المفردات السياسية

. الخطاب السياسي
الخطاب السياسي وتحديده من أهم مطالب الحياة السياسية، ومن دون وجود خطاب سياسي للأمة، وتحديد إطاره ومضمونه السياسي لا ينعقد الموقف والقرار، ولا يمكن تحديد الشعار السياسي (الذي لابد منه في أية عملية سياسية).
كذلك لا يمكن تقرير المصير، وتحديد نوع الحكم ، والعلاقات السياسية، ومسائل المعارضة، والجهاد إلاّ بتحديد الخطاب السياسي… وهذا كله يتوقف على وجود خطاب سياسي للأمة، وتحديد المضامين التي يتضمنها الخطاب، حتى الدستور يتوقف على الخطاب السياسي، ومن دونه لا يمكن تدوين الدستور، فإن الدستور ملتقى السياسة والقانون.
خطاب الأمة والخطاب الرسمي
ونحن نقصد بـ (الخطاب السياسي) خطاب (الأمة)، وليس الخطاب (الرسمي)، فقدْ فَقَدَ الخطاب الرسمي في أكثر أقاليم العالم الإسلامي أهميته وقيمته السياسية، لكثرة الكذب والتمويه، ولكثرة المفارقات في الخطاب السياسي الرسمي.
فقد مارس حزب البعث أبشع أنواع الفساد، والاستبداد، والاضطهاد، والابتزاز، والإسراف في الدماء والأموال والأعراض في العراق، والتآمر، وإثارة الحروب والفتن في المنطقة كلها تحت عنوان (الوحدة والحرية والاشتراكية).
إن الخطاب السياسي الحق ، الذي له دور في صناعة الموقف والقرار، والمصير السياسي، والعلاقات السياسية، والدستور، يجب أن يكون متبنّىً من قبل الأمة، يعيه الجمهور، ويفهمه، ويتبنّى ما فيه… عندئذٍ يمتلك هذا الخطاب القوة والفاعلية في الحياة السياسية للأمة.
عناصر الخطاب الإسلامي
ولابد أن يعكس الخطاب السياسي وحدة الأمة الإسلامية: ﴿إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾[1]، ويعكس وحدة إرادتها السياسية.
ولابد أن يعكس هذا الخطاب عِزّة الأمة الإسلامية، وعزة الإسلام، وهيبة الإسلام: ﴿وَلِلّٰهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[2]، ﴿وَلاٰ تَهِنُوا وَلاٰ تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[3].
كما لابد أن يعكس العلاقات السياسية للعالم الإسلامي.
وللأسف نجد أن هذه الخصائص مفقودة بالكامل في الخطاب الرسمي للسياسي للأنظمة وفي علاقاتهم السياسية، فإن الخطاب السياسي لطائفة من الأنظمة العربية تجاه أمريكا يحمل طابع الصداقة، بينما تقف أمريكا مع إسرائيل في كل عدوان تقوم به إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني والعالم العربي والإسلامي، مستهينة بالدول الإسلامية والعربية، وأمريكا بحاجة إلى كل قطرة من نفط العرب، غير أنها مطمئنة إلى أن الأنظمة العربية لا تملك القدرة على أي قرار وموقف مضاد لها في علاقتها مع إسرائيل.
وللأنظمة في العالم الإسلامي أفضل العلاقات مع (فرنسا)، وهي تنزع الحجاب من رؤوس بناتنا في المدارس والجامعات ، دون أن تحسب حساباً لغضب المسلمين وغيرتهم على بناتهم ، لا لأن فرنسا لا تحسب حساباً لعلاقاتها مع الدول الإسلامية، ولكن لأنها تعلم أن الأنظمة الإسلامية – في الأكثر – لا تملك القدرة على اتخاذ أي موقف سياسي، واجتماعي تجاه هذا العدوان على فتيات المسلمين في المدارس والجامعات.
ويجب أن يعكس الخطاب الإسلامي رفض المسلمين لكل نفوذ وسلطان سياسي واقتصادي وعسكري وثقافي من قبل دول الاستكبار العالمي: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾[4].
ويجب أن يتضمن الخطاب الإسلامي رفض الركون إلى صداقة دول الاستكبار العالمي: ﴿وَلاٰ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ﴾[5].
ويجب أن يتضمن الخطاب الإسلامي استعداد المسلمين للحوار الإيجابي المفتوح مع كل الدول والكيانات السياسية (عدا الكيانات الغاصبة مثل إسرائيل): ﴿وَجٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[6].
وهذه هي الصيغة العامة، والأصل الأول في العلاقات السياسية الإسلامية – العالمية… غير أن الحوار إذا لم ينفع في علاج نقاط الخلاف بين المسلمين وخصومهم السياسيين، فـ (القوة) هي (البديل)، يقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ﴾[7]… وليس (الحوار) هو الأول والأخير ولا بديل.
ولابد أن يتضمن الخطاب الإسلامي دعوة الإنسانية إلى كلمة التوحيد: ﴿قُلْ يٰا أَهْلَ الْكِتٰابِ تَعٰالَوْا إِلىٰ كَلِمَةٍ سَوٰاءٍ بَيْنَنٰا وَبَيْنَكُمْ أَلاّٰ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّٰهَ وَلاٰ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاٰ يَتَّخِذَ بَعْضُنٰا بَعْضاً أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اللّٰهِ﴾[8]. فهي الكلمة الوحيدة القادرة على أن تجمع البشرية كلها حول محور واحد.
ولابد أن يتضمن الخطاب الإسلامي المرحليّة السياسية، والأولويات السياسية في علاقاتها الإيجابية والسلبية وفي مواقفها السياسية.
ولسنا الآن بصدد إحصاء النقاط والعناصر التي يجب أن يتضمنها ويعكسها الخطاب الإسلامي.
وإنما نقول لابد من تحديد علمي ودقيق لعناصر الخطاب الإسلامي وتدوينه… فإن الأمة بخطابها، فإذا فقدت الخطاب، فقدت الموقف والقرار.
2. توحيد الخطاب السياسي
كما يجب أن يعكس الخطاب السياسي الأمة الإسلامية بكل شعوبها وأقاليمها، كذلك يجب أن تتبنى الأمة الإسلامية جميعاً هذا الخطاب… عندئذٍ يتحول هذا الخطاب إلى (رأي عام إسلامي)، ويتحوّل الرأي العام إلى قوة سياسية هائلة ، وإلى موقف وقرار سياسي، ليس من نوع القرارات والمواقف التي تتخذها الأنظمة.
إن القرار عندما يكون صادراً عن الأمة، يكون قراراً صعباً، لا تتمكن الأنظمة من تجاوزه، ولا تتمكن دول الاستكبار العالمي من اختراقه.
ومشكلتنا أننا نفقد مثل هذا القرار الصعب في وضعنا السياسي… والبديل لمثل هذا القرار هو القرار الرسمي الضعيف، الذي تتخذه الأنظمة بمفردها أو مجتمعة في مؤتمرات القمة العربية أو الإسلامية، وهو قرار ضعيف، عادة ما يتمخّض عن مجموعة من المعادلات والموازنات السياسية التي تخضع لها هذه الأنظمة ولا تستطيع أن تتجاوزها.
ولذلك نجد أن هذه القرارات معزولة عن إرادة الأمة، ضعيفة في مجال التنفيذ، خاضعة لإرادات الدول الكبرى، والاعتبارات الاستكبارية، مسلوبة النفع والجدوى ، ضبابية، تنحدر باتجاه الأمر الواقع الذي تفرضه عليهم دول الاستكبار العالمي وإسرائيل…
فقد تحوّلت اللاءات العربية الرسميّة بالتدريج إلى قرارات التطبيع تجاه إسرائيل وإلى تبادل الأرض بالسلام، في الوقت الذي لم تتنازل فيه إسرائيل عن شيء من سياساتها، ولم تتنازل أمريكا عن دعم إسرائيل وإسنادها كلما تطلّب الأمر.
وإذا كان هناك من درس وعبرة في هذه الحركة السياسية التنازلية في أوضاعنا السياسية، فهو أن لا نعتمد منذ اليوم على القرارات الرسمية التي تتمخض عنها اجتماعات ومؤتمرات القمة، ونفكر في بديل عن لقاءات القمة الرسمية وعن قراراتها بنوع آخر من اللقاءات والقرارات، وهي لقاءات الأمة وقراراتها، وهي قرارات صلبة، لا تنحدر باتجاه الأمر الواقع الذي تفرضه دول الاستكبار العالمي، ولا يمكن أن تتلاعب به الأنظمة، ولا يمكن اختراقه.
ومثل هذا القرار يحتاج إلى مقومات عديدة؛ منها الوعي السياسي للأمة، وليس وعي النخبة فقط، وإن كان وعي النخبة هو الأساس لوعي الأمة.
والخطاب الرسمي النابع من هذا الوعي يكون خطاباً على مستوى الأمة وحجمها، وليس خطاباً للدوائر المحدودة الضعيفة.
وهذا الخطاب بهذه الخصوصيات التي تحدثنا عنها من مكونات الرأي العام الإسلامي، والموقف والقرار الإسلاميان يتمخضان عن هذا الرأي العام.
إن توجيه الخطاب الإسلامي السياسي، عملية شاقة في الظروف الحاضرة المتجهة باتجاه التعدديات السياسية، ففي ظروف ينادي الجميع بـ (التعددية السياسية) في الخطاب والقرار… من الصعب جدا تحقيق توحيد الخطاب والقرار السياسيين للعالم الإسلامي.
ولكنه رغم كل الصعوبات، فهو مسؤولية كل العاملين الإسلاميين من مختلف المذاهب الإسلامية، الشاعرين بأهمية وحدة الخطاب السياسي للأمة الإسلامية.
فليس بوسعنا إطلاقاً أن نحوّل الخطاب الرسمي في العالم الإسلامي إلى خطاب إسلامي واحد بمستوى هذه الأمّة وبحجمها العظيم، وليس بوسعنا أن نُحوّل خطابنا الإسلامي إلى قوة سياسية إلاّ إذا جمعنا عزمنا على توحيد الخطاب السياسي عبر كل المشاكل والعقبات.
وأعظم هذه العقبات إزالة الحواجز المذهبية القائمة بين المسلمين والموروثة منذ قرون طويلة.
إنّ تجاوز هذا الحاجز العتيد أمر صعب، ولكنه واجب، وليست لنا خيارات كثيرة لنتردّد بينها…
فنحن نواجه اليوم دول الاستكبار العالمي، وفي مقدمتها أمريكا، ونواجه العدوان الإسرائيلي السافر على أراضينا وعلى المسجد الأقصى، ونواجه الاستبداد السياسي المرتبط بعجلة الدول الكبرى لأكثر الأنظمة التي تحكم بلاد المسلمين، ونواجه الاحتلال الأمريكي لأراضينا، والإرهاب اللا منطقي واللا معقول الذي يُقَدِّمُ صورة مشوهة عن الإسلام إلى الناس… في مثل هذه الظروف لا خيار لنا إلاّ أن نتجاوز سياج الطائفية السياسيّة، بالتفاهم والحوار المشترك للوصول إلى خطاب إسلامي واحد، يوحّد الموقف والقرار الإسلامي.
ولا يضيرنا أن يكون هذا الخطاب معزولاً عن القوة والإسناد والدعم الدولي، فإن وحدة الخطاب الإسلامي هو بنفسه قوة هائلة في موازنات القوى في العالم اليوم.
والعلاقة بين (لقاءات التفاهم) و(توحيد الخطاب الإسلامي) علاقة جدلية تبادلية، فإن (لقاءات التفاهم) والحوار الإسلامي تؤدي إلى (توحيد الخطاب) والموقف والقرار السياسي، و(توحيد الخطاب) والموقف والقرار يعمّق هذه (اللقاءات) ويكثّفها ويؤكدها.
والمواقف والقرارات السياسية النابعة من وحدة الخطاب الإسلامي هي بالضرورة مواقف وقرارات صعبة، لا تخترقها دول الاستكبار العالمي، ولا تُمَرِّنها الموازنات الدولية.
3. الحوار والتفاهم
لابد لنا من الحوار والتفاهم في الساحة الإسلامية الكبيرة، وإذا عجزنا عن تحقيق الحد الأدنى من الحوار والتفاهم، فإن مصيرنا إلى الوقوع في دائرة نفوذ دول الاستكبار العالمي، لا محالة، وليس أمامنا خيارات كثيرة… إن الحالة الإسلامية المتشتّتة اليوم لا تستطيع أن تنهض بوجه المشاريع الاستكبارية.
وليس لنا أمل معقول في الأنظمة العربية والإسلامية – في الغالب – أن تنهض بهذا الدور في جمع الشمل الإسلامي، وإتاحة فرصة الحوار والتفاهم للوصول إلى القدر الممكن المعقول من التفاهم والمواقف والقرارات المشتركة.
وإذاً؛ لا خيار لنا عن اللقاءات الإسلامية على مستوى الجمهور، وعلى مستوى النخبة من العلماء والمثقفين.
وقد جعل الله تعالى في هذه اللقاءات خيراً كثيراً لهذه الأمة؛ تذيب الجليد المتراكم على العلاقات، وتفتح القلوب، وتكون سبباً لتراشد العقول، واللقاء والقوة، ويد الله على الجماعة، وحيث تكون يد الله تكون البصيرة والقوة. ويد الله على الجماعة ومعها.
غير أن هذه الجماعة لا تتحقق في واقعنا الاجتماعي والسياسي، ولا تكتسب يدَ الله إلا إذا كانت جماعة موجّهة وراشدة.
أما اللقاءات غير الراشدة وغير الموجهة، والجماعات الغوغائية التي يجمعها الشعار، ويفرقها الشعار، من دون وعي ولا رشد، فليست هي الجماعات التي تكتسب معها وعليها يد الله تعالى.
إن علينا أن نعمل ما بوسعنا لتكثيف هذه العلاقات داخل الساحة الإسلامية بين المسلمين والمؤمنين من خلال اللقاءات المشتركة بين السنة والشيعة, واللقاءات الهادفة الراشدة داخل الساحة الشيعية، وفي الساحة السنية، على مستوى الجمهور، وعلى مستوى النخبة من العلماء والكتّاب والخطباء والمثقفين، والأحزاب والحركات والمنظّمات الإسلاميّة.
ولكل من هذين اللقاءين (لقاء الجمهور ولقاء النخبة) نكهته الخاصة به، وتأثيره الخاص في توعية الأمة وتثقيفها، ونحن نحتاج إلى كل منهما في ترشيد مواقفنا وقراراتنا السياسية وإسنادها.
4. المطاوعة
وحيث لا يمكن الوصول بالتفاهم إلى قناعة مشتركة وقرار مشترك، فلا بد من (المطاوعة)، فإن الساحة الإسلاميّة لا تحتمل الانشطارات والتحالفات، ولابد من توحيد الخطاب والموقف والقرار السياسي، بأي ثمن معقول… فإذا لم نتمكن في الساحة الإسلامية من الوصول إلى قناعة مشتركة، فلابد من المطاوعة لتحقيق هذه الغاية.
ولو كان المسلمون يتفقون على محور واحد في طاعة أولياء الأمور، كما يقرره الإسلام، أغنت (الطاعة) عن (المطاوعة)، وكانت الطاعة هي الأصل، ولكن إذا كان لا يمكن – لأي سبب كان – تحقيق هذه الطاعة في الساحة الإسلامية الكبرى، فالمطاوعة هي البديل عن (الطاعة) و(التفاهم) للوصول إلى القناعات المشتركة.
ولنا في أمير المؤمنين أبي الحسن (ع) أسوة وقدوة… عندما نُحيت الخلافة بعد رسول الله (ص) عنه، وهو يرى أنها من حقه، فرأى أنه إذا وقف موقف المعارض السياسي من النظام القائم، فسوف يؤدي ذلك إلى إضعاف الإسلام والمسلمين، فلم يتردد في أن يقف مع الخليفة، ويؤيده، وينصره، ويسنده… رغم رأيه الذي أعلنه في خطبته الشقشقية المعروفة في الخلاقة بعد رسول الله (ص)، فاستمع إليه يوضح موقفه من الخلافة والمعارضة بعد رسول الله (ص)، تشعر بعمق روح المسؤولية:
(فَلَمَّا مَضَى (ص) تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَلاَ يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (ص) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلاَ أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلاَنٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلاَمِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (ص)، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُم)[9].
ولكن لابد أن ننبّه في هذا العنوان إلى ثلاث نقاط:
1- إن المطاوعة تصحّ عند اختلاف الرأي والاجتهاد في المسائل السياسية، وليس في الدين وأصوله وفروعه.
2- لابد أن تتحول (المطاوعة) إلى مبدأ من مبادئ العمل الجمعي، يؤمن به الجميع، ويعملون به جميعاً، ولا تكون المطاوعة من طرف واحد دائماً… فإن المطاوعة من طرف واحد هي التبعية السياسية ذاتها. ونحن لا ندعو إلى التبعية، وإنما ندعو إلى المطاوعة، ولا نعتقد أن التبعية توحّد الخط السياسي الإسلامي والمواقف والقرارات الإسلامية.
3- ليست المطاوعة بديلاً اختيارياً عن (الطاعة) و(التفاهم)، ولا يركن إليها إلا عندما تتعذر وحدة الطاعة، والوصول إلى قناعات مشتركة بالتفاهم، فهي بديل اضطراري لها، وليست بديلاً اختيارياً.
5. الطاعة
يبقى الكثير من مشاريعنا السياسية، في الوحدة الإسلامية، ووحدة الموقف، والقرار السياسي، والقوة، والرأي العام الإسلامي، ووحدة الخطاب السياسي، وغيره… شعاراً وحبراً على ورق، وأمنيات حتى يتحقّق في حياة المسلمين أصل (الطاعة لأولي الأمر).
فإذا أخذ المسلمون بأصل (الطاعة)، تحوّلت هذه الشعارات والأمنيات إلى واقع على الأرض.
والذي صمّم خارطة الأمة الإسلامية الواحدة، القويّة، الشاهدة، المعتصمة بحبل الله، ذات الدور الوسط في حياة البشرية، والقيّمة على المجتمع الإنساني العام، المستعلية ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[10]… الذي صمّم هذه الأمة بهذه الأوصاف العظيمة، جعل الطاعة أصلاً وأساساً صلباً لها… يقول تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[11]… وهذه الطاعة لأولي الأمر هي ملاك هذه الخصال العظمى جميعاً، ومن دون الطاعة تبقى هذه المشاريع السياسية الكبرى في الإسلام شعاراً، لا تغني ولا تسمن من جوع.
إن الطاعة قوة، ورشد، وكرامة، وعزة، ونظام في حياة الأمة.
ويُجمع المسلمون – من كل المذاهب الفقهية – كما حققنا ذلك في كتاب (ولاية الأمر) على أن (الفقاهة)[12] هي شرط (الولاية) في الإسلام، والفقيه المتصدي الناهض بالأمر هو الذي يجب على المسلمين إشهار ولايته ومبايعته بالطاعة.
وأعزّ شيئين يسرقهما منّا أعداؤنا هما (الثقة) و(الطاعة)، والطاعة قائمة على الثقة، فإذا فُقدت الثقة، فقدت الطاعة بالضرورة.
وقد بذل أعداؤنا جهداً كبيراً لإضعاف هذه الثقة في نفوس الناس تجاه الفقهاء المتصدين والتشكيك فيهم، وتجاه الحوزات العلمية… ولو أردنا أن نحصي مشاهد ومظاهر من هذه التشكيكات لطال بنا الكلام.
وعلينا في مقابل هذا التشكيك الواسع أن نعمد إلى تعميق حالة (الثقة) و(الطاعة) في نفوس الناس تجاه المرجعية الدينية السياسية.
والطاعة في الإسلام طاعتان: طاعة لله تعالى في شؤون التشريع، وطاعة لرسول الله وخلفائه (أئمة المسلمين) (عليهم السلام) ومن ينوب عنهم في التصدي لشؤون المسلمين من الفقهاء. والطاعة الثانية غير الطاعة الأولى.
فإن الطاعة الأولى؛ في الثوابت التشريعية من الحلال والحرام. والطاعة الثانية؛ في المتغيرات السياسية التي يتصدّى لها الفقيه المتصدي في عصر الغيبة نيابة عن الإمام (عجل الله فرجه).
ولرسول الله (ص) طاعتان: طاعة فيما يُبلّغ عن الله من الشريعة والأصول والأخلاق مثل: الصلاة والصيام، وأحكام الأحوال الشخصية، وأحكام العقود، وما يشبه ذلك من ثوابت الإسلام في الأصول والفروع والأخلاق… وهي في الأصل طاعة لله تعالى حتى لو كان التبليغ بواسطة رسول الله (ص).
والطاعة الثانية لرسول الله (ص)؛ وهي الطاعة في المتغيرات من الشؤون السياسية والإدارية التي كان يمارسها رسول الله (ص) في حياته بالولاية على المسلمين.
وإلى هاتين الطاعتين تشير الآية الكريمة المتقدمة: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[13].
وتكرار الطاعة في الآية يشير إلى تعدد الطاعة: الطاعة الأولى لله في الثوابت الدينية، والطاعة الثانية لرسول الله (ص) وأئمة المسلمين (عليهم السلام) في المتغيرات السياسية والإدارية التي يتولاها أولياء أمور المسلمين ونوابهم في عصر الغيبة.
ومن يتأمل في النصوص الإسلامية يجد اهتماماً وتأكيداً كبيراً على الطاعة بقسميها… وهذا التأكيد والتأصيل لـ (الطاعة) في الإسلام بالتفصيل المتقدم هو من أبلغ الأدلة على وصل السياسية بالدين، وإبطال نظرية فصل الدين عن السياسة، فلا معنى للطاعة الثانية إذا قلنا بفصل الدين عن السياسة.
وقد ثبت بالضرورة أن رسول الله (ص) كان يمارس الولاية والزعامة السياسية على المسلمين، وكان يلزم الناس بطاعته؛ ليس فقط في الثوابت التشريعية من الحلال والحرام؛ بل في المتغيرات السياسية في الحرب والسلم والاقتصاد والإدارة والنصب والعزل.
وقد غُيِّبَ عن المسلمين أصل (الطاعة السياسية) في ظروف الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وتمّ تهميش (الطاعة) عن علم وعمد من حياة المسلمين.
واليوم؛ إذ يستعيد الإسلام دوره السياسي والقيادي البارز في العالم، لابد أن نعمل بجد في تأصيل (الطاعة)، وتعميق ثقافة الطاعة، ووعي الطاعة. وهذا العمل يتطلب جهداً ثقافياً واسعاً يقوم به العلماء والمفكرون والخطباء في أوساط المسلمين.
6. العقلانية والموضوعية في القرار
بين (القرار) و(الشعار) فرق، فما يطلب من القرار لا يطلب من الشعار، وما يطلب من الشعار لا يطلب من القرار.
الشعار يتضمن غالباً المبادئ، ويلحظ فيه عامل التحريك والتثوير والإعلام… ولابد منه في العمل السياسي، ولا غنى عنه.
ولكن لابد إلى جانب (الشعار) من (القرار).
وفي القرار لابد من ملاحظة الظروف الموضوعية التي تحيط بالقرار، والضواغط السياسية والاقتصادية الموجودة في الساحة، ولا يصح تجاوز هذه ولا تلك، ولا تجاوز الواقع السياسي القائم.
وليس معنى ذلك أننا في (القرار السياسي) و (الموقف السياسي) نتجاوز المبادئ السياسية التي تؤمن بها، فهذا أمر لا يجوز أن يحدث بحال من الأحوال.
ولكن الظروف الموضوعية والقاهرة التي نعيشها تتطلب منا المرونة في تنفيذ المبادئ في حدود قدرة الساحة والظرف السياسي على استيعاب المبادئ، وترحيل المبادئ في مواضع التطبيق والعمل ضمن منهج علمي موضوعي.
إنّ الساحة السياسية العالميّة والداخليّة ساحة معقدة، تدخل مجموعة من العوامل في تكوين هذه الساحة وفي العملية السياسية، لابد أن تؤخذ هذه العوامل القهرية والضاغطة بنظر الاعتبار.
وأعتقد أن هذه النقطة هي المفرق بيننا وبين بعض المجاميع الإسلاميّة التي كانت تُحرّم المشاركة في الحكم والانتخابات في ظروف وجود الاحتلال.
وفي رأينا إن هذا الرأي أشبه بالشعار منه إلى قرار وموقف سياسي ناصح ومسؤول.
فلا نختلف نحن في رفض الاحتلال ومعارضته، ووجوب مكافحته، ومكافحة حالة التطبيع السياسي لحضور الاحتلال.
ولكننا نعتقد أن حضور المخلصين الواعين الصالحين من أبناء الساحة، رغم وجود الاحتلال ونفوذه وسلطته في الساحة، أفضل من غيابهم، وأن غياب الصالحين من أبناء الساحة لا يزعج المحتل؛ بل يفسح له المجال لملء الساحة والمواقع بالعناصر الانتهازية التي تحسن المساومة والتعامل مع المحتل… بل نعتقد أن الحضور هو المتعيّن في ظروف وجود الاحتلال، بقدر الإمكان، والغياب عن مواقع الحكم والقرار والإرادة خطأ تاريخي، لا ندفع نحن ضريبته فحسب بل يدفع أبناؤنا أيضاً ضريبة هذا الغياب اللا مسؤول، الذي تطغى عليه حالة المزاجية والانفعال.
وليس معنى المشاركة في مواقع الحكم والقرار قبول الاحتلال، والتعامل معه من منطلق التطبيع؛ بل يبقى الأصل السياسي الإسلامي الذي لا يتغير في التعامل مع الاحتلال هو الرفض، والحظر، والكفاح، ضمن منهج مرحلي موضوعي، يأخذ بنظر الاعتبار إمكانات الساحة، وقدراتها، وضرورة إعداد الساحة والرأي العام الداخلي والإسلامي والعالمي لهذه المواجهة التي لابد منها مع الاحتلال، كما سبق أن أشرت إلى ذلك في هذا المقال[14].
- [1] الأنبياء: 92.
- [2] المنافقون: 8.
- [3] آل عمران: 139.
- [4] النساء: 141.
- [5] هود: 113.
- [6] النحل: 125.
- [7] الأنفال: 60.
- [8] آل عمران: 64.
- [9] نهج البلاغة، من كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر رحمه الله، ص389.
- [10] آل عمران: 139.
- [11] النساء: 59.
- [12] المقصود بـ (الفقاهة) هنا هو (الاجتهاد) أي أنه يشترط في الولي الحاكم أن تتوفر لديه ملكة استنباط الأحكام الشرعية من أصولها. طبعا بالإضافة إلى الشروط الأخرى التي يجب أن تتوفر في المجتهد مثل العدالة وطهارة المولد و…، لكن في الحاكم المتصدي للحكم وولاية الأمة لابد من شروط إضافية على الفقيه المجتهد؛ مثل الأعلمية والتقوى والقدرة على القيادة بمعنى أن يكون ملمّا وعارفا بزمانه والظروف السياسية المحيطة بالأمة الإسلامية، ومطلعا على السياسات الخارجية، ويُطلق عليه في الفقه: (الفقيه الجامع للشرائط). (من المحقق)
- [13] النساء: 59.
- [14] قد يقال بأن هذه السياسة لا تجدي نفعا مع الاحتلال، ولابد من المقاومة المسلحة أمثال تلك التي أخرجت الاحتلال الأمريكي من العراق في عام 2011، والذي عاد إليها من جديد من بوابات أخرى سياسية ودبلوماسية وعن طريق نفس الدولة والحكومات المتعاقبة على الحكم في العراق إلى الآن وبشكل شرعي ومقنن؛ بل أخذ الاحتلال الأمريكي بالتمدد أكثر فأكثر ويوما بعد يوم، وبسبب هذا الوجود وهذا التمدد، أصبح العراق محتلا بطريق غير مباشر ومنطلقا لكثير من الاعتداءات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية على دول الجوار؛ مثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية العربية السورية؛ وأصبحت القوات الأمريكية موجودة في خاصرة محور المقاومة، وأصبحت تعربد وتعتدي، وتفتح المعابر غير الشرعية كما يحلو لها، وتغلق المعابر الشرعية كما يحلو لها إذا كانت تضر بمصالحها ومصالح إسرائيل، كما أن إسرائيل والمجموعات الإرهابية والمسلحة أصبحت أكثر قوة ودعما واعتداء وعربدة. إذًا؛ صحيح أن الصالحين يشاركون في العملية السياسية وهم موجودون بالفعل، لكن هل يمكن لأمريكا أن تسمح لهم بالتصرف بكامل حريتهم؟ بالتأكيد لن تسمح لهم وسوف يكون القرار السياسي مخترقا، وإن لم تستطع أمريكا اختراقه فإنها تعمل على إسقاطه عن طريق تحريض الشارع كما حصل مع حكومة عادل عبد المهدي، أضف إلى ذلك أن الأوضاع الداخلية في العراق على مختلف الأصعدة سواء السياسية والاقتصادية والخدمية والأمنية و… لم تستقر إلى الآن. والكلام يطول وللحديث شجون… (من المحقق)