مواضيع

آية نفي الإكراه في الدين

أنا أفهم الآية الكريمة من سورة البقرة <لاٰ إِكْرٰاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ>[1] على غير ما يفهمه بعض المفسرين.

إن هذه الآية ليست بصدد بيان حكم تشريعي، وإنما هي بصدد بيان قضية واقعية، لا علاقة لها بالتشريع، وهي أنَّ أمر الدين من الوضوح بحيث لا يحتاج الإنسان إلى الإكراه في قبول الدين، كما نقول إن الأمر في أهميّة المراجعة الطبيّة للمريض من الوضوح بحيث لا يحتاج المريض الرّاشد إلى الإكراه في الرجوع إلى الطبيب لدى الحاجة، بخلاف الطفل المريض غير الرّاشد فإنّه يُكره على مراجعة الطبيب عند الحاجة. وهذه قضية واقعية، وليست بصدد بيان حكم تشريعي في نفي الإكراه عن الإنسان لقبول الدين، والقرينة الواضحة على ما أقول هي تعقيب هذه القضية بقوله تعالى: <قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ>، فإن دلالة هذه الكلمة واضحة فيما قلناه. ومعنى هذه الكلمة: أن لا حاجة، إذن، إلى الإكراه، لوضوح الفارق بين الرُّشد والغيّ ولوضوح الاختلاف بين الرّشد والغيّ.

وهذا التعقيب يناسب أن تكون هذه الفقرة من آية سورة البقرة تقريراً لقضيةٍ واقعيّة، لا لحكم شرعي، فإنَّ وضوح التميّيز بين الرّشد والغيّ أدعى إلى الإكراه والإلزام الشرعي من حالة عدم الوضوح.

فإنَّ حالات الوضوح تخضع للإلزام القانوني أكثر من حالة عدم الوضوح، فإنَّ للإنسان عُذراً في حالة اللبس وعدم الوضوح، ولا يلزم القانون الإنسان المعذور بالإلزامات المشدّدة، بعكس الإنسان الذي لا يُعذر بجهل أو لبس، فإن القانون يلزمه ويشدّد في إلزامه.

رأي العلاّمة الطباطبائي في الميزان

ويذهب العلاّمة الطباطبائي (رحمه الله) في تفسيره القيّم (الميزان) إلى أنَّ هذه الآية الكريمة بصدد تقرير حكم شرعي؛ سواءً قلنا بأن القضية إخبارية حاكية عن حالة تكوينيّة أو حكماً إنشائياً تشريعيّاً، ويفصّل (رحمه الله) الكلام في ذلك، بما لا مجال لنقله بتفصيله، ويرى أن الأمور الاعتقادية لا يمكن فيها الإكراه، وإنما الإكراه يختص بالأفعال والحركات الماديّة فقط، وإذا كان الدين ممّا لا يمكن الإكراه فيه فكيف يمكن الإلزام بالدين؟ ويبسط (رحمه الله) الكلام في ذلك[2].

المناقشة

هذا الكلام لا يخلو من مناقشة: فإنَّ الإلزام بالشهادتَيْن، والدخول فيما يدخل فيه المسلمون أمر ممكن بلا إشكال، وهو ما يطلق عليه الفقهاء كلمة (الإسلام) مقابل (الإيمان) الذي يأتي بمعنى الاعتقاد، وهو يؤدي لا محالة إلى الإيمان والعقيدة الراسخة، كما حصل ذلك في الفتوحات الإسلامية. فإن الناس لم يدخلوا الإسلام ابتداءً عن طواعية، ولكنهم أقرّوا بالإسلام. وهذا هو الحدّ الذي يقتصر عليه الحكم الشرعي بالإلزام بالإسلام، إلاّ أنّهم عندما يتذوقون طعم التوحيد، يُقبِلون على الإيمان، ويَحسن إسلامهم، ويكون منهم الصالحون والأبرار والعلماء، كما حصل ذلك فعلاً في التاريخ الإسلامي، وبشكل واسع جدّاً.

إذًا؛ الآية الكريمة ليست بصدد بيان حكم شرعي في هذا الأمر، وليست بصدد تقرير أنَّ الإكراه في الدين غير ممكن، كما يقول العلاّمة الطباطبائي (رحمه الله)، وإنّما الآية الكريمة بصدد تقرير حقيقة واقعيّة لا علاقة لها بالحكم الشرعي، وهي أن أمر الدين من الوضوح بحيث لا يحتاج الإنسان فيه إلى الإكراه، ولو أرسل فطرته وعقله إرسالاً لقَبِل الدين من غير إكراه.


  • [1] البقرة: 256.
  • [2] للطلاع على تفسير العلامة الطباطبائي للآية راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص342 فما بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى