مواضيع

التحدي والتحدي الآخر

. ميلاد التحدي

لقد اقترنت ولادة هذا الدين منذ أول يوم بموجة من التحديات المتبادلة بين أنصاره وخصومه.

وكانت هذه الموجة في الأيام الأولى محدودة في منطقة ظهور هذا الدين في الجزيرة العربية… ولكن لم يمض على ظهور الإسلام في الجزيرة العربية خمسون عاماً حتى اتسعت دائرة هذه التحديات، وتجاوزت الجزيرة إلى الساحة المعمورة من الأرض، وشملت كل الحضارات والكيانات السياسية والحضارية القائمة يومئذٍ على وجه الأرض.

ثم امتدت هذه التحديات – على امتداد العصور – عصراً بعد عصر على مساحة الأرض كلها بين أنصاره وخصومه.

ولست أدري ماذا في هذا الدين حتى يثير كل هذه الأمواج العارمة من التحدي على امتداد التاريخ كله، وعلى امتداد كل الجغرافيا السياسية والحضارية على وجه الأرض؟!

2. التحدي الكبير

كانت كلمة (لا إله إلاّ الله) هي التحدي الكبير الذي رفعه هذا الدين في أوساط الجاهلية.

فقد تضمنت هذه الكلمة بشطريها أوسع تغيير وهدم وبناء في حياة الإنسان السياسية والثقافية.

تضمّن الشطر الأول من هذه الكلمة إلغاء كل سيادة وحاكمية على وجه الأرض في (التشريع، والتنفيذ، والقضاء).

وتضمن الشطر الثاني من هذه الكلمة حصر الحاكمية والسيادة والسلطة في حياة الإنسان في الله تعالى ومن أَذِن له الله بالولاية والسيادة في حياة الإنسان، في كل المساحات الثلاثة (التشريع، والتنفيذ، والقضاء).

وقد أدرك أقطاب الجاهلية – من اليوم الأول – هذا العمق العجيب، والتغيير الهائل الذي تحمله هذه الكلمة في حياة الناس، إنها تتضمن عملية هدم وتخريب واسعة لكل الحاكمية والسيادة القائمة على وجه الأرض، من دون الله، ولكل الحضارات والثقافات القائمة على وجه الأرض، من دون الثقافة والحضارة النابعتين من مصادر الوحي.

وتتضمن في الشطر الثاني تشييد كيان جديد قديم في حياة الإنسان في السيادة والحكم والتشريع والثقافة والحضارة، تعتمد التوحيد المطلق لله تعالى في كل سلطان وسيادة وحكم وتشريع وتثقيف.

3. التحدي الآخر

لقد أدرك أئمة الجاهلية يومئذٍ هذا العمق العجيب لهذه الكلمة، فلم يترددوا في إعلان الحرب بوجه هذا الدين ومواجهته ومقارعته بكل الوسائل والتحديات الممكنة لهم آنذاك.

وقد سمع أعرابي رسول الله (ص) يقرأ القرآن في أيام البأساء والضراء، في مكة وهو يدعو الناس إلى الإسلام، فقال: (إن هذا دين يغيظ الملوك ويغضبهم).

ولقد أدرك الأعرابي بفطرته طبيعة الصراع والتحدي المتبادل بين هذا الدين والملوك والحكام في الأرض.

ولما عمّ الإسلام الجزيرة العربية والمساحة المعمورة من الأرض، وبسط سلطانه، برغم كل هذه التحديات على الجزيرة العربية، وعلى الساحة المعمورة من الأرض، وأرغم كل العناصر الذين حاربوا هذا الدين على الدخول في حوزته وإعلان المبايعة لسلطانه… لم يتخلّ أولئك الذين حاربوا هذا الدين يومئذٍ عن عدوانهم وتحديهم ومكرهم بهذا الدين، وإنما تحول هذا المكر والتحدي والحرب إلى حالة جديدة في وسط المجتمع المسلم، وهي حالة النفاق.

وحالة النفاق امتداد لحالة الكفر، والتحدي الذي يحمله المنافقون لهذا الدين لا يختلف في شراسته وضراوته عن التحدي الذي يحمله الكفر، إلا في أسلوب التحدي والمواجهة وليس في جوهره وأُصوله.

وهكذا اقترنت ولادة هذا الدين بظهور موجة واسعة من التحديات المتقابلة بين أنصاره وخصومه، واتسعت دائرة هذه الموجة العارمة من التحدي الميداني الحضاري حتى شملت الساحة المعمورة من الأرض في آسيا وأفريقيا، ثم تواصلت حلقات هذا التحدي عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل إلى هذا العصر، يتوارث الأجيال من المعسكرَين المتصارعين (الإسلام والجاهلية) مزاولة هذا التحدي واستقباله على امتداد التاريخ.

4. المقارنة بين التحديين

وشتان بين التحديين… والفارق بينهما هو الفارق بين الحق والباطل، فكل منهما يتحدى الآخر: الحق يتحدى الباطل، والباطل يتحدى الحق، وشتان بينهما؛ إن الحق يتحدى الباطل بحول الله وقوته، أما الباطل فيتحدى الحق بحول الإنسان وضعفه وعجزه وجهله، وشتان بين هذا وذاك ﴿إِنَّهُمۡ يَكِيدُونَ كَيۡدًا * وَأَكِيدُ كَيۡدًا * فَمَهِّلِ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَمۡهِلۡهُمۡ رُوَيۡدَاۢ﴾[1].

﴿وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنٰا مَكْراً وَهُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ﴾[2].

﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّٰهُ وَاللّٰهُ خَيْرُ الْمٰاكِرِينَ﴾[3].

إن التحدي الأول، يتحرك على وجه الأرض تحت النور من خلال سنن الله تعالى، وبحول الله وقوته، وطبقاً للضوابط الشرعية والقيم الأخلاقية.

والتحدي الآخر، يتحرك في الظلمات، في ظلمات النفس والمجتمع، من دون ضوابط ولا قيم، والعاقبة في هذا الصراع للمتقين والصالحين.

﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَالْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[4].

﴿وَلَقَدْ كَتَبْنٰا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ الصّٰالِحُونَ﴾[5].

لكنّ كلاً من هذين التحديين يخلّف معاناة للطرف الآخر بطبيعة الحال، ويشترك كِلا المعسكرين في هذه المعاناة من غير فرق.

ولا تخصّ هذه المعاناة معسكر المؤمنين ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمٰا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّٰهِ مٰا لاٰ يَرْجُونَ﴾[6].

5. التحديات الإسلامية الكبيرة المعاصرة

حفل الشطر الأخير من القرن العشرين بتحديات إسلامية وسط دهشة الناس وحيرتهم في الغرب.

فقد شهد الشطر الأخير من هذا القرن قفزات نوعية كبيرة للوعي والصحوة الإسلامية، وشهد انتشار الحركات الإسلامية وتوسعها في آسيا، في أكثر الأقاليم، وفي أفريقيا في الشمال والغرب، وفي أوروبا وأمريكا.

ودخل الإسلام في الساحة السياسية العالمية على هيأة قوة كونية جديدة، وتألّق في الساحة الثقافية العالمية، وظهر لهذا الدين دولة وحاكمية في إيران، واكتسب الإسلام جمهور الناخبين في الانتخابات البرلمانية في الجزائر، وكذلك في تركيا، وسجل حضوراً قوياً في السودان.

وسجل الإسلام الضربة القوية الأولى من نوعها على كيان العدوان العسكري الإسرائيلي في جنوب لبنان على يد شباب حزب الله، وسجل الانتصار لأول مرة في تاريخ الانتفاضات والثورات للحجارة على الأسلحة الفتاكة والمدمرة التي يحارب بها الإسرائيليون أبناء فلسطين، فعرفت في التاريخ بـ (ثورة الحجارة)[7]، كما عرفت الثورة الإسلامية في إيران بـ (ثورة المساجد).

وسَجل اندحاراً واسعاً للعدوان السوفييتي على أراضي أفغانستان، فتراجع السوفييت بكل إمكاناتهم العسكرية المتطورة أمام زحف تيار الأفغان الحفاة بأسلحتهم البدائية، واتسعت رقعة الوعي والصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي، وخارجه على نحو سواء. وظهرت هذه الصحوة على شكل حركات إسلامية نامية، وانتفاضات، ونشاطات وأعمال ومؤسسات كثيرة وكبيرة في العالم الإسلامي.

وظهرت دعوات كثيرة هنا وهناك للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وإبطال الإثارات والفتن المذهبية بين المسلمين، والدعوة إلى التفاهم والتعاون وتوحيد الموقف السياسي، وأخذت الثقافة الإسلامية تتألّق في الأوساط الثقافية وتفرض نفسها بقوة وكفاءة.

وبدأ الإسلام يزحف إلى الغرب زحفاً يثير الغربيين وبقوة لا يقاومها الغرب، عندما بدأت الكنيسة الكاثوليكية بالانحسار والتراجع أمام موجة العلمنة في الغرب.

ويطول بنا الأمر إذا أردنا أن نحصي مفردات التحدي الثقافي والسياسي الإسلامي في الشطر الأخير من القرن العشرين، والشطر الأول من القرن الواحد والعشرين.

وكان المكسب الأخير للإسلام في هذا المضمار سقوط دولة الإرهاب والإفساد في العراق.

ولا نريد إحصاء المكاسب والتحديات السياسية والثقافية للإسلام خلال هذه الفترة، ولا تدخل في صلب حديثنا، وإنما أردنا أن نمهد بها للدخول في موضوع بحثنا، وهو (التحديات المعاصرة الكبرى التي واجهت الأمة).

6. التحديات الثلاثة الكبرى في عصرنا

وشاء الله تعالى أن لا يهنأ المسلمون بهذه المكاسب والتحديات التي واجهوا بها دول الاستكبار العالمي في الغرب، في أوروبا وأمريكا، من دون مواجهة ومقابلة تُذْكر.

وصدق الله العلي العظيم؛ حيث يدعو رسوله (ص) إلى أن ينصب نفسه لمرحلة جديدة من العمل والحركة والمواجهة كلما انتهى من مرحلة سابقة… يقول تعالى لرسوله (ص) في أوائل ما نزل عليه من الوحي: ﴿فَإِذٰا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾[8]، حتى لا يصيبهم استرخاء النصر والنجاح ونشوتهما.

لقد واجه المسلمون في هذه الفترة، بعد تلك الجولة العالمية والواسعة من التحديات الكبيرة والنصر والنجاح للإسلام والمسلمين، ثلاثة تحديات كبيرة يحتاج المسلمون إلى الكثير من المقاومة والصبر والعمل لإحباطها وإبطالها؛ وهي (الاحتلال) و(الإرهاب) و(العولمة).

وهذه التحديات الثلاثة غير مفصولة عن التحديات التي كان يمارسها الاستكبار العالمي في مواجهة الإسلام والمسلمين من قبل، لكنها تمثل حالة متطورة ومتقدمة من التحدي والمواجهة في عصرنا.

7. الدّوْران المتعاكسان للتحدي

للتحدي دوران متقابلان متعاكسان في حياة الأمم والأفراد.

أ‌.       الدور الإيجابي للتحدي

فقد يؤديّ التحدي في حياة الإنسان إلى اليقظة والمقاومة والمناعة… وهي حالة قائمة في التاريخ؛ لأن التحدي يتضمن الإثارة دائماً، والإثارة تفجّر كوامن القوة واليقظة والمقاومة في حياة الأمم، والتحدي يلجئ الإنسان إلى الله تعالى، ولا يلجأ الإنسان إلى الله في حالة أقوى وأفضل من حالة الابتلاء… وإنما يبتليهم الله تعالى لعلهم يضّرّعون.

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنٰا إِلىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنٰاهُمْ بِالْبَأْسٰاءِ وَالضَّرّٰاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾[9].

وهذا هو الدور الإيجابي للتحدي.

ب‌.   الدور السلبي للتحدي

وقد يكون دور التحدي سلبياً، فيستسلم الناس للتحدي، بدل المقاومة، ويخدّرهم التحدي بدل اليقظة. وهذا الدور وذاك من آثار التحدّي، والتحدّي يمكن أن يؤدي إلى كل منهما.

وعليه؛ فلابد من توجيه دائم للناس في ظروف التحدّي، لتكون ردة الفعل في التحدي هي المقاومة واليقظة، وليس الاستجابة والخدر.

من الممكن أن تؤدي التحديات التي نستقبلها من ناحية الغرب، ومن داخل مجتمعنا إلى هزيمة نفسية واستسلام تجاه التحديات، وقبول الأمر الواقع، وتبرير علمي لهذا الاستسلام، وانقياد وتسليم ثقافي وسياسي للغرب، وتبعية واتكالية اقتصادية… وهذا هو الدور السلبي لهذه التحديات في حياة الأمة.

ويمكن أن تؤدي بالعكس إلى عزم وإرادة جمعية للأمة كلها للصمود والمقاومة تجاه هذه التحديات، والتخطيط للتحرّر منها، ومقابلة التهديدات بجرأة وشجاعة، والتخلص من حالة التبعية السياسية والثقافية، والتحرّر من الاتكالية في الحالة الاقتصادية، حتى لو اقتضى الأمر أن نأكل من أعشاب الأرض لنتمكن من أن نقوم على أقدامنا، معتمدين على الله تعالى في تجاوز المحْنَة والتهديدات والتحديات.

كل ذلك ممكن، وحدث كلٌّ من هذين الوجهين في تاريخنا المعاصر تجاه السيطرة الغربية على العالم الإسلامي.

وعلينا أن نعمل لتوجيه الحالة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للأمة باتجاه المقاومة، ونحذر من الاتجاه الاستسلامي والمطاوع للمشروع الغربي.

إن التحديات والابتلاءات والفتن من السنن الإلهية الحتمية غير المشروطة في حياة الناس، ولابد أن تقع وتتحقق، ولا يستطيع أحد أن يحول بينها وبين الناس.

يقول تعالى: ﴿الٓمٓ * أَ حَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاۡ أَن يَقُولُوٓاۡ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ * وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ ۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ﴾[10].

إنها سُنّة إلهية حتمية، غير مشروطة، ولا تفلت منها أمة كائنة ما كانت… والذي يريده الله تعالى من الناس في هذه الفتن أن يعلم ـ وهو العليم ـ كيف يواجه الناس هذه التحديات، صادقين أم كاذبين.

﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ﴾[11].

والصدق هنا في التعامل مع الفتن والتحديات أن تعرف الأمة الفتنة بوجهها الصحيح، وتصدق في التعريف بالفتنة، فتواجهها بالمقاومة والصمود. والكذب في التعامل مع الفتن أن لا تكون الأمة صادقة مع نفسها ومع الله في التعريف بالفتنة، وتوجّهها بغير وجهها، وتستقبلها كما تستقبل أية حالة صحية، كما وجدنا ذلك عند أناس من هذه الأمة استقبلوا الغزو الحضاري بالقبول والاستسلام، وفسرّوها بأنها حالة من التطور الثقافي والفكري… أولئك الكاذبون الذين يفسرون الفتنة بغير وجهها، ثم ينقادون لها ويتطبعون بها.

إن واجب العلماء والمثقفين الإسلاميين توجيه الأمة في طريق التعامل مع الفتن.


  • [1] الطارق: 15 – 17.
  • [2] النمل: 50.
  • [3] الأنفال: 30.
  • [4] الأعراف: 128.
  • [5] الأنبياء: 105.
  • [6] النساء: 104.
  • [7] أو (انتفاضة الحجارة). (من المحقق)
  • [8] الانشراح: 7.
  • [9] الأنعام: 42.
  • [10] العنكبوت: 1 – 3.
  • [11] العنكبوت: 3.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى