الأمر بالوفاء بالعهد وحرمة الغدر في الشريعة

أمّا القسم الثالث الذين عاهدوا واستقاموا على العهد، فالإسلام يحترم عهدهم؛ لقوله تعالى: <إ إِلاَّ الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظٰاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ>[1].
وفي نهج البلاغة: (وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا، فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَأَمْناً لِبِلاَدِكَ، وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّن)[2].
وقد تضافرت النصوص الإسلامية على وجوب احترام العهد وحرمة نقض العهد، واعتبار ذلك من الغدر. قال الله تعالى: <إ إِلاَّ الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظٰاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ>[3]، وقال: <إِلاَّ الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ فَمَا اسْتَقٰامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ>[4].
وللمعاهد حرمة لدمه وماله. روى محمد بن يعقوب: عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: (سَأَلْتُهُ عَنْ قَرْيَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَلِكٌ عَلَى حِدَةٍ، اقْتَتَلُوا، ثُمَّ اصْطَلَحُوا، ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ الْمَلِكَيْنِ غَدَرَ بِصَاحِبِهِ، فَجَاءَ إِلَى اَلْمُسْلِمِينَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَغْزُوَ مَعَهُمْ تِلْكَ الْمَدِينَةَ. فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: لاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْدِرُوا وَلاَ يَأْمُرُوا بِالْغَدْرِ وَلاَ يُقَاتِلُوا مَعَ الَّذِينَ غَدَرُوا، وَلَكِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ)[5].
وروى محمّد بن يعقوب: عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَمُّونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَشْعَثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمَّادٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: (يَجِيءُ كُلُّ غَادِرٍ بِإِمَامٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَائِلاً شِدْقُهُ حَتَّى يَدْخُلَ النَّارَ)[6].
وروى عبد الله بن مسلم القضبي، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أنَّ رسول الله (ص) قال: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكلّ غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان)[7].
وهناك باب في كتاب الجهاد من (سنن أبي داود) في الإمام يُستجنّ به في اليهود، جاء فيه: (عن الحسن بن علي بن أبي رافع: أنَّ أبا رافع أخبره، قال: بعثتني قريش إلى رسول الله (ص)، فلمّا رأيت رسول الله (ص)، أُلقي في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله؛ إنّي والله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله: إنّي لا أخيس بالعهد ولا أحبس البُرد، ولكن ارجع، فإن كان الذي في نفسك الآن فارجع، قال: فذهبت ثمَّ أتيت النّبي (ص) فأسلمت. قال بكير: وأخبرَني أنَّ أبا رافع كان قبطيّاً)[8].
وجاء في حرمته عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ، قَالَ: نَزَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَمَعَهُ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ صَاحِبُ خَيْبَرَ رَجُلًا مَارِدًا مُنْكَرًا، فَأَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَلَكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا حُمُرَنَا، وَتَأْكُلُوا ثَمَرَنَا، وَتَضْرِبُوا نِسَاءَنَا؟ فَغَضِبَ – يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَقَالَ: “يَا ابْنَ عَوْفٍ ارْكَبْ فَرَسَكَ ثُمَّ نَادِ: أَلَا إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِمُؤْمِنٍ، وَأَنِ اجْتَمِعُوا لِلصَّلَاةِ “، قَالَ: فَاجْتَمَعُوا، ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ: «أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، قَدْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ، أَلَا وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ وَعَظْتُ، وَأَمَرْتُ، وَنَهَيْتُ، عَنْ أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ، أَوْ أَكْثَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَلَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ، وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ، إِذَا أَعْطَوْكُمُ الَّذِي عَلَيْهِمْ»[9].
ثمَّ قال[10]: عَنْ رَجُلٍ، مِنْ جُهَيْنَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّكُمْ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا، فَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، فَيَتَّقُونَكُمْ بِأَمْوَالِهِمْ دُونَ أَنْفُسِهِمْ، وَأَبْنَائِهِمْ»، قَالَ سَعِيدٌ فِي حَدِيثِهِ: «فَيُصَالِحُونَكُمْ عَلَى صُلْحٍ، ثُمَّ اتَّفَقَا، فَلَا تُصِيبُوا مِنْهُمْ شَيْئًا فَوْقَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكُمْ»[11].
عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ آبَائِهِمْ دِنْيَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[12].
- [1] التوبة: 4.
- [2] نهج البلاغة، من كتاب له (ع) إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة، الكتاب: 52، ص380.
- [3] التوبة: 4.
- [4] التوبة: 7.
- [5] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، باب المكر والغدر والخديعة من كتاب الإيمان والكفر، ج2، ص337، ح4.
- [6] المصدر نفسه، ح5.
- [7] المتقي الهندي، كنز العمال، الفصل الأول من كتاب الأخلاق، حرف الغين، ج2، ص517، ح7682.
- [8] سنن أبي دود، بَابٌ فِي الْإِمَامِ يُسْتَجَنُّ بِهِ فِي الْعُهُودِ من كتاب الجهاد، ج3، ص82، ح2758. مع اختلاف يسير في اللفظ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ أَبَا رَافِعٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، وَلَكِنِ ارْجِعْ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ». قَالَ: فَذَهَبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ. قَالَ: بُكَيْرٌ وَأَخْبَرَنِي: «أَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ قِبْطِيًّا». (من المحقق)
- [9] المصدر نفسه، بَابٌ فِي تَعْشِيرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا اخْتَلَفُوا بِالتِّجَارَاتِ من كتاب الجهاد، ج3، ص170، ح3050.
- [10] أي أبو داود في سننه. (من المحقق)
- [11] المصدر نفسه، ح3051.
- [12] المصدر نفسه، ح3052.