الواقعيّة والتدرّج في حكم القتال

ولكن يجب أن نضيف إلى هذه الحقيقة، حقيقة أخرى، وهي قوله تعالى: <لاٰ يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ>[1]. فإن الله تعالى لا ينهانا في آية (الممتحنّة) عن البرّ والقسط للكفّار الذين لا يقاتلوننا، ولم يخرجونا من ديارنا.
وليس هذا الحكم إعراضاً عن الحكم الوارد في آية السيف، في (براءة)، وإنما معنى ذلك أن الإسلام منهج واقعي في التعامل مع العالم لا يعلن الحرب على العالم، وإنما يتدرّج في مواجهة الواقع ويقدّم الأكثر عدواناً منهم على غيرهم. يقول تعالى: <قٰاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّٰارِ>[2]، وليس معنى: <الَّذِينَ يَلُونَكُمْ>: أي يجاورونكم ويقربون إليكم؛ بل معنى ذلك (والله أعلم بما يقول): الأقرب في استحقاق الصدّ والقتال والمواجهة؛ أي الأكثر عدواناً على المسلمين.
وإذا أردنا أن نجد لهذه الآية مصداقاً في حياتنا السياسية اليوم، نجد أن (إسرائيل) هي الأكثر عدواناً على المسلمين وهي التي تلينا من الكفّار.
إذًا؛ منهج القتال والجهاد في الإسلام منهج واقعي يتعامل من خلال معيارَيْن: الأول منهما القدرة العسكرية والاقتصادية والسياسية، والثاني منهما التدرّج.
وعلى أساس هذين المعيارين، فإن الله تعالى لا ينهانا عن البرّ والقسط إلى الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا، وتكون هذه الآية من سورة (الممتحنّة) بناء على ذلك أساساً في العلاقات الخارجية بين المسلمين وغيرهم من الأمم غير المسلمين.
مطالعة دقيقة وفاحصة لحاضر العلاقات الإسلامية ـ غير الإسلامية الراهنة لجهة عقد اتفاقيات الصلح والسلام مع الجهات الكافرة، قد توحي بالالتباس وعدم الوضوح وغياب القواعد الفقهية المنظّمة أو عدم توافرها بالنحو الكافي في الأوساط الإسلامية، هل الدرس الفقهي العالي اليوم يعالج إشكاليات الثابت والمتغيّر في رسم العلاقات الإسلامية ـ غير الإسلامية، ويدعو إلى إعادة النظر أو إعادة فهم النصوص المتحدّثة عن طبيعة علاقة الحكم الإسلامي مع غيره أم لا؟ حبّذا لو تدعموننا في وضع نقاط أساسية من شأنها فتح هذه القضايا وإثارة الاهتمام بفصل الضوابط أو المقاصد الأساسية للدين، من مصاديق وتطبيقات لها في العصور الأولى، وتبعاً لها في باقي العصور والعهود التي مرّت بها الحركة الإسلامية؟