رَفَعته، وَأنا الخائفُ الّذي آمنته، والجّائعُ الّذي أشبعته، وَالعَطشانِ الّذي أرْوَيتَه، وَالعاري الّذي كَسَوته، وَالفقير الّذي أغْنيتهُ، وَالضّعيفُ الّذي قُوّيته، وَالذّليل الّذي أعززته، وَالسّقيم الّذي شَفيته، وَالسّائل الّذي أعْطَيته، وَالمذنبُ الّذي سَترته، وَالخاطئُ الّذي أقَلتهُ
أقال الله عثرته: أي أنهضه من سقوطه. والمعنى أنا الخاطئ الذي أنهضته من عثراته، ورفعته عن كبواته، وأخذت بيده عند السقوط والهلاك.
وَأنا القَليل الّذي كثّرته
أنا العديم الذي أوجدته، والقليل الذي كثرته. كنت قليلاً في كل شيء، في علمي وقوتي ورزقي وعلاقاتي، وكرامتي، وعبادتي، وذكري، وفهمي .. فكثرتني في كل ذلك، ومن قبل كنت عديماً، فأوجدتني .. دون أن استحق منك الإيجاد بعد العدم، والتكثير بعد القلة.
وأنا القليل الحقير الذي وهبته الكثير من رحمتك، فجعلت له شأناً وقدراً، بعد أن كان لا شأن له.
ولولا أن أرجو كرمك وعفوك عني، وسترك عليّ، إلهي، لم يسعني أن أسألك، لما تعرف عن تقصيري وخطيئاتي، ولكنك عودّتني على فضلك وكرمك ورحمتك من قبل، حيث لم أكن شيئاً، ولم يكن لي شأن. وهذا هو الذي يجرّؤني عَلى مسألتك، وطلب رحمتك، مع ما تعرف عني، وأعرف من نفسي من تقصير وذنب. فهذه آلاؤك ونعماؤك تكتنفني، وتحيطني، دون أن أستحق شيئاً من ذلك.
فأنا الضعيف الذي لم يقوِ عَلى شيء، فربّيته وقوّيته، ووهبته حولاً وقوّة. وأنا الجاهل الذي لم أكن أعرف شيئاً، ولا أعي أمراً، فمنحتني علماً وفهماً، وألهمتني وعياً ودركاً. فإن الله تعالى هو الذي يفتح مغاليق أبواب المعرفة والعلم عَلى عباده، يقول تعالى: <وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا>[32]، وهو الذي يفيض عَلى عباده علم ما لم يكونوا يعلمون، ويلهمهم الوعي والمعرفة، يقول تعالى: <عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ>[33]، وأنا الضالّ الذي هديتني، وألهمتني الهداية والإيمان. يقول تعالى في الامتنان عَلى نبيّه وحبيبه (ص): <وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى>[34] ولولا أنّ الله تعالى منّ علينا بالهداية والإيمان، وأنار لنا الطريق وفطر نفوسنا عَلى الإيمان لم يكن أحد يهتدي الطريق، ويسلم من السقوط والانحراف، يقول تعالى: <إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى>[35].
وأنا الوضيع الحقير الذي رفعت له شأناً، ونشرت له بين الناس ذكراً حسناً.
وأنا الخائف الذي كان يخاف عَلى نفسه الهلاك، فآمنته من الهلاك ومن العذاب، وطمأنته برحمتك، وأذهبت عنه الخوف والحزن، يقول تعالى: <أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ>[36].
وأنا الجائع الذي أطعمته من نعمك، والعطشان الذي أرويته بفضلك، والعاري الذي كسوته من رحمتك، فخلقت له طعاماً ليشبع جوعه، وشراباً يروي ظمأه، ولباساً يواري سوأته، ويكسو جسمه من الحرّ والبرد، واكتنفته برحمتك ونعمتك.
وأنا الفقير الذي لا أملك شيئاً، فأغنيته من فضلك، ووهبته من رحمتك ما يغنيه عن الحاجة إلى غيرك. يقول تعالى: <يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ>[37]. وأنا الضعيف الذي لم أكن أقدر عَلى شيء، فقوّيته، وجعلت له من بعد ضَعف قوّة. يقول تعالى: <اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ>[38].
وأنا الذليل الذي أسبغت عليه من عزّتك <فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً>[39]، وأنا السقيم الذي برأته من سقمه، والسائل الذي أجزلت له العطاء، فأغنيته وكفيته، والمذنب الذي سترته بسترك، فلم تفضحه بين الناس بما تعلم ويعلم من جرمه وجريرته، والخاطئ الذي أقلته من عثراته، وأنهضته عن كبواته، وسدّدت له خطواته، والقليل الذي لم يكن له شأن، فجعلت له شأناً، ولم يكن له ذكر وقدر، فوهبته قدراً وذكراً بين الناس حسناً، والمستضعف المقهور الذي أخذت بيده، فنصرته، وقوّيته، والطريد الذي لم يكن يجد مأوى عند احد، فآويته وأكرمته <الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ 78 وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ 79 وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ 80 وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ 81 وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ>[40].
وَالمُستضعفُ الّذي نَصرته، وَأنا الطّريد الّذي آويته، أنا يَا رَبّ الّذي لمَ أستحيك في الخَلاء، وَلمَ أُراقبكَ في الملاء. أنا صَاحب الدّواهي العُظمى، أنَا الّذي عَلى سَيدهِ اجْتَرأ، أنا الّذي عَصَيتُ جبّار السّماء
لم أستحيك: أي لم أستحي منك. والدواهي جمع داهية بمعنى المصيبة والأمر المنكر. والمعنى: أنا الذي عصيتك في خلواتي، فلم أستحي منك وخرجت عن حدودك، في الملاء بين الناس، فلم أراقب سلطانك عليّ، وأعلنت عصيانك بين أولئك الذين لا يستحون الله في موبقة ومعصية، يقول تعالى: <يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ>[41]، وأولئك هم الذي يتكتمون عن الناس ما يصنعون من قبيح وجرم، ويستحيون الناس، ولا يستحيون الله تعالى فيما يعملون من معصية، وهو معهم في الخلاء والملاء. والسياق سياق تعليم وتوجيه لما ينبغي ان يخاطب الله تعالى به عباده المذنبون .. وكأنّ الإمام (ع) في هذه الفقرات يُعلم المذنبين العاصين من عباد الله، كيف يتكلمون مع الله؟ .. وعلى هذا النحو من التذلل والتضرّع يناجي العبد ربه ..
ثم يتذكر العبد ما جرّ عَلى نفسه من مصائب في معصية الله، في الخلاء، والملاء، فيقول في تضرّع وانكسار: أنا صاحب الدواهي العظمى، أي: أنا الذي جرّ عَلى نفسه في معصيتك المصائب، واجترأ عَلى سيده ومولاه، فتمرّد عَلى أمره وخرج عن حدوده. أنا الذي غرّتني نفسي فعصيت جبّار السماء. ويا له من داهية أن يعصي الإنسان جبار السماوات والأرض.
أنا الّذي أعطيتُ عَلى مَعاصي الجّليل الرُشى
الرشى: جمع الرشوة، وهو ما يدفعه الإنسان لإبطال حق، أو لإحقاق باطل. والمعنى أنا الذي سعيت إلى معصيتك وبذلت الجهد والمال في مخالفتك.
أنَا الّذي حينَ بُشّرت بِها خَرجْتُ إليها أسعى
وحين بُشّرت بالمعصية، وتيسّرت لي أسبابها بما بذلت من جهد ومال خرجت إليها أسعى، كمن يسعى إلى غنيمة فاز بها.
أنَا الّذي أمهلتني فَما ارعَويتُ
ارعوى: ارتدع. والمعنى: أنا الذي أمهلتني، ولم تعاجلني بالعقوبة لعلي اتوب وارتدع .. فلم ارتدع.
وارعوى: رجع عن جهله وكفّ عنه. والمعنى: طالما أمهلتني يا رب وأخّرت عقوبتي وعذابي حتى أكفّ عن جهلي، فلم أرجع عن جهلي، ولم أكفّ عن مخالفتك ومعصيتك.
وَسترتَ عَليّ فَما اسْتحييتُ، وَعَملتُ بِالمعاصي فَتعديتُ
وسترت عَلى ذنوبي، ولم تفضحني بين الناس فلم أستحي منك، وعملت بالمعاصي حتى تعديت كلّ حدّ.
وَاَسْقَطْتَني مِنْ عَيْنِكَ فَما بالَيْتُ
إن الله كريم يكرم عباده، فإذا تمادى العبد في الذنوب أسقطه الله من عينه، فيعرض عنه، ويلمس العبد هذا الإسقاط كما يلمس التكريم. فإذا أخذ العبد ذلك مأخذ الاهتمام وتدارك ذنوبه بالتوبة والاستغفار استعاد موقعه من الحب والتكريم من الله، وإذا تمادى في غيه وضلاله فهو ممن لا يبالي بهذا الإسقاط، ولا يعود إلى موضع التكريم من مولاه.
فَبِحِلْمِكَ اَمْهَلْتَني
الإمهال غير الإغفال، والله تعالى يمهل عبده ولا يعجّل بعقوبته ليكون له الحجة البالغة في عقوبته وعذابه، لئلا يقول العبد لو أمهلتني لرجعت وتبت.
ويستر الله على عبده فلا يفضحه، وينهى عن فضحه، لعله يعود إلى ربه بماء وجهه وكرامته التي أعطاه الله تعالى وأكرمه بها.
والله تعالى ستّار يحب الستر، ويستر عباده حتى من ملائكته الموكلين به أحياناً. عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله الصادق (ع):
(إن المؤمنين إذا اعتنقا غمرتهما الرحمة، فإذا التزما لا يريدان عرضا من أعراض الدنيا، قيل لهما: مغفور لكما، فاستأنفا، فإذا أقبلا على المسائلة، قالت الملائكة بعضهم لبعض تنحّوا عنهما، فإن لهما سراً، وقد ستر الله عليهما.
قال اسحاق – راوي الحديث – فقلت: جعلت فداك، ويكتب عليهما لفظهما، وقد قال الله تعالى: <مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ>[42]. قال: فتنفس أبو عبد الله (ع) الصعداء، ثم بكى، وقال: يا اسحاق، إن الله تعالى إنما أمر الملائكة ان تعتزل المؤمنين إذا التقيا إجلالا لهما، وإنه إن كانت الملائكة لا تكتب لفظهما ولا تعرف كلامهما، فإنه يعرفه ويحفظه عليهما عالم السر وأخفى)[43].
إنّ الحليم لا يستعجل في العقاب. والله تعالى حليم يمهل العبد لعله يعود إلى ربه فيعفو عنه.
وَبِسِتْرِكَ سَتَرْتَني
بحلمه يمهل الله تعالى عبده وهو على المعصية، فلا يعجّل له العقوبة، وبستره يستر عبده، فلا يفضحه بين الأشهاد.
حَتّى كَاَنَّكَ اَغْفَلْتَني
وليس الله تعالى بغافل عن ذلك. تعالى الله علواً كبيراً من الغفلة، ولكنه حليم ستار غفار، فيخال للإنسان أن الله تعالى أغفله.
وَمِنْ عُقُوباتِ الْمَعاصي جَنَّبْتَني حَتّى كَاَنَّكَ اسْتَحْيَيْتَني
إن العبد قد لا يستحيي من الله، فيعصيه بحضرته وهو يسمعه ويراه.
ومن عجب ان الله يستحيي من عبده، وينهى عباده ان يكشف بعضهم الستر عن البعض إذا عرف منه سوءاً أو قبيحاً، والعبد لا يستحيي من ربه.
وجزاء العبد الذي لا يستحيي ربه ويرتكب بحضرته قبائح الأعمال ان يكشف عنه الستر، ويفضحه ويعاجله بالعقوبة، ولكن الله يستره، وهو يعصيه، ويمهله، حتى كأنه أغفله، وهو ليس بغافل، وكأنه استحيى عبده ان يواجهه بذنوبه.
وهذا من أعجب العجب ان العبد لا يستحيي مولاه، فيرتكب أقبح الذنوب بحضرته، وهو يراه ويسمعه، ويستحيي مولاه ان يعاجله بالعقوبة، ويتغاضى عنه، وكأنه قد أغفله.
<وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ>[44]. والمؤمنون لا يستحيون من الحق <يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ>[45]. ولكن الله عفوٌ، غفورٌ، رحيم، ستار، يعفو عن عباده، فيخال الإنسان أن الله يستحيي منه.
اِلهي لَمْ اَعْصِكَ حينَ عَصَيْتُكَ وَاَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ
لم يكن عصياني عن جحود وإلحاد. فلا يدخلني هذا العصيان في الجاحدين والمنكرين. ولم يكن عن طغيان واستكبار، واستهتار بأمرك، ولا جرأةً عليك، وتعرضاً لعقوبتك، ولا استهانة بوعيدك.
وبذلك يبقى العبد في دائرة الإيمان، والعبودية، والصغار والضعة بين يدي الله فلماذا إذن يرتكب الذنوب؟
يقول (ع) عنهم: (ولكن خطيئة عرضت، وسوّلت لي نفسي)، يعني: وقع الذنب مني في غفلة من غفلاتي. وكأنما استغفلني الخبيث في لحظة من لحظات الغفلة، فلم انتبه لنفسي إلاّ بعد أن سقطت في المعصية.
وقد يعصي العبد، ولكن ليس تمرداً واستكباراً على الله، ولا جحوداً لله، واستخفافاً بأمره وحكمه، واستهانة بمخالفته وعقوبته .. وإنما عن هوى غالب، وتسويل للنفس وثقة بستر الله وكرمه وعفوه، وشتان بينهما، إن المعاصي من النوع الأول انتهاك لحرمات الله، وجرأه على الله، وتنافي موقع العبودية، واستكبار وطغيان ومآل هذه المعاصي الكفر وتكذيب آيات الله <ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ>[46].
وليست العقوبة من النوع الثاني كذلك انها زلة في لحظات غفلة وسلطان الهوى وغلبتها على الانسان .. هذا صحيح وتوجيه حسن للذنوب. ولكن على العبد ان يحذر ان يقع في معصية الله، مهما كان التوجيه لأنها تؤدي الى الكفر والتكذيب بايات الله في العاقبة، ويمكن الشيطان منه.
وَلا بِاَمْرِكَ مُسْتَخِفٌّ، وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌّ، وَلا لِوَعيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لي نَفْسي([47])، وَغَلَبَني هَوايَ، وَاَعانَني عَلَيْها شِقْوَتي
الشقاء من صنع الإنسان، فلم يخلق الله تعالى إنساناً شقياً قط، ولكن الإنسان هو الذي يسعى إلى الشقاء بنفسه.
فإذا شقي الإنسان دفعه شقاؤه إلى معصية الله، وكأن شقاءه يعينه على معصية الله، ويفتح له أبواب المعاصي، كما أنّ سعادة الإنسان وتوفيقه يفتح له أبواب الطاعة.
وَغَرَّني سِتْرُكَ الْمُرْخى عَلَيَّ
والله تعالى يستر عباده، وهم على معصيته. ولكن لا يجوز للإنسان أن يجعل ستر الله تعالى على عباده ذريعة للاسترسال في الذنوب، فيغرّه ستر الله المرخى على عباده على معصيته، <يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ>[48].
يقول أمير المؤمنين (ع): کم من مستدرج بالإحسان إليه ومغرور بالستر علیه[49].
فَقَدْ عَصَيْتُكَ وَخالَفْتُكَ بِجَهْدي([50])، فَالاْنَ مِنْ عَذابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُني؟
فقد وقعت المعاصي مني على أيّ حال، ولا سبيل للإنكار والتبرير والتوجيه. والآن ما العمل؟ وما الحيلة للتخلص من عقابك وعذابك؟ ومن يخلصني من أيدي الخصماء الذين وكلتهم بي ليحصوا عليّ ذنوبي والذين أمرتهم أن يسوموني سوء العذاب؟
إلى من ألجأ إن أعرضت عني، وبحبل من أتصل للنجاة من عذابك إن قطعت حبلك عني. <فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ>[51]. وإلى من التجأ إذا كان الله تعالى وملائكته خصومي يوم القيامة.
وَمِنْ اَيْدي الْخُصَماءِ غَداً مِنْ يُخَلِّصُني؟ وَبِحَبْلِ مَنْ اَتَّصِلُ اِنْ اَنْتَ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنّي؟ فَواسَوْاَتا عَلى ما اَحْصى كِتابُكَ مِنْ عَمَلِيَ
فيا فضيحتي ويا حسرتي على ما أحصى كتابك من سيئات الأعمال. وأن هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها. <ووُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً>[52].
فواسوأتاه، ويا فضيحة العبد إذا أعطي كتابه بشماله، وقد أحصوا عليه سيئاته التي ارتكبها في حياته، ونساها ولم ينسها الله، ولم يستغفر الله منها .. وليس له سبيل إلى التخلص منها أو إنكارها.
وقد يجد الإنسان نفسه أقرب شيء إلى القنوط من نفسه وخيره وأعماله، لولا أن الله تعالى ينهاه عن القنوط عن رحمته. <قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً>[53].
ولولا رجاؤنا العظيم بالله وسعة رحمة الله وجميل عطائه وجوده وكرمه لغلبنا اليأس، ولكن الله أرحم الراحمين.
إن أعمال الإنسان لصيقة به يوم القيامة لا تفارقه وهي عنوانه الذي يلازمه. <وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً 13 اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً>[54]. فإذا كانت صفحة الإنسان سوداء بالسيئات والذنوب فلا يرجو الإنسان خيراً من نفسه وعمله، ولا يبقى أمامه إلاّ أن يرجو رحمة الله التي لا ييأس عنها ولا يقنط منها إلاّ الأشقياء وقد نهانا الله تعالى عن القنوط عن رحمته مهما كانت سيئات أعمالنا.
الَّذي لَوْلا ما اَرْجُو مِنْ كَرَمِكَ وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ وَنَهْيِكَ اِيّايَ عَنِ الْقُنُوطِ لَقَنَطْتُ عِنْدَما اَتَذَكَّرُها، يا خَيْرَ مَنْ دَعاهُ داع، وَاَفْضَلَ مَنْ رَجاهُ راج.
لا أحد يدعوه الإنسان خيرا من الله تعالى إطلاقاً، ولا أحد يرجوه الراجون أرجى منه تعالى على الإطلاق. وهذا هتاف تمهيدي للتوجه إلى الله تعالى بالدعاء، وها هو زين العابدين (ع) يقبل على الله تعالى بالدعاء والتضرع ويفتح بهما أبواب رحمة الله تعالى.
اَللّـهُمَّ بِذِمَّةِ الإسْلامِ اَتَوَسَّلُ اِلَيْكَ، وَبِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ اَعْتَمِدُ اِلَيْكَ، وَبِحُبِّيَ النَّبِيَّ الأٌمِّيَّ الْقُرَشِيَّ الْهاشِمِيَّ الْعَرَبِيَّ التِّهامِيَّ الْمَكِّيَّ الْمَدَنِيَّ اَرْجُو الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ
قد أمرنا الله تعالى أن نبتغي إلى الله الوسيلة، <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ>[55]، ومن أفضل الوسائل التي يتخذها الإنسان إلى الله (ذمة الإسلام) و(حرمة القرآن) و(حب رسول الله (ص)).
وللإسلام ذمة وهي الأمان من عذاب الله تعالى .. ومن يعمل بالإسلام يتعهد له الإسلام بالأمان من عذاب الله وعقابه .. وهذا هو ذمة الإسلام وعهده للإنسان.
وللقرآن حرمة <إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ 77 فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ>[56]، <بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ 21 فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ>[57]، <لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ>[58].
ولرسول الله (ص) محبة في قلوب المؤمنين، وها هنا نتوسل إلى الله في هذا الدعاء بهذه الحرمات الثلاثة: ذمة الإسلام، وحرمة القرآن، وحب رسول الله (ص).
فَلا تُوحِشِ اسْتيناسَ ايماني
الإيمان بالله يهب نفس الإنسان إنساً وطمأنينة وسكوناً <أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ>[59].
وهذا الأنس يحسّ به الإنسان المؤمن في فطرته ونفسه، وهو من أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين، ومن أعظم بركات الإيمان. وهذا الأنس بالله والسكينة النفسية إلى الله يمنح الإنسان استقراراً نفسياً وطمأنينة في أشد الظروف وأقساها، فلا يقلق، ولا يرتبك، ولا يشعر بالغربة والوحشة، مهما كانت الظروف.
ولماذا الوحشة والغربة والارتباك؟ وهو يحس بمعية الله تعالى له، وأنه بعين الله وسمعه، وأنه يذكره ولا ينساه، ويرعاه ولا يهمله. فإذا حُرِمَ الإنسان (أُنس الإيمان) ضعف في مواجهة الاحداث الصعاب، وأسرع إليه القلق والاستيحاش. وهذا هو أول دعاء في هذا المسلسل من الأدعية (فلا توحش استيناس إيماني).
وَلا تَجْعَلْ ثَوابي ثَوابَ مَنْ عَبَدَ سِواكَ، فَاِنَّ قَوْماً آمَنُوا بِاَلْسِنَتِهِمْ لِيَحْقِنُوا بِهِ دِماءَهُمْ فَاَدْرَكُوا ما اَمَّلُوا، َوَإنّا آَمّنا بِكَ بِاَلْسِنَتِنا وَقُلُوبِنا لِتَعْفُوَ عَنّا، فَاَدْرِكْنا ما اَمَّلْنا، وَثَبِّتْ رَجاءَكَ في صُدُورِنا، وَلا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ اِذْ هَدَيْتَنا، وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً اِنَّكَ اَنْتَ الْوَهّابُ.
فإن شهادة (أن لا إله إلاّ الله) يحقن دماء الناس، حتى لو كانت شهادتهم بلا إله إلاّ الله على طرف ألسنتهم، ولم يؤمنوا بالله تعالى في قرارة نفوسهم. <يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ>[60].
ومع ذلك فإنهم يدركون ما أمّلوا من حقن دمائهم. وقد آمنا بك ربنا، بقلوبنا وألسنتنا لتعفو عنا، وتؤمّننا من عذابك وعقابك فأدرِكنا ما أملنا، فإنك قد أعطيت المشركين بك ما وعدتهم من حقن دمائهم، فكيف تحرمنا ربنا ما أملنا من عفوك؟
فَوَعِزَّتِكَ لَوِ انْتَهَرْتَني ما بَرِحْتُ مِنْ بابِكَ، وَلا كَفَفْتُ عَنْ تَمَلُّقِكَ، لِما اُلْهِمَ قَلْبي مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِكَرَمِكَ وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ
والله تعالى يحب هذا الإصرار والإلحاح من عباده على بابه .. والإمام (ع) يعلم كيف ينبغي أن يكون إلحاح العبد في الدعاء وإصراره في الرجاء على باب رحمة الله.
ونُقسم بالله وجلاله وعزته لو زجرنا ونهرنا عن بابه لما كففنا عن تملقه والتضرع إليه.
ثم يعلل (ع) هذا الإلحاح والإصرار في الدعاء والرجاء بما ألهم الله تعالى قلوب عباده من الإيمان بسعة كرمه ورحمته، فمن يعرف سعة رحمة الله وكرمه لا ييأس من أن تناله رحمة الله تعالى مهما طال وقوفه على باب رحمته، ومهما كانت ذنوبه وسيئاته.
اِلى مَنْ يَذْهَبُ الْعَبْدُ إلاّ اِلى مَوْلاهُ
أين يجد العبد ملجأ وملاذاً لنفسه فيما يواجهه من المصائب والعقبات إلاّ أن يلجأ إلى مولاه؟ ومن ذا الذي يُلجأ العبد إذا أعرض عنه مولاه.
وفيما يلي نقرأ جملاً من مناجاة أمير المؤمنين علي (ع)، كان يناجي به الله تعالى في ظلمات الليل في مسجد الكوفة ويذكر فيه حاجته وفقره إلى الله:
مولاي يا مولاي أنت المولى وأنا العبد، وهل يرحم العبد إلاّ المولى؟
مولاي يا مولاي أنت المالك وأنا المملوك، وهل يرحم المملوك إلاّ المالك؟
مولاي يا مولاي أنت العزيز وأنا الذليل، وهل يرحم الذليل إلاّ العزيز؟
مولاي يا مولاي أنت الخالق وأنا المخلوق، وهل يرحم المخلوق إلاّ الخالق؟
مولاي يا مولاي أنت العظيم وأنا الحقير، وهل يرحم الحقير إلاّ العظيم؟
مولاي يا مولاي أنت القوي وأنا الضعيف، وهل يرحم الضعيف إلاّ القوي؟
مولاي يا مولاي أنت الغني وأنا الفقير، وهل يرحم الفقير إلاّ الغني؟
وقد روي عن رسول الله (ص): إن الله يحب الملحّين في الدعاء[61].
وعنه (ص): إن الله يحب السائل اللحوح[62].
وعن أمير المؤمنين (ع): الدعاء ترس المؤمن، ومتى تكثر قرع الباب يفتح لك.
وفي الدعاء: يا من لا يبرمه إلحاح الملحين[63].
وعن الإمام الباقر (ع): إن الله كره إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة، وأحب ذلك لنفسه[64].
مولاي يا مولاي أنت المعطي وأنا السائل، وهل يرحم السائل إلاّ المعطي؟
مولاي يا مولاي أنت الباقي وأنا الفاني، وهل يرحم الفاني إلاّ الباقي؟
وَاِلى مَنْ يَلْتَجِئُ الْمخْلُوقُ إلاّ اِلى خالِقِهِ، اِلهي لَوْ قَرَنْتَني بِالأَصْفادِ، وَمَنَعْتَني
الأصفاد: الأغلال والسلاسل، والسيب: العطاء، والأشهاد: جمع الشاهد، وهو من يحضر ويشهد أعمال الناس، وهم الأنبياء (عليهم السلام) وأوصياؤهم.
هذه لوحة فريدة يرسمها زين العابدين (ع) للتعبير عن عمق رجائه بالله تعالى. وما أروع هذه اللوحة في أدب الدعاء والعبودية، وما أعمق هذا الرجاء والحب في نفس العبد.
لكي نعرف: كيف يكون أدب العبودية والدعاء بين يدي الله تعالى؟ وكيف يجب ان يكون عمق الرجاء والحب في نفس العبد؟ ينبغي أن نتأمل بعض الوقت هذه اللوحة الفريدة.
تصوروا أن الله تعالى يأمر بعبده، فيغلّ في الأصفاد والسلاسل، ويُحْرم رحمة الله تعالى الواسعة من بين الناس، ويكشف الله تعالى، وهو الستار، فضائحه للعباد وبين الأشهاد من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، ويؤمر به إلى النار الحارقة، ليبتعد عن الصالحين الأبرار من عباد الله، ويُحشرُ مع الفجار، ويُهانُ، ويُذلّ، ويُعاقبُ، ويُحرقُ، ويُحشرُ في زمر المجرمين والمشركين، وهو ليس منهم.
فيجد العبد نفسه موضع غضب الله تعالى وقهره وعقابه الأليم .. ثم لا ينقطع رجاؤه وأمله في رحمة الله، ولا ينقص حبه لله ويكون هجر الله تعالى له وإبعاده إياه أشد وآلم من أليم عذابه وعقابه.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، في الدعاء الذي علّمه لكميل بن زياد (رضوان الله عليه): (فلئن صيرتني للعقوبات مع أعدائك، وجمعت بيني وبين أهل بلائك، وفرّقت بين وبين أحبائك وأوليائك .. فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي، صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك؟ وهبني صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك؟ .. أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك؟)[65].
وكيف يخرج حب الله تعالى من قلب العبد، وينضب معين الرجاء في قلبه، وهو يذكر أياديه الجميلة عنده من غير استحقاق، ويذكر ما كان يستر عليه من ذنوبه وسيئاته في الدنيا، فيستره وهو على المعصية، فكيف يخيّبه من رحمته ورجائه في الآخرة وهو يلوذ برحمته وعفوه .. وفي دعاء كميل:
(أفتراك سبحانك یا إلهي وبحمدك تسمع فيها – نار جهنم – صوت عبد مسلم، سجن فيها بمخالفته، وذاق طعم عذابها بمعصيته، وحبس بین اطباقها بجرمه وجریرته وهو يضج إليك ضجيج مؤمل لرحمتك، ويناديك بلسان أهل توحيدك، ويتوسّل إليك بربوبيتك یا مولاي فكيف يبقى في العذاب، وهو يرجو ما سلف من حلمك، أم كيف تؤلمه النار، وهو يأمل فضلك ورحمتك، أم كيف يحرقه لهيبها، وأنت تسمع صوته وترى مكانه، أم كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت تعلم ضعفه).
إن الله تعالى أكرم من أن يضيّع من أكرمه بالإيمان، ويهجره، ويعاقبه بمثل هذا العقاب الأليم، ويصفده بالأغلال مع المجرمين .. ولكنها صورة توحي إلى من يقرأ هذا الدعاء أدب الدعاء والعبودية، وعمق الرجاء والحب في نفوس عباد الله الصالحين.
سَيْبَكَ مِنْ بَيْنِ الْاَشْهادِ، وَدَلَلْتَ عَلى فَضائحي عُيُونَ الْعِبادِ، وَاَمَرْتَ بي اِلَى النّارِ، وَحُلْتَ بَيْني وَبَيْنَ الْاَبْرارِ، ما قَطَعْتُ رَجائي مِنْكَ وَما صَرَفْتُ تَأميلي لِلْعَفْوِ عَنْكَ، وَلا خَرَجَ حُبُّكَ مِنْ قَلْبي.
اَنَا لا اَنْسى اَيادِيَكَ عِنْدي، وَسِتْرَكَ عَلَيَّ في دارِ الدُّنْيا، سَيِّدي اَخْرِجْ حُبَّ الدُّنْيا مِنْ قَلْبي
فإن حب الدنيا إذا خرج من قلب الإنسان تحرّر عن الدنيا وفتنتها، وإذا تحرر الإنسان عن سلطان الدنيا وفتنها تيسر له العروج إلى الله ولقائه، وشهود جلاله وجماله وأسمائه وصفاته الحسنى. وتلك منزلة لا ينالها الا صدّيق شهيد، انتزع الله تعالى سلطان كل حب وفتنة من قلبه الا سلطان حبه وشهود جلاله وجماله.
وَاجْمَعْ بَيْني وَبَيْنَ الْمُصْطَفى وَآلِهِ خِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ وَخاتَمِ النَّبِيّينَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
فإن المصطفى وآله (ص) بجوار الله تعالى في الجنة، وجوارهم جوار الله، ولا يحظى الإنسان بأعز من هذا الجوار.
وَانْقُلْني اِلى دَرَجَةِ الَّتوْبَةِ اِلَيْكَ
فإن درجة التوبة رفيعة، ولا ينال التوبة الا من رقى من عباد الله إلى هذه الدرجة، وليست التوبة لقلقة لسان، وإنما هي الندم من الذنب، والخجل من الله، والتحكم في الأهواء والشهوات، والعبودية لله واستشعار الخجل من الله بما ارتكب الإنسان من الذنوب والمعاصي.
عن أمير المؤمنين (ع): إن الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان: أولها: الندم على ما مضى، والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم، والرابع: ان تعمد إلى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقها، والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان، حتى يلتصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس: ان تذيق الجسم ألم الطاعة، كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: استغفر الله[66].
وهذا الذي ذكرناه درجة رفيعة من درجات النفس، فإذا رقى الإنسان إلى هذه الدرجة وافته التوبة وعرفها في نفسه.
وَاَعِنّي بِالْبُكاءِ عَلى نَفْسي
فإن البكاء يذيب الجليد المتراكم على النفس، ويزيل الرين الذي يحجب قلب الإنسان عن الله، ويمنح القلب شفافية ورقّة، وشهقة بكاء قد تزيل الرين الذي تراكم على قلب العبد بالذنوب والمعاصي سنين طويلة.
ولكن هذه الشهقة التي تفجّر هذا الرين المتراكم على القلب، وتزيله لا تتأتّى للإنسان الا اذا أعانه الله تعالى على ذلك. وهيهات أن يتأتى للإنسان ذلك من غير عون الله. (وأعنّي بالبكاء على نفسي).
فَقَدْ اَفْنَيْتُ بِالتَّسْويفِ وَالاْمالِ عُمْري
ولماذا لا أبكي على نفسي، ولا أطلب أن يعينني الله تعالى على البكاء على نفسي، وقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري.
وهذه هي مصيبة الإنسان لا يزال يسوّف ويؤجّل التوبة، ويطيل الأمل في الدنيا، وكأن الدنيا باقية له إلى الأبد، ولا انقضاء لبقائه فيها.
والتسويف في التوبة والعمل الصالح، وطول الأمل في الدنيا من أكثر مصائب الإنسان في الحياة الدنيا. وقد روى المحدثون عن رسول الله (ص) أنه قال: ألا ان أخوف ما أخاف عليكم خصلتان: اتباع الهوى، وطول الأمل. أما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة[67].
وإذا لم ينتبه الإنسان إلى مصيبته في التسويف وطول الأمل، فلا يكاد ينتبه إلى محرقة العمر إلاّ في اللحظات الأخيرة من حياته، حيث لا ينفعه الانتباه والتذكر. وإذا لم يتدارك الإنسان الأمر قبل الموت، فإن الموت غدّار يفاجئ الإنسان قبل أن يتمكن من التوبة وإصلاح العمل. ولا شيء يزيل عن النفس غشاوة الغفلة، مثل البكاء على ما فرّط الإنسان من عمره وجهده، (وأعني على البكاء على نفسي، فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري).
وَقَدْ نَزَلْتُ مَنْزِلَةَ الاْيِسينَ مِنْ خَيْري
ولماذا لا ييأس الإنسان من خيره إذا نظر إلى عمله وعمره وطول أمله في الدنيا واغتراره بها وتسويفه للتوبة والأعمال الصالحة، حتى يكاد أن ينقضي عمره وهو لم يصنع شيئاً لحياته الآخرة، لولا أن الله تعالى ينهانا عن القنوط واليأس عن رحمته وروحه. وإذا يأس الإنسان عن نفسه وعمله، فلا يجوز له أن ييأس من رحمة ربه، وهذا الأمل في الله يجبر اليأس عن النفس ويغطيه. ولكن عليه ان يبكي على نفسه طويلاً. فإن البكاء يرفع الغشاوة عن قلب الإنسان.
فَمَنْ يَكُونُ اَسْوَأ حالاً مِنّي إنْ اَنَا نُقِلْتُ عَلى مِثْلِ حالي اِلى قَبْري، لَمْ اُمَهِّدْهُ لِرَقْدَتي، وَلَمْ اَفْرُشْهُ بِالْعَمَلِ الصّالِحِ لِضَجْعَتي
إن الأعمال الصالحة تمهّد للإنسان حياته الأخرى.
يقول تعالى: <وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ>[68]. ومن ينتقل من هذه الدنيا إلى الحياة الأخرى من دون أن يمهد لها بالأعمال الصالحة، ويتوب عن ذنوبه وسيئاته، فلا يكون أحد أسوأ حالاً منه. فيكون قبره حفرة من حفر النار، والقبر أما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
وَمالي لا اَبْكي وَلا اَدْري اِلى ما يَكُونُ مَصيري؟ وَاَرى نَفْسي تُخادِعُني، وَاَيّامي تُخاتِلُني
فما أحرى بالإنسان في غفلاته أن يبكي على نفسه، وهو لا يعلم إلى ما يكون مصيره إلى رحمة الله ورضوانه، أم إلى عذابه وعقابه.
وأي شيء أدعى إلى الخوف والحزن والبكاء من أن يُطِلّ الإنسان على مصير مجهول دائم، لا نفاد له، لا يدري إن كان مصيره العفو والرحمة من عند الله، وهو الرحمن الرحيم الغفور، أم إلى عذاب الله وعقابه، وهو شديد العقاب، ولا يعلم كيف يكون مقامه يوم القيامة بين يدي الله؟ مقام الرضا والرحمة، أم مقام الغضب والسخط؟
وإنه ليوم صعب رهيب. <يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ>[69].
<يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ>[70].
وأشد ما يمرّ على الإنسان في غفلاته في الدنيا أن يرى أنّ نفسه تخادعه، تبعّد إليه القريب، وتطيل أمله في الدنيا، وتجملها وتزينها له (وأرى نفسي تخادعني)، ثم تخاتله أيامه، وتخفى عليه لحظاته الأخيرة .. وها هو صقر الموت يخفق عند رأسه بأجنحته، وينقض عليه مرة واحدة، ينتزعه من الدنيا انتزاعاً، ويقهره على أن يقطع كل علاقاته وأهوائه وشهواته في الدنيا، وما جمعه وادخره، واقتناه منها، لا يرحمه ولا يرأف به، ويقبل على مصيره الدائم الذي يجهله، فلا يدري إلى حفرة من حفر النار، أم إلى روضة من رياض الجنة. وهل هناك شيء أدعى إلى البكاء من ذلك. (وما لي لا أبكي، ولا أدري إلى ما يكون مصيري؟ وأرى نفسي تخادعني، وأيامي تخاتلني. وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت).
وَقَدْ خَفَقَتْ عِنْدَ رَأسي اَجْنِحَةُ الْمَوْتِ، فَمالي لا اَبْكي؟ اَبْكي، لِخُرُوجِ نَفْسي، اَبْكي لِظُلْمَةِ قَبْري، اَبْكي لِضيقِ لَحَدي، اَبْكي لِسُؤالِ مُنْكَر وَنَكير اِيّايَ
هذه طائفة من المعابر الصعبة في عالم البرزخ، وهو العالم المتوسط بين الدنيا والآخرة، يعبرها الإنسان لا محالة، في عبوره الصعب من الدنيا إلى الآخرة، ومن أعظم هذه المراحل حالة النزع والاحتضار بين الدنيا والبرزخ، حيث تتشابك الدنيا بالآخرة. <كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ 26 وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ 27 وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ 28 وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ 29 إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ>[71].
وهي لحظات صعبة يفارق فيها الإنسان الدنيا، ويقبل على عالم الآخرة، وينتزعه ملك الموت (ع) مقهوراً مغلوباً على أمره، من الدنيا، وما كسبه فيها لنفسه من مال وبنين وموقع.
ثم ظلمة القبر وضيق اللحد، ثم سؤال منكر ونكير، وهما ملكان من ملائكة الله، يسألون الإنسان في ظلمات قبره عن عقائده، فإن كانت عقائده صحيحة، أنطقه الله تعالى بها واستراح، وإن كانت باطلة، ولم يجهد صاحبها نفسه في الدنيا في ابتغاء العقيدة الحق والإيمان الحق، والولاء الحق، حاسبوه حساباً عسيراً.
ومسائلة منكر ونكير من القضايا المستقبلة لكل إنسان، وقد ورد في روايات كثيرة مستفيضة لا سبيل للتشكيك فيها.
وهذه جميعاً من مواقف البرزخ ومعابره، والحياة البرزخية مما يقرره القرآن. يقول تعالى: <كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ>[72]، والحياة المتوسطة بين الموتين هي الحياة البرزخية، لا محالة، يسبقها الموت، ويلحقها الموت، والآية الكريمة واضحة فيما قلنا، وقد فسرها بهذا المعنى جمع من المفسرين. والحياة البرزخية كحياة الآخرة، ينعم فيها ناس، ويعذب فيها آخرون. ينعم فيها ناس بأعمالهم الصالحة <وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا>[73]. وييأس فيها آخرون <كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ>[74].
والحياة البرزخية حياة طويلة، يطول فيها عذاب الفاسقين، كما يطول فيها نعيم الصالحين. وحق على الإنسان أن يبكي ويطيل البكاء، وهو لا يعلم ماذا يكون مصيره إذا هوى في ظلمة قبره. وكيف يكون جوابه إذا سأله منكر ونكير عن عقائده وأعماله؟
اَبْكي لِخُرُوجي مِنْ قَبْري
وهذه محطة ثانية من محطات البكاء والمصير المجهول الذي يستقبل الإنسان، وهي مرحلة الحياة الآخرة، عندما يبعث الله من في القبور.
وإنها ساعة حق، آتية لا محالة <وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ>[75].
ويعجب الناس وقد بعثهم الله من قبورهم في ذلك اليوم العسير كالفراش المبثوث، يقولون: <يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا؟> فيقال لهم: <هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ>[76].
وهو يوم عسير، يوم ينبئ الله الإنسان بأعماله التي نساها الإنسان وأحصاها الله، فيذكّره بها.
<يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ>[77].
وما أحرى بالإنسان أن يبكي ويطيل البكاء على ما فرط منه من السيئات، وقد نساها، وأحصاها الله.
عُرْياناً ذَليلاً حامِلاً ثِقْلي عَلى ظَهْري
وهو اقتباس من قوله تعالى: <وهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ>[78].
وأن السيئات تثقل ظهور أصحابها فيبحثون عمن يحمل ويخفف عن ظهورهم ثقل السيئات، فلا يجدون يومئذٍ من يخفف عنهم ثقل السيئات.
<وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى>[79].
ومن يحمل عن الإنسان أوزاره في ذلك اليوم العسير؟ <يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ 34 وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ 35 وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ>[80].
اَنْظُرُ مَرَّةً عَنْ يَميني وَاُخْرى عَنْ شِمالي، اِذِ الْخَلائِقِ في شَأن غَيْرِ شَأني <لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأنٌ يُغْنيهِ 37 وُجوُهٌ يَوْمَئِذ مُسْفِرَةٌ 38 ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ 39 وَوُجوُهٌ يَوْمَئِذ عَلَيْها غَبَرَةٌ 40 تَرْهَقُها قَتَرَةٌ> وَذِلَّةٌ.
الآيات من سورة عبس 37 – 41 وهي تعكس مشهداً من مشاهد يوم القيامة، إذ الخلائق يحشرون، كل له همه وشأنه الذي يهمّه، ولا يحمل الإنسان يومئذٍ إلاّ همه. <يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ 1 يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ>[81].
والناس يومئذ بين مستبشر ضاحك سعيد وبائس شقي.
<يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ>[82].
<هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ 1 وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ 2 عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ 3 تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً 4 تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ 5 لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ 6 لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ 7 وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ 8 لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ 9 فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ 10 لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً 11 فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ 12فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ 13 وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ 14 وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ>[83].
سَيِّدي عَلَيْكَ مُعَوَّلي وَمُعْتَمَدي وَرَجائي وَتَوَكُّلي، وَبِرَحْمَتِكَ تَعَلُّقي
وسط هذه المشاهد المفزعة الرهيبة التي تحف بالإنسان من حين يلفظ آخر أنفاسه في معابر البرزخ والآخرة ينظر المرء يميناً وشمالاً، فلا يجد من يلوذ به، ويتوكل عليه، ويستغيث به، غير الله تعالى، فهو مآبه الذي يرجع إليه.
(سيدي عليك معولي): أي أستعين بك وأتوكل عليك وأعتمد عليك. وهو وحده سبحانه الموضع الذي يضع العبد عنده ثقته واعتماده ورجاءه وأمله. وهو سبحانه وحده من يستحق ثقة العبد وركونه واعتماده.
ونقرأ في سورة هود قول هود (ع) عندما جادله قومه، وتحدوه، ورفضوا دعوته، وأعلنوا مقاطعته، يقول لهم: <إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ 54 مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ 55 إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ>[84].
فهو يتحداهم جميعاً <فَكِيدُونِي جَمِيعاً>[85]، ويعلن البراءة عما يشركون من دون الله، ويشفع هذا التحدي وإعلان البراءة بالتوكل على الله وحده <إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم>[86]، وعندما يتوكل الإنسان على الله لا يعجزه شيء.
وفي نفس السورة نقرأ كلاماً لشعيب (ع) يواجه به قومه، ويعلن عليهم أن كل توفيقه في حركته ومواجهته لقومه من عند الله وبالتوكل على الله <ومَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ>[87].
والله تعالى يعصم المتوكلين من سلطان الشيطان ونفوذه <إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ>[88].
تُصيبُ بِرَحْمَتِكَ مَنْ تَشاءُ وَتَهْدي بِكَرامَتِكَ مَنْ تُحِبُّ
الرحمة والهداية من عند الله، يعطيها من يشاء، ومن يحب من عباده، وليس أحد غير الله يهب خلق الله الرحمة والهداية. والله تعالى يختص بالرحمة والهداية من يشاء من عباده <يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ>[89]. لا شك في هذا ولا ذاك. ولكن مشيئة الله تعالى هي السنن والقوانين الحاكمة في هذا الكون العريض، ولا شيء من هذه السنن والقوانين خارجة من مشيئة الله وإرادته. والقرآن يعكس لنا سنن الله تعالى فيما يحب ويشاء، وفيمن يختص برحمته. فإذا طلبنا رحمة الله تعالى وهدايته فعلينا أن نطلبهما من منازل رحمته وهدايته.
وإذا أردنا أن نعرف منازل الرحمة والهداية الإلهية فعلينا أن نتعرف عليها من خلال كتاب الله.
إن الإيمان والاعتصام بالله من أعظم منازل الرحمة والهداية. <فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً>[90].
فمن شاء رحمة الله وفضله وهدايته فعليه أن يسلك سبيلاً إلى الإيمان والاعتصام بالله.
ومن أراد رحمة الله وهدايته فعليه أن يضع نفسه في مواضع الذين يحبهم الله تعالى.
وإذا أحببت ان تعرف الذين يحبهم الله فاقرأ هذه الآيات من الذكر الحكيم:
<إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ>[91].
<إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ>[92].
<وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ>[93].
<فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ>[94].
<وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ>[95].
<وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ>[96].
<إنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ>[97].
<إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ>[98].
<إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ>[99].
<وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ>[100].
<إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ>[101].
وإذا عرفت الذين يحبهم الله، فلابد أن تعرف الذين يكرههم الله تعالى، لتكتمل عندك صورة منازل الرحمة والهداية بوجهيها الإيجابي والسلبي.
<إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ>[102].
<وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ>[103].
<وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ>[104].
<فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ>[105].
<وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ>[106].
<إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً>[107].
<إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً>[108].
<لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ>[109].
<وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ>[110].
<إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ>[111].
<إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ>[112].
<إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ>[113].
<إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ>[114].
<إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ>[115].
<إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ>[116].
فَلَكَ الْحَمْدُ عَلى ما نَقَّيْتَ مِنَ الشِّرْكِ قَلْبي
تنقية القلوب من الشرك من مصاديق هداية الله تعالى لعباده، ولولا أن الله تعالى ينقّي قلوب عباده من الشرك، فلا يكاد يخلص القلب من الشرك، فإن حركة الشرك في القلوب أخفى من دبيب النمل على صخرة سوداء في ظلمة الليل، كما في الحديث. ولا يسلم للإنسان قلبه من نفوذ الشرك إلاّ إذا هداه الله للتوحيد، وأخلص قلبه من الشرك. واذا أراد العبد أن ينقي الله تعالى قلبه من الشرك، ويخلصه من أوضاره وأدرانه، فعليه أن يدخل حيث يحب الله من منازل رحمته، ويخرج من حيث يكره الله.
وَلَكَ الْحَمْدُ عَلى بَسْطِ لِساني، اَفَبِلِساني هذَا الْكالِّ اَشْكُرُكَ، اَمْ بِغايَةِ جُهْدي في عَمَلي اُرْضيكَ؟ وَما قَدْرُ لِساني يا رَبِّ في جَنْبِ شُكْرِكَ
إن الشكر أمارة وعي نعم الله، وسلامة الفطرة. والكفران ضد الشكر، علامة الجحود والنكران والجهالة، ويأمرنا الله تعالى بالشكر وينهانا عن الكفران والجحود <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ>[117]. <وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ>[118].
ولكن أكثر الناس جاحدون كافرون بنعم الله.
<إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ>[119].
وأما الذين يحسنون التعامل مع نعم الله تعالى ويشكرون الله، فهم قلة من الناس. <وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ>[120]. <قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ>[121].
وهو تعالى غني عن شكر عباده، وإنما يعود الشكر إلى نفوس الشاكرين أنفسهم، فيكون سبباً لسلامة فطرتهم، وتكامل وعيهم، ويكسبهم الأدب في التعامل مع نعم الله، وكل ذلك ينفع الإنسان، ويصلحه ويجعله في منازل رحمة الله. يقول تعالى: <وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ>[122].
وهو من أسباب زيادة النعمة، ومهما شكر الإنسان ربه زاده تعالى نعمة على النعمة، وضاعف له النعمة.
<وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ>[123].
ولكن نعم الله تعالى لا تحصى. <وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا>[124].
وليس بوسع الإنسان أن يشكر الله تعالى. وكيف يسع المحدود أن يشكر غير المحدود من نعم الله تعالى التي لا تحصى، سواء كان شكر العبد لربه بلسانه أم بجهده وعمله.
يقول زين العابدين (ع): أفبلساني هذا الكال أشكرك، أم بغاية جهدي أرضيك، وما قدر لساني يا رب في جنب شكرك؟ وما قدر عملي في جنب نعمك وإحسانك إليّ؟
وكيف يشكر الإنسان ربه حق الشكر؟ وكلما شكر الله تعالى على نعمة من نعمه فهو رزق جديد يرزقه الله تعالى.
فإن شكر الله من أفضل نعم الله تعالى لعباده يرزقه الله من يشاء من عباده.
والصالحون من ذوي الوعي والمعرفة من عباد الله يطلبون من الله أن يوزعهم شكر نعمه. <وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ>[125].
فكيف يتأتى للعبد المحدود أن يشكر نعم الله؟
وقد ورد في بعض الأحاديث أن موسى بن عمران (ع) قال: إلهي كيف أشكرك وكلما شكرتك فهو رزق جديد ونعمة جديدة، من رزقك يستوجب شكراً جديداً.
عن الإمام الصادق (ع): أوحى الله تعالى إلى موسى (ع): يا موسى، اشكرني حق شكري. فقال: يا رب، كيف أشكرك حق شكرك؟ وليس من شكر أشكرك به إلاّ وأنت أنعمت به علي. فقال: شكرتني حق شكري حين علمت أن ذلك مني[126].
وَما قَدْرُ عَمَلي في جَنْبِ نِعَمِكَ وَاِحْسانِكَ، اِلهي اِنَّ جُودَكَ بَسَطَ اَمَلي، وَشُكْرَكَ قَبِلَ عَمَلي
وإذ يعلن العبد عجزه من شكر الله تعالى، عن نعمه المتصلة المتواصلة، غير المحدودة .. لا يبقى له إلاّ أن يثق بجوده وكرمه تعالى.
وإذ يعلن العبد عن عجزه في مقابلة الجميل النازل إليه من عند الله بالشكر الصاعد منه إلى الله، فلا يبقى للعبد من بضاعة يقابل بها رحمة الله ونعمه غير الثقة بجوده ورحمته تعالى. (إلهي أن جودك بسط أملي).
وإذ يعلن عجزه عن مقابلة نعم الله تعالى النازلة إليه بالعمل الصالح الصاعد إلى الله، ويعلم أن ليس له من عمل صالح يصعد إلى الله، يقابل به نعمه وآلاءه تبارك وتعالى، فلا يبقى له من أمل في قبول بضاعته الكاسدة الوضيعة، إلاّ ثقته بأن الله تعالى شكور كريم، يشكر لعبده العمل الحقير القليل، ويتقبله منه. فإن من أسماء الله الشاكر الشكور.
<فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ>[127]. <وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ>[128].
(وما قدر لساني يا ربّ في جنب شكرك).
أي ماذا يستطيع لساني أن يؤديه في جانب ما يجب عليه من شكرك. (وما قدر عملي في جنب نعمك)، أي ما قيمة عملي الوضيع بالمقارنة إلى نعمك العظيمة. (إلاّ أن جودك بسط أملي، وشكرك قبل عملي).
سَيِّدي اِلَيْكَ رَغْبَتي، وَاِلَيْكَ رَهْبَتي، وَاِلَيْكَ تَأميلي
هذه ثلاثة ألوان من طيف العلاقة بالله: (الرغبة) و(الرهبة) و(الرجاء) الأمل.
والعلاقة بالله والتعامل مع الله طيف متعدد الألوان، من الرغبة ومن الرهبة، ومن الرجاء والأمل. والعلاقة بالله إذا كانت وحدانية اللون لا تكون متكاملة، كمن يبني علاقته بالله على أساس الخوف وحده، أو الرجاء وحده، وتتكامل عندما تكون متعددة الألوان.
وفي هذه الفقرة يتوجه الإمام علي بن الحسين (ع) إلى الله بالرهبة والرغبة والأمل.
وهو مقتبس من الذكر الحكيم. فقد ورد في سورة الأنبياء: 90 عن علاقة الأنبياء (ع) بالله: <إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ>.
إن دعاء الأنبياء (ع) مزيج من الرغبة والرهبة والخشوع، ومن شروط السلوك الصحيح إلى الله أن يتعادل الخوف والرغبة والرجاء في نفس الإنسان، فإذا طغى الخوف على الرجاء، أو العكس، فقدَ الإنسان المنهج الصحيح للسلوك إلى الله.
وَقَدْ ساقَني اِلَيْكَ اَمَلي
إن الأمل لا يغني عن العمل، ولابد أن يتقدم الإنسان إلى الله تعالى بالعمل والأمل معاً .. وهذه النقطة من حقائق مناهج السلوك إلى الله.
ولكن بشرط أن يكوّن ثقة الإنسان بأمله في الله، وليس بعمله.
فإنه إذا وضع ثقته في عمله تملّكه العجب، فكان حجاباً بينه وبين الله تعالى.
وأفضل السلوك إلى الله أن يسوقه إليه تعالى (أمله)، ويكون ثقته بأمله في الله، وليس بعمله وجهده، في حركته إلى الله.
وَعَلَيْكَ يا واحِدي عَكَفَتْ هِمَّتي
وليس لهمة الإنسان غاية إلاّ الله تعالى، وكل غاية أخرى لهمة الإنسان سراب خادع مضلل، فلا يصحّ للإنسان أن يعكف بهمته على غير الله تعالى. فإن جهد الإنسان وعمله متناهيان محدودان، ولا حدود لهمته ورجائه، وليس شيء يصلح أن يكون غاية لهمة الإنسان وهمه ورجائه غير الله تعالى.
ولا يصحّ أن يشفع الإنسان أحداً أو شيئاً إلى جانب الله تعالى لهمته، فإن الإنسان لا يستطيع أن ينال من معرفة الله وقربه إلاّ إذا عكف عليه بكل جهده وهمّته، وهذا هو معنى (العكوف)، إلاّ أن يكون في امتداد الله.
ولا يخفى لطف نداء (يا واحدي) في هذا السياق، فإنه سياق العكوف على الله، والعكوف لا يقبل أكثر من الواحد.
وَفيـما عِنْدَكَ انْبَسَطَتْ رَغْبَتي
وإذا كان لا يصلح لهمة الإنسان شيء إلاّ أن يعكف بهمته على الله تعالى، دون غيره مما يقصده الناس بهمهم، فلا يصح أن يبسط الإنسان رغبته فيما عند الناس من متاع الحياة الدنيا، ولا يصلح لرغبه الإنسان أن تنبسط إلاّ فيما عند الله، فإن ما عند الناس سراب مضلل وما عند الله باق ينفع ويمكث في الارض. وعباد الله من أصحاب المعرفة تنكمش رغباتهم عما في أيدي الناس، وتنبسط فيما عند الله. وهذا الانبساط والانكماش في الرغبات من آثار (المعرفة).
وَلَكَ خالِصُ رَجائي وَخَوْفي
قلنا لابد من معادلة الخوف والرجاء في نفس الإنسان في العلاقة بالله والتعامل مع الله.
وهنا نضيف على ما تقدم أن اقتران الخوف والرجاء ليس من قبيل خليط من الرجاء والخوف، بعضه خوف وبعضه رجاء، .. فإن العلاقة التبعيضية بالله بهذه الصورة علاقة غير صحيحة، وإنما العلاقة الصحيحة خلوص كل من الخوف لله، فتكون العلاقة قائمة على الخوف الخالص لله، وليس الخوف التبعيضي، وعلى الرجاء الخالص لله، وليس الرجاء التبعيضي، ثم يكون الخوف الخالص رجاءً خالصاً والرجاء الخالص خوفاً خالصاً.
وهذا الخلوص في الخوف والرجاء، وفي الرغبة والرهبة، من خصائص علاقة العبد بالله، وتعامله مع الله.
يقول الإمام (ع): (ولك خالص رجائي وخوفي).
وَبِكَ أَنِسَتْ مَحَبَّتي
الحب شوق وأنس .. شوق في البعد والهجر، وأنس في القرب والخلوة. وليالي المشتاقين طويلة، وليالي الواصلين قصيرة سريعة. ولكن المحب – مهما يكن موقعه من حبيبه – هجر أو قرب، يأنس بحبّه، ويركن إلى حبّه، ويجد في حبه إنسا لا يستبدله بأيّة حالة أخرى. وعجيب أمر المحبين الصادقين في حبهم، إنهم لا يستبدلون عذاب حبهم، ولوعة هيامهم بما يفرح ويلهو به الناس.
ولو طلب منه، وهو يتلوّع في فراق الحبيب وهجره، أن يسلب عنه هذا الحب الذي يذيقه مرارة الهجر، لما اختار عن الحب بديلاً، يأنس بحبّه الذي يسلبه القرار والراحة والاستقرار، كما تأنس الفراشة بشعلة الشمعة التي تحرقها فلا تزال تحوم حولها حتى تحترق.
وَاِلَيْكَ اَلْقَيْتُ بِيَدي
عندما يطلب الإنسان امراً من الله يرفع يديه إلى الله، وهو تعبير عن حاجة السائل وفقره إلى الله .. والسائل وضيع والمسؤول رفيع، فيرفع يديه إلى الله وهو موقع الوضيع من الرفيع.
ولكن التعبير هنا (واليك القيت بيدي) وهو يختلف عن (إليك رفعت يدي).
ومعنى هذه الكلمة: حالة اضطرار السائل بين يدي المسؤول.
فان السائل اذا لم يجد سبيلاً لقضاء حاجته عند غير المسؤول يلقي بنفسه بين يديه، ويلقي بيديه اليه تعبيراً عن اضطراره اليه.
وهذه الكلمة هنا للتعبير عن الاضطرار، كما ان التعبير بـ (اليك رفعت يدي) يوحي بفقر السائل وغنى المسؤول. وموقع الفقير وضيع، وموقع الغنى رفيع.
وَبِحَبْلِ طاعَتِكَ مَدَدْتُ رَهْبَتي
بكل حبل من حبال الله يعتصم الإنسان ويتوسل بما يناسبه من الحالات.
فيعتصم بحبل غنى الله بيد الرغبة والرجاء، ويعتصم بحبل طاعة الله بيد الرهبة.
يا مَوْلايَ بِذِكْرِكَ عاشَ قَلْبي
من صفات الله الحسنى (المولى) وقد ذكر هذه الصفة من صفات الله الحسنى في القران في مواقع عديدة:
<فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ>[129].
وفي سورة الحج <هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ>[130].
وفي آل عمران: 150 <بل الله مولاكم وهو خير الناصرين>.
كما ورد في القرآن من نفس الاشتقاق (الولي)، يقول تعالى: <وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ>[131] وبنفس المعنى (وهو ولي حميد) <وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ>[132] <وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا>[133] بمعنى اللصيق الذي لا ينفك عن الشيء، وكأنّه أقرب شيء إليه والصقه به.
والأصل في هذه الاشتقاقات (الأولى)، ومولاهم، يعني الأولى بهم، ووليّهم يعني الأولى بهم .. والمعاني المذكورة للمولى والولي في اللغة تأتي في هذا الامتداد بمناسبة أو أخرى ليس موضع ذكرها هنا .. وقد ورد في القران في نفس المعنى <مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ>: أي أولى بهم، كما يقول المفسرون.
وفي أواخر سورة البقرة:286 <أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ> أي أنت أولی بنا.
وأولوية الله تعالى على عباده مطلقة، فهو أولى بهم من كل شخص، ومن كل شيء، أولى بهم، وبدعائهم، وشكرهم، ومخافتهم، ومهابتهم، وحبهم، وعبادتهم، وخضوعهم، وتصرفهم، وسؤالهم، وحاجتهم .. وكل ولاية أخرى في حياة الإنسان لا بد ان تكون في امتداد هذه الاولوية المطلقة، وكل ولاية لا تقع في هذا الامتداد، فهي ولاية باطلة بالتأكيد .. ومنها ولاية رسول الله (ص) على الناس: <النَّبيُّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنفُسهِمْ>[134] فهي امتداد لولاية الله، وبإذن الله وبأمره، ولولا ذلك لم تكن هذه الولاية شرعية، ومنها ولاية علي بن أبي طالب (ع) يوم الغدير التي أعلنها رسول الله (ص) على المسلمين، بعد أن ذكّرهم بـ ألست إلى بالمؤمنين من أنفسهم، إشارة إلى آية الحجرات <النَّبيُّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنفُسهِمْ>، وإذا أقرّوا بذلك، ألزمهم بولاية الإمام علي (ع) من بعده، امتداداً لولايته فقال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، ثم تعاقبت هذه الولاية في حلقات متسلسلة في نجليه الحسن والحسين؟عهما؟، ثم في ذرية الحسين (ع) من آل بيت النبي (ص) كابراً من بعد كابر، في حلقات متسلسلة متماسكة متعاقبة.
وبين الولايتين: الأصل والفرع فرقان أساسيان.
الفرق الأول: أن الولايات الفرعية، وهي ولايات الناس بعضهم على بعض تأتي في امتداد تلك الولاية المطلقة دائماً، وتكتسب شرعيتها منها بشكل صريح، ولولا هذا الامتداد الصريح لولاية الله، لا يمتلك أحد ولاية شرعية على أحد، إطلاقاً.
وما يقول الناس اليوم، من حق الناس في (المذاهب الديمقراطية) في تخويل بعضهم لبعض الولاية على أنفسهم ضمن الأنظمة الديمقراطية المعروفة لا يعتمد على أساس من العقل والدين والعلم قط. ولم يجد دعاة المذهب الديمقراطي لحد اليوم سنداً علمياً لإسناد هذه الولاية إلى الناس من دون إذن الله، سواء كان إذناً عاماً، أو إذناً خاصاً، لا فرق.
وهذه نقطة أساسية هامة في هذه المسألة نشير إليها ها هنا، وهي بحاجة إلى كثير من التوقف والتأمّل، وقد تحدثنا عنها في كتابنا (المدخل إلى حديث الغدير) بتفصيل.
والفرق الثاني ان كل ولاية فرعية محدودة بشأن من شؤون القيمومة على الإنسان، أما الولاية المطلقة التي لا حدود لها في القيمومة على الإنسان، فهي ولاية الله، التي لا يحدها شيء في التكوين والتشريع.
ومن الخطابات المحبّبة إلى الله تعالى من عباده (مولاي يا مولاي)، كما هي محببة إلى الصالحين من عباده، أن ينادونه بهذا الخطاب الجميل الرقيق الذي يعترف العبد به بولاية الله تعالى عليه في كل شيء، ثم يطلب منه ما يشاء من حاجاته بعد هذا الخطاب الرقيق.
وَبِمُناجاتِكَ بَرَّدْتُ اَلَمَ الْخَوْفِ عَنّي
الدعاء والمناجاة خطابان من العبد إلى الله والفرق بينهما أن (الدعاء) خطاب استغاثة واستنجاد وفزع، و(المناجاة) خطاب واصل قريب بين الحبيب، لا جزع فيه ولا فزع.
الخطاب الاول عن هجر وقلى، والخطاب الثاني عن قرب ونجوى، كما هو الظاهر من اشتقاق كلمة المناجاة من النجوى المتبادلة بين حبيبين.
في خطاب المناجاة يبث المحب شكواه إلى حبيبه عن أيام الهجر والبعد، ويقبل منه العتاب بعد العتاب، فإن العتاب يذهب بالجفاء (لك العتبى حتى ترضى).
وفي خطاب الدعاء يرفع النداء والعويل، ويستغيث، ويستصرخ، ويستنجد، وينادي. في الدعاء صراخ وهتاف، وفي المناجاة نجوى وهمس. في الدعاء تضرع والتماس، وفي المناجاة بث لشكوى الفراق، وقبول للعتاب. في الدعاء استنجاد وفزع، وفي خطاب المناجاة سكون واستقرار. في خطاب الدعاء شوق ولهفة عارمة، وفي خطاب المناجاة أنس وسكينة .. وشتّان ما بينهما .. ولكل منهما نكهة، ولا يغني أحدهما عن الآخر.
في الخطاب الأول (الدعاء) خوف وفزع للعاصين المستغفرين، وشوق ولهفة للمحبين عند الهجر والقلى.
وفي كل منهما حرقة. في الأول حرقة الفزع والخوف، وفي الثاني حرقة اللهفة والشوق.
وأما خطاب المناجاة ففيه برد السكون والأنس. برد السكون إلى عفو الله للعاصين الذين تقبّل الله توبتهم واستغاثتهم وآمنهم وآواهم عنده مأوى الآمنين، وبرد الوصال والوصول بعد الهجر والقلى، لمن تقبلهم الله بجواره <فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ>[135] <وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا>[136].
وكلاّ منهما يحتاج العبد في سلوكه إلى الله تعالى، ولا يغني أي منهما عن الآخر. ففي الطريق إلى الله لابد أن يتلوع السالك إلى الله بحرقة اللهفة والتضرع والاستغفار والإنابة والشوق، ولابد في الطريق إلى الله من برد السكون والوصول إلى جوار رحمة الله والأنس بلقاء الله.
نحن نجد في المأثور من أدعية أهل البيت (ع) استغاثة الدعاء وتضرعه، وسكون المناجاة في الخلوات وأنسه.
ومثال الأول في كلمات زين العابدين علي بن الحسين (ع) في دعاء (الحزين): (مولاي يا مولاي، أي الأهوال أتذكر، وأيها أنسى، ولو لم يكن إلاّ الموت لكفى، وكيف وما بعد الموت أعظم وأدهى، حتى متى وإلى متى، أقول لك العتبى مرة بعد أخرى، ثم لا تجد عندي صدقاً ولا وفاءً، فيا غوثاه ثم واغوثاه، بك يا الله، من هوى قد غلبني، ومن عدو قد استكلب عليّ، ومن دنيا قد تزينت لي، ومن نفس أمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربي .. يا قابل السحرة اقبلني، ارحمني يوم آتيك فرداً شاخصاً إليك بصري، مقلداً عملي، قد تبرّأ جميع الخلائق مني، نعم، وأبي وأمي، ومن كان له سعيي، فإن لم ترحمني فمن يرحمني، ومن يؤنس في القبر وحشتي، ومن يُنطق لساني إذا خلوت بعملي، وساءلتني عما أنت أعلم به مني، فإن قلت: نعم، فأين المهرب من عدلك، وإن قلت لم أفعل. قلت ألم أكن الشاهد. فعفوك عفوك يا مولاي قبل سرابيل القطران. عفوك عفوك يا مولاي قبل جهنم والنيران. عفوك عفوك يا مولاي قبل أن تُغلّ الأيدي إلى الأعناق).
ومثال الثاني في كلمات زين العابدين (ع) من المناجاة:
اِلـهي فَاجْعَلْنا مِمَّنِ اصْطَفَيْتَهُ لِقُرْبِكَ وَوِلايَتِكَ، وَاَخْلَصْتَهُ لِوُدِّكَ وَمَحَبَّتِكَ، وَشَوَّقْتَهُ إلى لِقائِكَ، وَرَضَّيْتَهُ بِقَضائِكَ، وَمَنَحْتَهُ بِالنَّظَرِ إلى وَجْهِكَ، وَحَبَوْتَهُ بِرِضاكَ، وَاَعَذْتَهُ مِنْ هَجْرِكَ وَقِلاكَ، وَبَوَّأتَهُ مَقْعَدَ الصِّدْقِ في جِوارِكَ، وَخَصَصْتَهُ بِمَعْرِفَتِكَ، وَاَهَّلْتَهُ لِعِبادَتِكَ، وَهَيَّمْتَ قَلْبَهُ لاِرادَتِكَ، وَاجْتَبَيْتَهُ لِمُشاهَدَتِكَ، وَاَخْلَيْتَ وَجْهَهُ لَكَ، وَفَرَّغْتَ فُؤادَهُ لِحُبِّكَ، وَرَغَّبْتَهُ فيـما عِنْدَكَ، .. وَقَطَعْتَ عَنْهُ كُلَّ شَيْء يَقْطَعُهُ عَنْكَ.
يا مُنى قُلُوبِ الْمُشْتاقينَ، وَيا غايَةَ آمالِ الْمحِبّينَ، اَسْاَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ كُلِّ عَمَل يُوصِلُني إلى قُرْبِكَ، وَاَنْ تَجْعَلَكَ اَحَبَّ اِلَيَّ مِمّا سِواكَ .. وَامْنُنْ بِالنَّظَرِ اِلَيْكَ عَلَيَّ، وَانْظُرْ بِعَيْنِ الْوُدِّ وَالْعَطْفِ اِلَيّ .. إلى آخر المناجاة.
وبين خطاب الاستغاثة في المثال الأول، وحنين الأنس والحب في الثاني فرق واضح .. ولابد للعبد في مسيرة الكمال الصاعدة إلى الله من هذا وذاك، ولا ينال الإنسان في حركته إلى الله لقاء الله ورضوانه ومعرفته وأنسه وجواره إلاّ بهذا الخطاب وذاك معاً، ينقلب من الخطاب الأول إلى الثاني، وينقلب من الثاني إلى الأول.
إن في ذكر الله تعالى، والإقبال عليه عيش القلوب، كما ان في نسيان الله والاعراض عنه موت القلوب. وللقلوب سلامة ومرض وموت كما للأبدان.
عن سلامة القلوب يقول تعالى:
<يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ 88 إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ>[137].
وهذه القلوب هي التي امتحنها الله للتقوى ففازوا في الامتحان:
<أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى>[138].
وإمارة سلامة القلوب الطمأنينة والسكينة:
<الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ>[139].
والوجل من الله:
<إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ>[140].
وهناك القلوب المريضة: <فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً>[141].
ومرض القلب من الرجس الذي يكتسبه المريض لقلبه، وإذا لم يبادر إلى التعافي من هذا الرجس، يزيده الله رجساً إلى رجسه:
<وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً>[142].
<فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً>[143].
وهناك القلوب القاسية، وهي القلوب الميتة التي فقدت خاصية الأخذ والعطاء، وهي خاصية القلوب الحية السليمة:
يقول تعالى: <وَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ>[144].
هذه القلوب القاسية لا تأخذ ولا تعطي، وهي خاصية فقدان الحياة في القلوب.
إن ذكر الله عيش القلب، ونور القلب، ومهما كان الإنسان يذكر الله كان قلبه أكثر حيوية ونوراً، وأكثر عروجاً إلى الله.
وإذا مات قلب الإنسان فقد كل مواهب الله تعالى، فإن (القلب الجانحة)، كالقلب (الجارحة).
فإذا مات القلب الجارحة لدى الإنسان، مات سمعه، وبصره، وعقله، وأطرافه، وحواسه، ولم يقدر على شيء من الحركة.
كذلك القلب (الجانحة) إذا مات فقد الإنسان وعيه، وضميره، وبصيرته، وفؤاده، وقدرته على العروج إلى الله، ولم يبق له من الحياة إلاّ ما يتمتع به الدواب من الحياة. وأولئك شر الدواب:
<إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ>[145].
ومن يطلب حياة قلبه فعليه أن يصل قلبه بذكر الله، فإن ذكر الله حياة القلوب، والإعراض عن الله موت القلوب.
فَيا مَوْلايَ، وَيا مُؤَمَّلي وَيا مُنْتَهى سُؤْلي
ويا مؤملي ومنتهى سؤلي.
طلبات الإنسان كثيرة بعضها فوق بعض، ولكن كل سؤاله من الله، مهما كانت الوسائل التي تحرز له سؤله وطلبه.
وليس من سؤال وحاجة للإنسان يتحقق له من غير إذن الله.
وأعظم سؤال الإنسان من الله هو الله، ولن يسأل العباد من الله أعظم من هذا السؤال، فهو غاية سؤال السائلين وطلب الطالبين، وكل طلب الإنسان من عند الله ينفذ إلاّ إذا كان الإنسان يطلب الله من الله.
وهذا سؤال عريض مطلق لا حدّ له ولا غاية له .. فيسأل العبد ربه أن يجعله من الشاكرين له، وأن يرزقه معرفته، وأن يرزقه مغفرته، وحبه، وخوفه، وعبادته، وتوحيده، وان يهبه كذلك شكر الله له، (إن الله غفور شكور) وأن يرزقه مغفرته، (يا خير الغافرين)، وأن يرزقه ستره فهو خير الساترين.
فَرِّقْ بَيْني وَبَيْنَ ذَنْبِيَ الْمانِعِ لي مِنْ لُزُومِ طاعَتِكَ
إن الذنوب تحجب الإنسان عن معرفة الله وطاعة الله، وتعيقه عن العروج إلى الله، وهي إحدى اثنتين يعيقان الإنسان عن الله، والمعيق الثاني هو حب الدنيا والتعلق بها.
فإذا تحرّر الإنسان عن هذا وذاك، لم يحجبه عن الله حاجب، وكان أسرع شيء إلى رضوان الله ورحمته ولقائه.
وقد ورد في مقدمة الدعاء الذي رواه كميل بن زياد (رحمه الله)، عن أمير المؤمنين (ع): اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ، اَللّـهُمَّ اغْفِـرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ، اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُغَيِّـرُ النِّعَمَ، اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لي الذُّنُوبَ الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاءَ، اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ الْبَلاءَ.
فَاِنَّما اَسْاَلُكَ لِقَديمِ الرَّجاءِ فيكَ، وَعَظيمِ الطَّمَعِ مِنْكَ، الَّذي اَوْجَبْتَهُ عَلى نَفْسِكَمِنَ الرَّأفَةِ وَالرَّحْمَةِ.
أقدم رجاء العبد في الله، وأعظم طمعه منه، وهو سبحانه أوجب على نفسه هذه الرحمة الواسعة التي تجتذب رجاء الراجين في رحمته وطمع الطامعين في فضله وكرمه.
فهو سبحانه <كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ>[146].
ويتحول الخطاب هنا من الخوف إلى الرجاء: (يا مؤملي)، و(يا منتهى سؤلي)، (إنما أسألك لعظيم الرجاء فيك)، وهو يناسب مقام المناجاة والقرب .. والخطاب الصاعد إلى الله ينبغي أن يتحول من الخوف إلى الرجاء ومن الرغبة إلى الرهبة .. إن الخطاب إذا كان يعكس لوناً واحداً من العلاقة بالله، لا يفتح منافذ قلب العبد جميعاً، وأمّا عندما يتحول من الخوف إلى الرجاء، ومن الرهبة إلى الرغبة والحب، ومن الشوق إلى الأنس، يكون ذلك أدعى لانفتاح منافذ القلب جميعاً على الله.
إن خطاب الخوف والرهبة حق، إلاّ أنه يلامس طرفاً من أطراف النفس، وخطاب الرجاء والرغبة يلامس طرفاً آخر من أطراف النفس، فإذا اجتمع في خطاب الإنسان لله تعالى: الرهبة، والرغبة، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والإنابة، والاخبات .. كان الخطاب يلامس كل وتر وتر في نفس الإنسان.
فَالْاَمْرُ لَكَ، وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيالُكَ وَفي قَبْضَتِكَ، وَكُلُّ شَيْء خاضِعٌ لَكَ تَبارَكْتَ يا رَبَّ الْعالَمينَ
وتتسلسل حلقات هذا الخطاب إلى التوحيد الخالص:
(فالأمر لك وحدك لا شريك): يقول تعالى: <قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ>[147].
(والخلق كلهم عيالك، وفي قبضتك، وكلّ شيء خاضع لك تباركت يا رب العالمين).
يقول تعالى: <أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ>[148].
وهذه الرقائق التوحيدية في نهاية هذا المقطع من دعاء الإمام (ع) تعميق لحالة الرهبة والرغبة في نفس العبد إلى الله.
اِلهي ارْحَمْني اِذَا انْقَطَعَتْ حُجَّتي وَكَلَّ عَنْ جَوابِكَ لِساني، وَطاشَ عِنْدَ سُؤالِكَ اِيّايَ لُبّي
هذا هو موقف الحساب والسؤال، وهو من المواقف الصعبة يوم القيامة.
وفي موقف الحساب تنقطع حجج الإنسان، ولا تبقى له حجة بين يدي رب العالمين، لأن كتابه وحسابه معه في ذلك اليوم الرهيب.
<وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً 13 اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً>[149].
يومئذٍ يقرأ الإنسان بنفسه كتابه، ويحاسب نفسه، فلا يجد سبيلاً للهروب من كتابه وحسابه.
ويقول المجرمون يومئذٍ: <يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً>[150].
والناس يومئذٍ ثلاثة: فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه، وأولئك هم المؤمنون الذين ينقلبون إلى رحمة الله مسرورين بما يرزقهم الله من رحمته.
<فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ 7 فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً 8 وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً>[151].
ومنهم من يلقى كتابه بشماله، وأولئك المذنبون المجرمون، الذين يتمنون يومئذٍ أن تكون موتتهم هي القاضية عليهم.
<وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ 25 وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ 26 يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ 27 مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ 28 هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ>[152].
وشر من هذه الطائفة من المجرمين من يلقى إليه كتابه من وراء ظهره، أولئك يدعون ثبوراً، ويصلون سعيراً.
<وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ 10 فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً 11 وَيَصْلَى سَعِيراً 12 إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً>[153].
ولا يخفى يوم القيامة على الله تعالى شيء من أمر الإنسان، ولا يستطيع أن يخفي على الله تعالى خافية من أعماله:
<يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ>[154].
والله سريع الحساب:
<لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ>[155].
وهو موقف السؤال الرهيب:
<فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ 92 عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ>[156].
<وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ>[157].
<ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ>[158].
<وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ>[159].
وهذا هو الموقف الذي يقول عنه زين العابدين (ع): (وكلّ عن جوابك لساني، وطاش عند سؤالي لبّي).
فَيا عَظيمَ رَجائي، لا تُخَيِّبْني اِذَا اشْتَدَّتْ فاقَتي، وَلا تَرُدَّني لِجَهْلي، وَلا تَمْنَعْني لِقِلَّةِ صَبْري، اَعْطِني لِفَقْري، وَارْحَمْني لِضَعْفي
إن الله تعالى كما يعطي الإنسان بعمله وجهده، كذلك يعطيه لفقره وضعفه وحاجته.
ورحمة الله تنزل على مواضع الطاعة والعمل والجهد والإخلاص، والتقوى، كما ينزل على مواضع الفقر والحاجة والضعف.
فإذا لم يجد العبد في عمله وجهده موضعاً يليق بهبوط رحمة الله، وهو كذلك، طلب من الله تعالى أن يعطيه لفقره وضعفه وحاجته.
ولكي يجتذب العبد رحمة الله تعالى بفقره وحاجته وفاقته لابد أن يكون إحساسه بالفاقة والفقر إلى الله إحساساً حقيقياً واقعياً، وليس تظاهراً بالفقر والحاجة فقط.
والله تعالى يعطي عباده بالطاعة والاعمال الصالحة، كما يرزقهم المغفرة بسيئاتهم وذنوبهم. ولكن شرط الأول أن لا يأخذ العبد (العجب) بأعماله، فإن العجب يفسد العمل ويحبطه، وشرط الثاني أن يشعر بالندم والخجل من سوء أعماله شعوراً حقيقياً، عندئذٍ تستنزل الطاعة والأعمال الصالحة رحمة الله تعالى من خزائن رحمته الواسعة، وتستنزل ذنوبه وسيئاته – إذا اقترنت بالتوبة الصادقة والندم والخجل – مغفرته ورحمته <فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ>[160].
وكان من مناجاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في مسجد الكوفة .. في ظلمات الليل:
(مولاي يا مولاي أنت المولى وأنا العبد، وهل يرحم العبد إلاّ المولى. مولاي يا مولاي أنت المالك، وأنا المملوك؟ وهل يرحم المملوك إلاّ المالك؟ مولاي يا مولاي أنت العزيز وأنا الذليل، وهل يرحم الذليل إلاّ العزيز؟ مولاي يا مولاي أنت العظيم وأنا الحقير، وهل يرحم الحقير إلاّ العظيم؟ مولاي يا مولاي أنت القوي وأنا الضعيف، وهل يرحم الضعيف إلاّ القوي؟ مولاي يا مولاي أنت الغني وأنا الفقير، وهل يرحم الفقير إلاّ الغني .. الخ الدعاء).
وكذلك يعطي الله تعالى عبده بفقره، وحاجته، وضعفه، وذله، وفاقته، ومرضه، وذنوبه التي ندم منها وتاب عنها.
سَيِّدي عَلَيْكَ مُعْتَمَدي ومعوّلي
هذه سلسلة من تعلقات العبد وعلاقته بالله تعالى، والأساس الذي تصدر عنه هذه العلاقات هو العبودية والفقر إلى الله.
- [1] العلق: 6
- [2] الأنفال: 11
- [3] غافر: 13
- [4] الشورى: 27
- [5] الرعد: 17
- [6] الزمر: 6
- [7] الأعراف: 26
- [8] الحديد: 25
- [9] النبأ: 14
- [10] الفتح: 4
- [11] الفتح: 26
- [12] القصص: 24
- [13] النساء: 174
- [14] الأنعام: 92
- [15] الأنعام: 155
- [16] الأنبياء: 50
- [17] فصلت: 30
- [18] الحجر: 21
- [19] المائدة: 119
- [20] آل عمران: 31
- [21] البقرة: 152
- [22] إحیاء العلوم: ج1، ص134
- [23] كنز العمال: 4349
- [24] نهج البلاغة: الحكمة 21
- [25] بحار الأنوار: ج75، ص113
- [26] الزمر: 56
- [27] العلق: 5
- [28] النحل: 78
- [29] الليل: 12
- [30] الضحى: 7
- [31] الروم: 54
- [32] البقرة: 36
- [33] الفلق: 5
- [34] الضحى: 7
- [35] الليل: 12
- [36] يونس: 62
- [37] فاطر: 15
- [38] الروم: 54
- [39] الفاطر: 10
- [40] الشعراء: 78-82
- [41] النساء: 108
- [42] ق: 18
- [43] معالم الزلفى للمحدث البحراني: 34
- [44] الأحزاب: 53
- [45] المائدة: 54
- [46] الروم: 10
- [47] أي زينتها لي نفسي وجمّلتها، فلم انتبه لقبحها، وخفي عليّ قبحها، وغلب هواي عقلي.
- [48] الانفطار: 6
- [49] نهج البلاغة: الحكمة 112
- [50] يعني سعيت إلى معصيتك بجهدي وإرادتي وإجرامي وليس لي من عذر اعتذر به.
- [51] هود: 63
- [52] الكهف: 48
- [53] الزمر: 53
- [54] الإسراء: 13-14
- [55] المائدة: 35
- [56] الواقعة: 77-78
- [57] البروج: 21-22
- [58] الحشر: 21
- [59] الرعد: 28
- [60] الفتح: 11
- [61] مستدرك الوسائل: ج5، ص193
- [62] المحجة البیضاء في تهذیب الأحياء: ج2، ص296
- [63] مفاتيح الجنان
- [64] بحار الأنوار، ج75، ص173
- [65] دعاء كميل
- [66] نهج البلاغة
- [67] بحار الأنوار: ج 73، ص 162
- [68] الروم: 44
- [69] الحج: 1-2
- [70] لقمان: 33
- [71] القيامة: 26-30
- [72] البقرة: 28
- [73] مريم: 62
- [74] الممتحنة: 13
- [75] الحج: 7
- [76] يس: 52
- [77] المجادلة: 6
- [78] الأنعام: 31
- [79] فاطر: 18
- [80] عبس: 34-36
- [81] الحج: 1-2
- [82] آل عمران: 106
- [83] الغاشية: 1-15
- [84] هود: 54-56
- [85] هود: 55
- [86] هود: 56
- [87] هود: 88
- [88] النحل: 99
- [89] آل عمران: 74
- [90] النساء: 175
- [91] البقرة: 195
- [92] البقرة: 222
- [93] البقرة: 222
- [94] آل عمران: 76
- [95] المائدة: 93
- [96] آل عمران: 146
- [97] آل عمران: 159
- [98] المائدة: 42
- [99] التوبة: 4
- [100] التوبة: 108
- [101] الصف: 4
- [102] البقرة: 190
- [103] البقرة: 205
- [104] البقرة: 276
- [105] آل عمران: 32
- [106] آل عمران: 57
- [107] النساء: 36
- [108] النساء: 107
- [109] النساء: 148
- [110] المائدة: 64
- [111] المائدة: 87
- [112] الأنعام: 141
- [113] الأنفال: 58
- [114] النحل: 23
- [115] الحج: 38
- [116] القصص: 76
- [117] البقرة: 172
- [118] البقرة: 152
- [119] البقرة: 243
- [120] سبأ: 13
- [121] الأعراف: 10 – المؤمنون: 78 – السجدة: 9 – الملك: 23
- [122] لقمان: 12
- [123] إبراهيم: 7
- [124] النحل: 18
- [125] النمل: 19
- [126] الكافي، ج2، ص98
- [127] البقرة: 158
- [128] التغابن: 17
- [129] الأنفال: 40
- [130] الحج: 78
- [131] آل عمران: 68
- [132] الجاثية: 19
- [133] النساء: 45
- [134] الأحزاب: 6
- [135] القمر: 55
- [136] الإنسان: 21
- [137] الشعراء: 88-89
- [138] الحجرات:3
- [139] الرعد: 28
- [140] الأنفال: 2
- [141] البقرة: 10
- [142] التوبة: 125
- [143] البقرة: 10
- [144] الزمر: 22
- [145] الأنفال: 22
- [146] الأنعام: 12
- [147] آل عمران: 154
- [148] الأعراف: 54
- [149] الإسراء: 13-14
- [150] الكهف: 49
- [151] الانشقاق: 7-9
- [152] الحاقة: 25-29
- [153] الانشقاق: 10-13
- [154] الحاقة: 18
- [155] إبراهيم: 51
- [156] الحجر: 92-93
- [157] النحل: 93
- [158] التكاثر: 8
- [159] الصافات: 24
- [160] الفرقان: 70