مواضيع

التحديات الثلاثة الكبرى في عصرنا

هذه التحديات ليست مبتورة من التحديات السابقة عليها، وهي موصولة – لا محالة – بتحديات قادمة على هذه الأمة.

وهذه التحديات؛ منها فتن الضراء، ومنها فتن السراء، وهي لا تختلف في واقعها، إن كانت من فتن الضراء أو كانت من فتن السراء، فإنها على كل حال فتنة وتحدٍ، لابد من مقابلتها، ويجب الحذر من الدخول في حوزتها.

ولعل فتن السراء أخطر على هذه الأمة من فتن الضراء.

ومن هذه التحديات، تحديات يُصدّرها لنا الغرب كالاحتلال والعولمة، ومنها تحديات وفتن نابعة من داخل مجتمعنا كالإرهاب والتطرف الديني والبدع التي تهجم على هذه الأمة بين حين وآخر.

ولعل سائلاً يسأل عن تعريف التحدي بـ (الفتنة)؟! فأقول إننا نقصد بالتحديات الأمور والحالات التي تقهر الأمة وتغالبها على الخروج عن صراط الله المستقيم، وهذه هي فتن الضراء والسراء بالذات في مفاهيمنا الثقافية.

وليست هذه الثلاثة هي كل الفتن… فإن تحديات العصر أوسع من ذلك، وإنما هي من أبرز التحديات التي نستقبلها في عصرنا.

وفيما يلي نتحدث عن هذه التحديات الثلاثة، ونعقبها بعد ذلك بالحديث عن (المشروع الإسلامي) في مواجهة هذه التحديات.

التحدي الأول: الاحتلال

لقد تجاوز العالم الإسلامي عصر الغزو العسكري المباشر، بعد مصيبة ومعاناة طويلة لهذه الأمة مع الغزو العسكري الكافر، وعانت منه هذه الأمة طويلاً وكافحته بعناء وعذاب، فغيّر المحتل الكافر منهجه، وتطورت أساليب الاستعمار لدول الاستكبار العالمي في المنطقة الإسلامية من الاحتلال العسكري المشهود إلى الاحتلال اللا مرئي من خلال السيطرة على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي والعسكري في هذه البلاد، ومن خلال الأنظمة الحاكمة التي كانت تقوم بتنفيذ سياسات دول الاستكبار العالمي الغربية والشرقية؛ من خلال آليات سياسية واقتصادية معقدة تؤدي إلى هذه النتيجة، بعلم وإرادة من هذه الأنظمة.

ولم تبق في العالم الإسلامي منطقة خاضعة للغزو العسكري المباشر غير المناطق المحتلة عسكرياً من قبل إسرائيل من الأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية، التي لا تزال خاضعة للغزو الصهيوني المباشر.

غير أن سقوط الاتحاد السوفييتي غيّر أسلوب تعامل الولايات المتحدة مع المنطقة الإسلامية بصورة كاملة. فقد كان سقوط الاتحاد السوفييتي في نهاية القرن الميلادي السابق أحد وجهي القضية، والوجه الآخر لها هو ظهور النظام الوحداني الأمريكي مقابل النظام التعددي ذي القطبين في القرن الذي مضى.

وهذا النظام لم يتم إقراره من قبل أي مؤسسة دولية، أو نظام من أنظمة العالم، غير أن الولايات المتحدة الأمريكية اعتبرت هذه النقطة من الأُسس الثابتة الاستراتيجية في تعاملها مع العالم.

والتأثير المباشر والواضح الذي تركه هذا التحول العالمي إلى النظام الوحداني هو في طريقة تعامل الولايات المتحدة مع الدول والأنظمة التي كانت تدخل سابقاً في دائرة العالم الثالث.

لقد كان النظامان الاستكباريان يتباريان في كسب صداقة وعمالة هذه الأنظمة من قبل… وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وخلو الساحة العالمية من قوة أخرى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية، تحولت الولايات المتحدة من سياسة كسب الأصدقاء والعملاء في العالم إلى سياسة جديدة تماماً، تتلخص في ممارسة النفوذ والقيمومة على هذا الشطر من العالم… وإذا واجهت مقاومة من ناحية الشعوب والأنظمة، فإنها تلجأ إلى التهديد باستعمال القوة، أو استخدام نفوذها الواسع على الأمم المتحدة ومجلس الأمن لممارسة الضغط على هذه الدول، بهدف إجبارها على المطاوعة.

وكان من مظاهر هذا التوجه السياسي الجديد للولايات المتحدة استخدام العصا الغليظة والتهديد في تنفيذ سياستها في المنطقة.

ومن الشواهد على ذلك، إسقاط الطائرة المدنية الإيرانية في مياه الخليج؛ لإجبار إيران على إنهاء الحرب بشروط مجلس الأمن الظالمة، وضرب معامل صناعة الكيمياويات في السودان، وضرب ليبيا، وهلّم جرّا…

وكان من مظاهر هذا التوجه السياسي الجديد للولايات المتحدة، استخدام مجلس الأمن لتنفيذ سياساتها في المنطقة، وبلغ من قوة تأثير النفوذ الأمريكي على مجلس الأمن أن قرارات مجلس الأمن كانت تُعدّ قبل أن تطرح في مجلس الأمن في مواقع القرار الأمريكي… فكانت أمريكا تهدد بمجلس الأمن كلما احتاجت إلى ذلك، وتستحصل ما تحتاجه من القرارات الدولية من مجلس الأمن كما لو كان قرارا ً أمريكياً.

ومن جهة أخرى؛ تلغي ما لا ينسجم مع سياساتها العامة والخاصة في المنطقة من قرارات مجلس الأمن، كما ألغت طائفة من القرارات التي تدين إسرائيل في عدوانها المتكرر على العالم الإسلامي.

وما لم تستطع أن تلغيه أمريكا كانت إسرائيل تعطّله عملياً بضمانات وحماية أمريكية.

ولم تعد لقرارات مجلس الأمن استقلالية عن القرار الأمريكي… وأصبح الانضمام إلى المؤسسة الدولية (العولمة السياسية) بمعنى الدخول في دائرة نفوذ القرار الأمريكي.

ومن مظاهر هذا التوجه السياسي الجديد للولايات المتحدة، الانفراد بالوضع الدولي في المنطقة الإسلامية،  وممارسة القيمومة السياسية على العالم الإسلامي، عبر المحيطات.

وآخر ما شاهدنا من هذه الممارسة للقيمومة السياسية على بلادنا، إجبار سورية على إخراج قواتها العسكرية من لبنان، واضطرار سورية لقبول الضغوط الأمريكية بهذا الشأن، المترافقة مع النصيحة التي أسداها حكام العرب للقيادة السورية بالإسراع في تنفيذ المطالب الأمريكية بخصوص إخراج قواتها من الأراضي اللبنانية، قبل أن تنفذ أمريكا تهديداتها في سوريّة، رغم وجود القوات الإسرائيلية على الأراضي السورية في الجولان السوري، وعلى مزارع شبعا، رغم كل قرارات مجلس الأمن.

إن الولايات المتحدة تمارس هذه القيمومة على العالم الإسلامي من موقع الاستعلاء والاستكبار السياسي، ولا يجد حكام العرب سبيلاً لرفض القرارات الأمريكية أو التوقف في قبولها.

وأمريكا لا تزال إلى هذه الساعة لم تعلن رضاها عن القيادة السورية، رغم الانسحاب السوري المعلن من لبنان.

وقد مارست أمريكا ضغطاً عالياً على نظام عربي لقبول الإدانة في حادث سقوط الطائرة الأمريكية في سماء أوربا، وتسديد قيمة دية قتلاها بالمليارات من الدولار وليس بالملايين، ووافق هذا النظام أخيراً على تسديد هذه المليارات (لا أذكر الرقم الدقيق) من بيت مال المسلمين لأمريكا ثمناً لكسب رضاها ووّدها، وجياع المسلمين في الهند وبنـغلادش وأفغانستان وغيرها بحاجة إلى كل دولار من هذه المليارات التي بذلها هذا الحاكم العربي ثمناً لسكوت أمريكا وكسب ودّها.

وليس هناك من يحاسب هذا الحاكم أو ذاك عن هذه المليارات التي ينفقونها لأمريكا بسخاء.

ولست أعرف ما يكون جوابهم عند الله؟ ولست أعرف إن كانوا يعرفون الله أم لا؟ وإنّ امرأ يعرف الله لا يبذّر في أموال المسلمين بهذه الطريقة.

ومن مظاهر هذا التوجه السياسي الجديد (الاحتلال العسكري) للعالم الإسلامي… والإحتلال العسكري يعني العودة إلى الحالات البدائية الأولى بعد الحرب العالمية الأولى للغزو العسكري، وهي حالة عسكرية ـ سياسية تجاوزها الزمن، في علاقة الدول الكبرى بالدول الضعيفة، تستعيدها أمريكا اليوم من جديد.

ولست أدري كيف تحاول أمريكا أن تنظم علاقاتها بالعالم الإسلامي بهذه العقلية التي تجاوزها الزمن منذ عهد طويل.

ومن أبرز المشاهد السياسية العسكرية لهذه الحالة: الغزو العسكري الأمريكي لأفغانستان والعراق، والحبل على الجرّار. وأمريكا غير عابئة بالاستنكار الواسع الذي أشهره الرأي العام العالمي لهذا الغزو العسكري لكل من العراق وأفغانستان، فقد واجه الضمير العالمي هذه الحالة الأخيرة باستنكار شامل وواسع في مسيرات بشرية حاشدة في مختلف البلدان، حتى في أمريكا نفسها… فقد أدرك الرأي العام العالمي أن الولايات المتحدة تدفع العالم إلى حافة حرب كونية ثالثة.

 وتتجاوز أمريكا المؤسسة الدولية إذا تباطأت عن الاستجابة لمطالبها، وتتصرف في الشأن الدولي، كما تتصرف في شؤونها الداخلية من موقع القيمومة والولاية، من دون انتظار لقرار مجلس الأمن.

 وإذا كانت (العولمة) هي آخر مراحل الاستعمار، فإن (الاحتلال) هو عودة إلى الأساليب القديمة للتعامل بين دول الاستكبار العالمي والدول الصغيرة والضعيفة.

أنا لم أعش في أفغانستان، ولكنني عشت في العراق في ظل الاحتلال، ووجدت كيف يضرب الجندي الأمريكي بهراوته عضو الجمعية الوطنية، ويرديه أرضاً، ولا أحد يجرؤ أن يتدخل في إنقاذه من تحت أقدامه.

ووجدت كيف ينزل السائق العراقي إلى الحافة الترابية من الجادّة، ويتوقف عن السير، عندما تتقدم الارتال الأمريكية في الجادّة، وكيف يداهم الأمريكان بيوت الناس، ويعتقلون الناس من داخل بيوتهم، ويلقونهم في السجون، ولا يحق لأحد أن يسأل عن مصيرهم، وكيف يسحبون الرجال من بيوتهم بمرأى ومسمع من النساء والأطفال…

وقد أدى الصراع بين المؤسسة الاستخباراتية الأمريكية ووزارة الدفاع إلى انكشاف طرف بسيط فقط من تعامل الأمريكان مع العراقيين في سجن “أبو غريب”.

إن هذه المشاهد التي يشاهدها العراقيون كل يوم، وشاهَد العالم طرفاً منها على شاشات التلفزيون، تُشعر الإنسان المسلم عراقياً كان أم غير عراقي بالهوان.

وأخطر ما في هذه المشاهد أن ينطبع الجمهور بهذه المشاهد بالتدريج، فيفقد الإحساس بالهوان، ويفقد معه حالة الرفض والمقاومة.

والذي يجري في أفغانستان كالذي يجري في العراق، إن لم يكن أسوأ منه.

إن الاحتلال العسكري أصبح حالة منسوخة عالمياً بعد الحرب العالمية الثانية بالتدريج، إلا أن قيام النظام العالمي الوحداني، القائم على القطب الواحد، أعاد حالة الاحتلال العسكري مرة ثانية إلى العلاقات الدولية في العالم.

إنّ الإعلام السياسي الأمريكي يعلن أن رحيل القوات العسكرية الأمريكية والمتعددة الجنسية يتوقف على قدرة وكفاءة القوات الأمنية العراقية على ضبط الأمن.

إلا أن هذه المعادلة الإعلامية معادلة وهميّة، الغاية منها إخفاء الأهداف والأطماع الأمريكية في العراق.

والمعادلة الحقيقية التي يخفيها الأمريكان من وراء هذه المعادلة الإعلامية الوهمية، هي أن القوات الأمريكية والمتعددة الجنسية تبقى في العراق على مرأى ومشهد من الناس؛ حتى يتم للأمريكان إحكام القبضة السياسية والاقتصادية على مواقع النفوذ السياسي والاقتصادي في العراق.

فإذا تم لهم ذلك، وتمكّنوا من المفاصل السياسية والإدارية والاقتصادية في العراق، فلا حاجة عندئذ إلى إبقاء القوات المسلحة الأمريكية والمتعددة بمرأى ومسمع من الناس، في الشوارع وداخل المدن، وفي الطرق الخارجية ما بين المدن.

فإن الأمريكان يفهمون جيداً أن مشهد حضور القوات المسلحة في الشوارع والطرق الخارجية يستفِزّ الناس ويثيرهم، وليس من سبب عقلاني لاستفزاز الناس إذا أمكن استبدال هذا الحضور العسكري بحضور أقوى منه في المفاصل السياسية والاقتصادية والإدارية في البلد.

إن المهم عند الأمريكان هو السيطرة السياسية والاقتصادية، وهذه السيطرة يمكن تحقيقها بطريقة ذكية لا تثير الناس ولا تستفزهم.

إن بإمكاننا أن نفهم الأمريكان، أن نقرأ العقل الأمريكي المحتل لنعرف كيف يفكر الأمريكان؟ وما هي المعادلات السياسية التجارية التي تستحوذ على العقل الأمريكي في احتلال العراق؟

فقد كلف احتلال العراق الأمريكان كثيراً من المال والدم، ولا يمكن أن تقدّم أمريكا كل هذه الأموال والدماء من غير حسابات دقيقة، من نوع الحسابات التجارية، للأرباح المادية الكبيرة التي تجنيها أمريكا من وراء هذه الخسائر.

إن العقل الأمريكي عقل رياضي من نوع الحسابات التجارية، يقيس كل شيء بالأرقام الرياضية؛ حتى الدم يحاسب بحسابات الدم المدفوعة إلى ورثة القتيل، والراتب الشهري الذي يقدم إلى عائلته من بعده.

وهذا التعويض المادي الذي تقدمه الدولة من الدم الأمريكي في العراق تعوضه الثروات الطائلة التي تجنيها أمريكا من العراق.

وهذه المعادلة هي التي استنكرها الأمريكيون أنفسهم في تظاهرات صاخبة في شوارع واشنطن ونيويورك قبل احتلال العراق، وعارضوا معادلة دماء أبنائهم بالنفط الذي يضخه ملوك النفط في أمريكا.

نحن لا نرفض الحسابات والمعادلات التجارية ولا نرفض الرياضيات، ولكننا نعتقد أنه لا يجوز قياس كل شيء بالأرقام. إن لغة الأرقام لغة مفهومة إذا دخلت السوق، ولكنها لغة غريبة غير مفهومة في عالم القيم والأخلاق والعلاقة مع الله والعلاقات الإنسانية.

وخطأ الحضارة المادية المعاصرة أنها تقيس كل شيء بالأرقام والأعداد.

ومهما يكن من أمر؛ فإننا نستطيع أن نقرأ العقل الأمريكي، ونفهم طريقة تفكيره.

وهذا هو الفرق بين عقل الاحتلال وعقل الإرهاب والتطرف… إن من الصعب جداً قراءة عقل الإرهاب وطريقة تفكيره وفهمه للمسائل الاجتماعية ومسائل الدين والدنيا.

فليس بوسع أي تحليل علمي أن يفهم كيف يفكر الانتحاري الذي يفجّر نفسه ليقتل جمعاً من الأطفال في عمر الورود، وهو يعلم ذلك، ويقدِم عليه عن علم وعمد… إن هذه العقلية غير خاضعة لأي تحليل ومنطق، ولا يمكن فهمها ضمن أي إطار…!

أقول: إن قراءة أولية لعقل الاحتلال توصلنا إلى نتيجة قطعية، وهي أن الاحتلال لا ينوي أن يخرج من العراق… ولا يزال يفكر كيف يثبّت أقدامه فيه أكثر من ذي قبل، ويضمن مصالحه بطرق أمينة تحقق له أكثر ربح ممكن بأقل خسارة مادية، ولا يزال يفكر كيف يبسط نفوذه السياسي والاقتصادي والثقافي في هذا البلد.

والنفوذ السياسي في عصرنا شيء أوسع من القوة العسكرية، إنه يشمل النفوذ الثقافي والسياسي والاقتصادي والإعلامي والعسكري… وهو معنى الهيمنة الاستكبارية. وهذه الهيمنة تشيع بالضرورة الفساد والإفساد. ولقد أدركت ملكة سبأ هذه الحقيقة بشكل جيد، عندما قالت لبطانتها: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذٰا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهٰا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهٰا أَذِلَّةً﴾[1].

إذًا؛ فإن مصيبتنا مع الاحتلال مصيبة طويلة، لا تنتهي في وقت قريب… ومن السذاجة أن نصدّق بما يقوله الأمريكان؛ حتى عندما يتغير شكل الحضور والاحتلال الأمريكي من الاحتلال المرئي والمثير إلى الاحتلال غير المرئي.

ولا بدّ أن نعمل من الآن لإشاعة ثقافة المقاومة، والتحضير الثقافي، والإعداد والتخطيط الميداني للمقاومة، وهو لا شك عمل شاقّ وطويل وعسير.

ولقد كان وجود البعثيين في مواقع الحكم في العراق مصدراً لكثير من المآسي للعراق والعراقيين… ومن أعظم هذه المآسي أنهم حضّروا وفتحوا الطريق لدخول الأمريكان إلى هذا البلد بكل عدتهم العسكرية والسياسية والإعلامية والمالية.

ومقاومة الاحتلال تحتاج إلى جهد إسلامي وطني شامل، ينهض به كل مسلم في العراق شيعي وسني ومن منطلق التكليف الشرعي.

وتحتاج إلى استنهاض المسلمين في العالم الإسلامي لدعم وإسناد حالة المقاومة ورفض الاحتلال في العراق.

التحدي الثاني: الإرهاب و التطرف الديني

الإرهاب شبكة عالمية تمويلاً وتنظيماً وحركةً، وهذه الشبكة الحركية الواسعة تكشف عن وجود حالة واسعة من التعاطف والإسناد والتمويل لها.

ولهذه الحركة خطاب سياسي قوي، وهو من الخطابات السياسية المعاصرة التي يحسب لها حساب خاص في موازين الخطابات السياسية المعاصرة، كما يحسب لها حساب خاص ـ دولياً ـ في ميزان القوى. وهذه نقاط إيجابية.

وأما النقاط السلبية: فهي حركة غير مرئية، تتحرك تحت الأرض، بعيداً عن الرقابة العامة والنصح والنقد، ولذلك فهي معرضة دائماً لاختراقات أمنية وسياسية كثيرة، كما هي معرضة لتحريفات فكرية إسلامية ثقافياً وسياسياً، كما هي معرضة لتوجّهات سياسية انفعالية وغير موضوعية.

ونحن نطمئن إلى النقطة الثانية[2]، ولا نستبعد النقطة الأولى[3].

والدليل على ما نقول، الحالة التكفيرية الغالبة على هذه الحركة، ورفض الغير، وعدم الاعتراف بالآخرين، والحلول الانفعالية للمشاكل السياسية للعالم الإسلامي، واندفاعها نحو الإرهاب غير المشروع، وإنما أقول: (الارهاب غير المشروع)؛ لأن في الإرهاب حالة مشروعة، يشير إليها تعالى في قوله: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[4]، وفي الإرهاب حالة غير مشروعة، كالتي يمارسها هؤلاء في العراق وباكستان وأفغانستان في قتل الأبرياء وإثارة الفتن الطائفية.

ففي العراق مثلاً، تجري حوادث كثيرة، لا تحصى من القتل والتخريب والذبح، وبشكل خاص في الأوساط الشيعية، وفي مناسبات أهل البيت (عليهم السلام) من دون أي مجوز شرعي، من اجتهاد أو رأي من أراء فقهاء المسلمين، ويتم كل ذلك تحت عنوان تكفير المسلمين واستباحة دمائهم.

ولا تنفي الحركة مسؤوليتها عن هذه الأعمال… بل تتبناها وتدافع عنها.

ويجري مثل ذلك في أفغانستان وباكستان من قتل المسلمين الشيعة، وتخريب مساجدهم تحت عنوان التكفير، وهو عمل عشوائي انفعالي، لا يقوم على أساس علمي أو موضوعي، في أي مذهب أو رأي أو اجتهاد في مذاهب الفقه الإسلامي.

وهذا عمل يهدد بإشعال الفتنة الطائفية بين المسلمين، التي لا تُبقى ولا تذر على شيء، ويُعرّض للخطر كل الجهود التي يبذلها العلماء المصلحون من الفريقين لجمع الشمل، وإعادة الوئام والانسجام والتفاهم والتعاون إلى الصف الإسلامي.

وهذه حالة ثقافية خطيرة، وفهم محرّف للإسلام، وإلغاء للنصوص الإسلامية الصحيحة والصريحة التي تحكم بعصمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وتمنع من رميهم بالكفر ونفي صفة الإسلام عنهم. هذا عن النقطة الثانية.

ولا نستبعد النقطة الأولى، ولا ننفي أن تكون هذه الحركة السياسية مخترقة من قبل الأجهزة الأمنية للدول الكبرى[5].

فإن الفتن الطائفية التي تثيرها هذه الجماعة فيما بين المسلمين في العراق وأفغانستان وباكستان وسائر البلاد، يخدم أهداف أعداء الإسلام بالتأكيد، ولا يرضيهم ولا يسرّهم شيء كما يسرهم أن تشتعل نار الفتنة داخل الساحة الإسلامية.

ونحن نلمس في العراق أن القوات المتعددة الجنسية تفرّق بين نوعين من الإرهاب بشكل واضح؛ الإرهاب الذي يمسّهم والإرهاب الذي يمسّ الناس، فيواجهون النوع الأول من الإرهاب بقوة وعنف، ويتغاضون عن النوع الثاني.

ولا ننس أن نقول إن هذه الحركة تقدّم اليوم صورة مشوّهة عن الإسلام، وليس الإسلام هو ما تعكسه هذه الحركة، من خلال أعمال العنف والإرهاب في العالم، ولا ننفي نحن عن الإسلام استخدام القوة لإزالة الفتن وتقرير التوحيد والعدل على وجه الأرض: ﴿وَقٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لاٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّٰهِ﴾[6]، إلا أن الممارسات الإرهابية التي تمارسها هذه الفئة، تختلف اختلافاً واضحاً عن القوة التي يتبناها الإسلام ليحقّ الحق، ويبطل الباطل على وجه الأرض.

 إن العقل الذي يقود الإرهاب في العالم يصلح للإعاقة والإتعاب والاستهلاك، ولا يصلح للحكم. فلا يمكن أن يحكم العالم اليوم عقل كالذي كان يحكم في أفغانستان، والذي يقوم بأعمال التخريب والقتل في العراق وأفغانستان وباكستان.

إن الولايات المتحدة الأمريكية تقود اليوم حملة عالمية واسعة ضد الإرهاب، وترصد له المليارات من الدولارات؛ لأنّ الإرهاب مسّها في عقر دارها[7]، ولكننا نعتقد أن أمريكا سوف تفشل في مكافحة الإرهاب في العالم.

وذلك أن السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية والأنظمة المرتبطة بها في العالم الإسلامي هي واحدة من أسباب ظهور الإرهاب في العالم.

إن سياسة الكيل بمكيالين تجاه العالم الإسلامي، والتدخل من موقع القيمومة والولاية في شؤون المسلمين، وممارسة التهديد والتدخل العسكري إذا اقتضى الأمر، من أسباب ظهور الإرهاب في العالم.

إن أمريكا تغض الطرف عن القوة النووية الهائلة لإسرائيل، والتي تقدر بـ 300 رأس نووي، وتمارس ضغوطاً وتهديدات واسعة إعلامية وسياسية على إيران؛ لأنها تعمل للاستفادة من الطاقة النووية بدل النفط، للاحتفاظ بالثروة النفطية للأجيال القادمة.

هذه السياسة (الكيل بمكيالين مختلفين في المنطقة الإسلامية) لا تخفى على أحد، ولا تملك الولايات المتحدة أي توجيه معقول لهذه السياسة اللا منطقية التي تمارسها بالقوة والإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، وهي بالذات من أسباب ظهور الإرهاب في العالم.

أنا لست من دعاة بقاء الجيوش السورية في لبنان[8]، ولكن كلما أتصور التدخل الأمريكي الضاغط والمهين على سوريا، لتخرج قواتها من الأراضي اللبنانية التي تتواجد فيها بطلب من الحكومة اللبنانية، أو شريحة واسعة من اللبنانيين على الأقل… وإلى جوار سوريا تحتل الجيوش الإسرائيلية أراضي الجولان السورية ومزارع شبعا، وأمريكا تغض الطرف عنها، وتمارس ضغوطاً عالمية وعربية، وتهديدات عسكرية على سوريا، لإجبارها على إخراج قواتها من الأرض السورية، وتضطر سوريا تحت طائلة هذه الضغوط الهائلة إلى الخروج من لبنان…

أقول كلما أتصور هذه المفارقة السياسية الواضحة في السياسة الأمريكية في المنطقة، يصيبني إحساس بالهوان، والذي يصيبني من الإحساس بالهوان يصيب كل مسلم غيور على أرضه وأمته ودينه.

ولو كانت الدول العربية، أو الإسلامية، أو مؤتمرات القمة، أو مؤتمر الطائف، هم مَن يمارس هذا الضغط على سوريا للانسحاب من لبنان، لم تكن الساحة الإسلامية الواسعة لِتشعر بمثل هذا الهوان والسخط والغضب.

إن هذه المفارقات السياسية والممارسات اللا منطقية في السياسة الخارجية، تؤدي بصورة طبيعية إلى تلك الممارسات اللا معقولة في مواجهة السياسات الأمريكية والأنظمة المرتبطة بها في المنطقة.

إن اللا معقول يؤدي إلى اللا معقول.

إننا لا نحتاج إلى تفكير كثير لنكتشف من نهج السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط أن أمريكا تعتقد أن إيران وسورية لا تستحقان الحياة والعلم والتطور العلمي وامتلاك القدرات العلمية، وأن إسرائيل وحدها تمتلك هذا الحق.

إن هذا المنطق اللا معقول يؤدي إلى ردود فعل لا معقولة بالضرورة.

 ومن الأفضل للولايات المتحدة في موقفها من الإرهاب أن تعيد النظر في سياساتها في المنطقة وفي العالم لعلاج ظاهرة الإرهاب. فإن هذه السياسات تنتج الإرهاب لا محالة؛ إن كان في العالم الإسلامي أو خارجه.

إن من أسباب علاج هذه الظاهرة معالجة مسألة الاستبداد السياسي في طائفة من الأنظمة الحاكمة في المنطقة، ومعالجة مسألة الاحتلال في العراق وأفغانستان.

على أننا نرفض ـ بصورة قطعية ـ ظاهرة الإرهاب، ونعتقد أنها حركة انفعالية غير راشدة تحتاج إلى كثير من الترشيد، والموضوعية، والعقلانية، والإسلامية في التفكير، والتخطيط، والاجتهاد السياسي، والتعقل، وأنها حركة مخترقة موجهة لإثارة الفتنة الطائفية بين المسلمين في العراق وأفغانستان وباكستان بشكل خاص، ولا تكفي الممارسات الأمنية لعلاج هذه الظاهرة الواسعة، إذا لم تقترن بحلول ومعالجات سياسية وثقافية.

التحدي الثالث: العَولمة

يتعرض العالم الإسلامي اليوم لانهيار واسع للحواجز السياسية والثقافية والاقتصادية التي تفصل أقاليم العالم الإسلامي عن الغرب… وذلك بحكم قانون القرية الكبيرة الواحدة التي ترفض وجود الحواجز بين أحيائها وأطرافها المتعددة، كما يشيعه الغربيون.

فقد تشابكت أطراف العالم سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بحكم وسائل النقل والارتباط والاتصال والإعلام الكثيرة، حتى عاد من غير الممكن فصل أجزاء العالم بعضه عن بعض.

وهذه الظاهرة هي التي تهدّد أمن وسلامة الدول والكيانات السياسية والاقتصادية الضعيفة مقابل الدول الاستكبارية ذات القدرات السياسية والإعلامية والاقتصادية الكبيرة.

لقد تساقطت هذه الحواجز في غياب من وعي الرأي العام الإسلامي لما يجري في الساحة الإسلامية؛ سياسياً وثقافياً واقتصادياً، وفقدت الساحة الإسلامية حصانتها من غزو الشركات الاقتصادية الغربية العملاقة لأسواقنا.

وقد تمكنت هذه الشركات في المنافسة الحُرة التي تجري بينها وبين مراكزنا الاقتصادية والصناعية الداخلية من عزل مراكز الإنتاج الصناعي الداخلي وإضعافها واكتساح الأسواق في العالم الإسلامي… طبعاً؛ بالمنافسة الحرة، كما لو جرى قانون تكافؤ الفرص بين عامل ضعيف لا يملك غير جهد ساعديه وآخر يملك رؤوس الأموال الطائلة… إن قانون تكافؤ الفرص قانون عادل بلا شك، إذا طبق في ظروف مستويات اقتصادية ومعيشية متقاربة، أما عندما يطبق في ظروف معيشية مختلفة، وعند مستويات اقتصادية متفاوتة، فإنه يصبّ دائماً في صالح أصحاب رؤوس الأموال، وتضطر الطبقة الفقيرة الضعيفة إلى أن تبيع جهودها لهذه الطبقة بثمن بخس.

والذي يجري اليوم في الانفتاح الاقتصادي للأسواق الإسلامية على الغرب يشبه هذه الحالة تماماً، وتزداد يوماً بعد يوم حالة الضعف في إنتاجنا الاقتصادي الداخلي، ويُحكم الغرب أكثر فأكثر حركة الاستيراد والتصدير في أسواقنا التجارية، ويتحول اقتصادنا إلى اقتصاد استهلاكي استيرادي بحكم نظام العولمة الاقتصادية.

والهيمنة الاقتصادية تتبع بالضرورة الهيمنة السياسية، والأخيرة تتبعها الهيمنة الثقافية، وهذه حلقات لا ينفصل بعضها عن بعض إلا بعلاج شاق وعسير.

ولو كانت علاقاتنا الاقتصادية المنفتحة مع الغرب والدول الصناعية الكبرى تمثل علاقة متكافئة بين الاستيراد والتصدير لم يكن علينا من ضير في العلاقة الاقتصادية المنفتحة مع الدول الصناعية… فإن طبيعة العلاقة الاقتصادية تقتضي الأخذ والعطاء، والأخذ والعطاء المتكافئان لا يضران مراكز الإنتاج والأسواق التجارية في بلادنا.

ولكن مشكلة العالم الإسلامي في علاقاته الاقتصادية مع الغرب هي العلاقة غير المتوازنة وغير المتكافئة بين التصدير والاستيراد.

وهذه العلاقة تؤدي بالضرورة إلى هيمنة الدول الاقتصادية الغربية والشرقية على حركتنا الاقتصادية، وهي تؤدي إلى مسلسل طويل من التبعية الاقتصادية والسياسية والثقافية.

والأمر كذلك في العلاقات السياسية، فقد تعرضت حدودنا السياسية لانهيارات واسعة، وتعرضت مواقعنا السياسية، تحت تأثير الضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية، وكذلك التهديدات العسكرية، لنفوذ الدول الكبرى بشكل كبير.

ومن هذه العوامل الضاغطة التهديد باستصدار قرار الحصار الاقتصادي والجويّ والسياسي من قبل مجلس الأمن، وهذه القرارات في الغالب غير عادلة ولا منطقية، وتخضع لضغوط الدول الكبرى، كما نخضع نحن في العالم الإسلامي لتنفيذ هذا القرارات والخضوع لها… في الوقت الذي لا تعبأ لها إسرائيل التي تمارس التجاوز والعدوان علانية وجهاراً رغم كل قرارات مجلس الأمن.

إن دخولنا في رحاب العولمة السياسية يساوي قبولنا من طرف واحد للنفوذ السياسي للدول الكبرى عموماً، وللولايات المتحدة الأمريكية، التي تقود الاستكبار العالمي، بشكل خاص.

وهذا النفوذ السياسي لا يجري بصورة متكافئة في العلاقات الدولية كما يجري بين أي كيانين سياسيين متعاملين مع بعض؛ سياسيا واقتصاديا، وإنما يجري من طرف واحد فقط.

وهذه الحالة بالذات هي التي حرّمها الإسلام مؤكداً؛ من خلال نفي السبيل للكافرين على المؤمنين، والسبيل هو النفوذ، يقول تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾[9].

ونهى الله تعالى عن الركون إلى الظالمين، وساوى بينه وبين النار في جهنم، يقول تعالى: ﴿وَلاٰ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ﴾[10].

وليس هناك من يمارس الظلم في حياة الناس أعظم من الدول الكبرى التي تمارس أبشع أنواع الظلم والإجحاف بحق المسلمين، وقد حرّم الله تعالى الركون والاطمئنان إليهم والثقة بهم، وأمرنا بالتعامل معهم من موقع الاستعلاء والقوّة، لا من موقع الانفعال والضعف.

إن العلاقات السياسية والاقتصادية المنفتحة مع الغرب، والدخول في نظام العولمة سياسياً واقتصادياً، يؤدي بصورة مباشرة إلى تدفق النفوذ السياسي والاقتصادي لدول الاستكبار العالمي إلى العالم الإٍسلامي من طرف واحد.

تماماً كما لو رفعنا الحواجز الهندسية عن تدفق السيول إلى أرض منخفضة، فإن انهيار هذه الحواجز يساوي الخراب الواسع الذي يتبع تدفق السيول إلى أرض منخفضة عامرة بالناس والعمران. والصحيح هو تنظيم العلاقة، وليس الانفتاح اللا محدود الاقتصادي والسياسي والثقافي كما يدعو إليه دعاة العولمة، ولا تختلف الحواجز السياسية والاقتصادية عن الحواجز الثقافية… فكما تحتفظ لنا هذه الحواجز في الاقتصاد والسياسة بالحصانة الاقتصادية والسياسية، وتحفظهما من النفوذ الاقتصادي والسياسي للدول الكبرى، كذلك الحواجز الثقافية تحفظ لأمتنا مناعتها الثقافية والحضارية من التحلل الخُلُقي والقيمي الذي يقدمه لنا الغرب من خلال وسائله الإعلامية الضخمة والمتطورة.

إن الغرب استطاع – للأسف – أن يكسر الحواجز التي تفصلنا عنه ثقافياً وحضارياً بالآليات الخَبَرية والإعلامية الفضائية، وشبكات الإنترنيت، والصحافة المتطورة التي تُطبع في عدة عواصم في وقت واحد.

ودخل الغرب بهذه العملية الاقتحامية عُقر دورنا ومخادع نوم أبنائنا وبناتنا، ومن دون أي حاجز يذكر، كما لو كان السد يتهاوى أمام تدفق السيول المخربة، فتدخل السيول بقدرة تخريبية عالية دُور الناس وممتلكاتهم، ثم محلاتهم، وتسلب منهم كل قدرة على حجز هذا التدفق المخرب ومنعه.

إن الذي يجري اليوم في الأوساط الثقافية في العالم الإسلامي هو الكارثة الثقافية، بعينها، لو لم يتدارك المسلمون عمق الكارثة بوعي وتخطيط دقيق؛ للحد من خسائرها، وبالتالي السيطرة عليها.

إن الانفتاح الثقافي والحضاري القائم فعلاً ليس عملاً ثقافياً وحضارياً (حواريّاً) متبادلاً بين ثقافتين وحضارتين، كما يأمرنا القرآن بالحوار، وتبادل الأفكار، والثقافات، وإنما هو اكتساح ثقافي. وليس من الصحيح أن نخدع أنفسنا في هذه الكارثة الثقافية التي تحل بأبنائنا وبناتنا، ونسبغ عليها عناوين وهميّة من قبيل الحوار والانفتاح، فإن الإسلام لا يمنع من الحوار والانفتاح؛ بل يأمر بهما، ولكن الذي يجري اليوم هو شيء آخر، يختلف عن الحوار والانفتاح السياسي تماماً.

إن الذي يجري في الوسط الثقافي، في العلاقة بيننا وبين الغرب، هو تماماً ما يجري في الأسواق التجارية في العلاقة الاقتصادية بيننا وبين الدول الصناعية، وفي مواقع النفوذ السياسي بيننا وبين الدول الكبرى في العلاقة السياسية والنفوذ السياسي.

 وهذا الذي يجري اليوم في نظام العولمة الجديد؛ سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ليس من مقولة الانفتاح المتكافئ، وتبادل العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية، وإنما هو من نوع الاجتياح السياسي والثقافي والاقتصادي.

وهذا الاجتياح الثقافي، يهددنا إذا لم نتداركه بوعي وعقل وتخطيط دقيق… يهددنا بفقدان المناعة الثقافية والحضارية، وهو ما يطلق عليه الأطباء عنوان(الإيدز) طبياً… فإن شيئاً من هذا القبيل يجري في عالم الثقافة كما يجري في عالم الطب من فقدان المناعة من الأمراض المعدية.

وليس أمامنا خيارات كثيرة في هذا الاجتياح الثقافي والحضاري الواسع، وليس بوسعنا أن نمنع الأثير من أن ينقل إلينا ذبذبات الصوت والصورة، وليس بوسعنا أن نغلق أبواب دُورنا وغرف أبنائنا وبناتنا عن هذا الاجتياح الثقافي الواسع… والشيء الوحيد الذي نملكه ويجب أن نخطط له هو التربية بالتقوى، وبناء الجيل الجديد على أساس قويّ من التقوى. فإن التقوى عازل تربوي قوي، ولباس واقٍ يحفظ الجيل الصاعد من حرائق التحلل والابتذال الخلقي القادمة إلينا من ناحية الغرب، يقول تعالى: ﴿وَلِبٰاسُ التَّقْوىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ﴾[11]، وكما يحفظ اللباس الإنسان من الحرّ والبرد، ويستر سَوْءته عن أنظار الناس، كذلك التقوى تحفظ الشباب في وسط هذه الحرائق ﴿يٰا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنٰا عَلَيْكُمْ لِبٰاساً يُوٰارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبٰاسُ التَّقْوىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ﴾[12].

إن التقوى لباس يستر سَوْءة النفس، كما يستر اللباس سوأة جسمه، وهو كما يقول أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع): (التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ‌ عَزِيزٍ، وَالْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ‌ ذَلِيلٍ،‌ لاَ يَمْنَعُ‌ أَهْلَهُ‌، وَلاَ يُحْرِزُ مَنْ‌ لَجَأَ إِلَيْه)[13].

إن الأداة التي تمكّننا من مواجهة هذا الغزو الثقافي الهائل (بل القصف الثقافي)، هو التقوى، وهو أداة قوية، وعازل قوي، يحفظ الشباب – من الجنسين – من تأثيرات هذه الثقافة الحضارية المتحللة.


  • [1] النمل: 34.
  • [2] أي أنها تحمل أفكارا إسلامية وسياسية منحرفة. (من المحقق)
  • [3] أي أنها مخترقة أمنيا وسياسيا. (من المحقق)
  • [4] الأنفال: 60.
  • [5] بل أثبتت الأيام والوثائق والتصريحات أن هذه المجموعات الإرهابية هي صناعة وتربية هذه الدول لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية وأعوانها في المنطقة وباعترافهم هم أنفسهم. ولو راجعنا تاريخ الحركات الإسلامية المتطرفة والإرهابية في العالم لوجدنا أنها جميعا إما صناعتهم أو مدعومة من قبلهم. (من المحقق)
  • [6] البقرة: 193.
  • [7] ويقصد الشيخ (رحمه الله) هنا أحداث هجمات 11 سبتمبر عام 2001؛ حيث استُهدف برجا التجارة العالمية ومقر وزارة الدفاع الأمريكية بواسطة ثلاث طائرات مدنية، وادعت أمريكا أن منفذي هذه العملية هم جماعة تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، ومن حينها بدأت الولايات المتحدة الأمريكية مخططها العلني ضد الإسلام والدول الإسلامية تحت ما يسمى بـ (محاربة الإرهاب)، وجيّشت لذلك الجيوش، ووسائل الإعلام المحلية والعالمية، ورصدت ميزانيات وأموالا طائلة سرقتها من جيوب المسلمين والمستضعفين إما عاجلا أو آجلا.
  • وباعتقادنا لم يكن ذلك إلا تمثيلية قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتنفيذها بأيدٍ إسلامية متطرفة هي التي صنعتها ومولتها؛ لتكون هذه العملية ذريعة بيد أمريكا لتمكين سياسة (القطب الواحد) والإمعان في القتل والتخريب ونهب ثروات العالم والأمة الإسلامية، واحتلال البلاد الإسلامية إما بشكل مباشر أو غير مباشر، وما حصل في أفغانستان أوضح دليل؛ حيث احتلت أفغانستان تحت عنوان القضاء على تنظيم القاعدة، وقتلت وجوعت الأفغانيين ونهبت خيراتهم وثرواتهم، ثم خرجت منها بعد أن دمرتها ولم تعد تؤمن مصالحها دون أن تقضي على تنظيم القاعدة؛ بل قامت بتسليم الحكم والسلطة في أفغانستان إلى تنظيم القاعدة نفسه الذي ادعت أنها احتلت أفغانستان للقضاء عليه. إن أمريكا تلعب وتستخفّ بعقول المسلمين التي عملت على تجهيلها خلال الحقبات السابقة هي وباقي الدول الاستعمارية إما من خلال الاحتلال المباشر أو من خلال زرع الحكام العملاء لها لتحكم البلاد الإسلامية بعد أن انتهت موضة الاحتلال المباشر. وإلا أي عاقل يصدّق أن أربع طائرات مدنية تابعة لشركتين أمريكيتين، تخرج من مطارات أمريكية، ويتم اختطافها في وضح النهار من قبل مجموعة إرهابية لا تمتلك إلا وسائل بدائية، دون أن يعرف جهاز أمن المطار أو الأجهزة الأمنية الأمريكية الأخرى المعروفة في العالم بقدراتها الاستخباراتية المتطورة، لتقوم ثلاث طائرات من أصل أربعة مختطفة بالنجاح في تحقيق أهدافها وتفشل الرابعة، ولم يكن فشل الرابعة بسبب تدخل القوات الأمنية أو الجيش الأمريكي، وإنما بسبب تدخل الركاب، مما أدى إلى انحرافها عن مسارها وسقوطها وتحطمها ومقتل من فيها؟!!! هناك تساؤلات وتحليلات وشواهد كثيرة أخرى لكن لا يتسع لها المجال هنا، ويكفي للإنسان – مهما كان بسيطا – أن يُعمل عقله ولو بشيء من الاطلاع والتحليل ليصل إلى هذه النتيجة ويعقل هذه المؤامرة الكبيرة التي حاكتها أمريكا وأعوانها ضد الإسلام والمسلمين والشعوب المستضعفة. (من المحقق)
  • [8] لقد دخلت القوات السورية إلى لبنان في عام (1976)، ولم يكن دخولها إلى لبنان بقرار من الدولة السورية نفسها أو تجاوزا منها في ذلك الوقت، وإنما دخلت كقوات لحفظ السلام بعد أن نشبت الحرب الأهلية في لبنان، وذلك بطلب من الجامعة العربية والحكومة اللبنانية آنذاك، وقد تعزز هذا التواجد بعد ذلك في اتفاق الطائف المكرس بقرار من مجلس الأمن برقم (587) الصادر في أكتوبر تشرين الأول عام (1989) والمترجم باتفاقية بين الحكومتين اللبنانية والسورية والمصادق عليه من برلمانَي البلدين. وبغض النظر عن تفاصيل الأحداث التي حصلت في الفترة التي بقي فيها الجيش السوري هناك، فإن هذا التواجد كان شرعيا بناء على ما تقدم وكما هو ثابت فعلا. وقد كان التواجد السوري في لبنان عبئا ثقيلا على إسرائيل وعملائها في لبنان والمنطقة والعالم؛ حيث كانت سوريا تدعم المقاومة الفلسطينية المتواجدة في لبنان والمقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولم تستطع إسرائيل إخراج القوات السورية من هناك إلا بمؤامرة حاكتها مع عملائها في لبنان ودعم من الولايات المتحدة الأمريكية، ففي عام (2005) تم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق (رفيق الحريري)، وتم اتهام سوريا وحزب الله بالوقوف وراء اغتياله، وقد عملوا على إشاعة ذلك بكل الوسائل المتاحة وبأسرع ما يمكن من اللحظات الأولى للاغتيال وقبل أن يكون بأيديهم أي دليل، مما أدى إلى تجييش اللبنانيين والرأي العام وخروج المعارضين للتواجد السوري في لبنان في مظاهرات تطالب بخروج الجيش السوري من لبنان، وسميت هذه الحركة بـ (ثورة الأرز)، وعلى أعقاب ذلك وبتحريض من الولايات المتحدة الأمريكية صدر قرار من مجلس الأمن برقم (1559) عام (2005) يقضي بانسحاب القوات السورية من الأراضي اللبنانية، وعلى إثر هذا القرار خرجت القوات السورية من لبنان في 30 أبريل 2005. وفي 1 آذار مارس 2009 تم إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للتحقيق في اغتيال (رفيق الحريري) التي دفعت نفقتها الدولة اللبنانية ملايين الدولارات (حوالي 800 مليون دولار على بعض التقارير وأكثر من ذلك بناء على تقارير أخرى خلال 11 عاما) على حساب الشعب اللبناني، والتي إلى الآن لم يصدر عنها أي قرار واضح وشفاف بخصوص المتهمين في الاغتيال، وتم نسيان هذه القضية تماما، فالمهم لديهم كان إخراج القوات السورية، وتخليص إسرائيل من عبء التواجد السوري، ودق إسفين الخلاف بين الدولتين الجارتين والشقيقتين اللتين تربطهما وحدة حال وعلاقات أخوية ومصالح مشتركة وعميقة. (من المحقق)
  • [9] النساء: 141.
  • [10] هود: 113.
  • [11] الأعراف: 26.
  • [12] الأعراف: 26.
  • [13] نهج البلاغة، الخطبة: 156، من خطبة له عليه السلام يحث الناس على التقوى، ص180.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى