مواضيع

أحكام دار الإسلام ودار الكفر

وليس هذا التعريف ـ كما قلنا ـ تعريفاً نظرياً في الفقه، فقد ذكر الفقهاء آثاراً فقهية كثيرة لهذه الدور. والاختلاف في تفسير (الدور) يؤدّي إلى اختلافٍ في هذه الأحكام أيضاً، ونذكر نماذج من هذه الأحكام.

1ـ أحكام اللحُوم والجُلود؛ فإنَّ اللحوم والجلود الموجودة في أسواق دار الإسلام، يصحّ أكلها واستعمالها، كما في رواية إسحاق بن عمّار المعروفة.

2ـ أحكام الالتقاط؛ إذا التقط أحد من بلاد المسلمين طفلاً، يُحكَم عليه بالإسلام من حيث أحكام الإسلام، وليس كذلك لو التقط طفلاً من بلاد الكفر.

3ـ أحكام الهجرة؛ يذهب الفقهاء إلى القول بوجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام لو تعذّرت عليه إقامة الشعائر الإسلامية في بلاد الكفر[1].

4ـ الدفاع؛ يجب الدفاع عن دار الإسلام إذا تعرض لهجوم من قبل الكفّار[2].

الرأي المختار

الذي أختاره من رأيٍ في هذه المسألة، هو اتخاذ الأساس الثاني (أي أساس الدعوة) أساساً في رسم الخريطة السياسيّة للعالم، بالنظر إلى الأحكام المتقدّمة وغيرها. فليس من الصحيح أن نجعل (العامل السياسي) أساساً لتصنيف العالم بالنظر إلى الأحكام المتقدّمة، ففي مسألة اللحوم والجلود، لا إشكال أن لها علاقة بوجود كثرة كميّة مسلمة في البلد، وليس لها علاقة بمسألة السيادة السياسية على البلد.

وكذلك الأمر في مسألة (الالتقاط)، فإنّها ذات علاقة بوجود كثرة كميّة مسلمة في البلد، ولا علاقة لها بالمسألة السياسية، وكذلك الأمر في مسألة الهجرة. وقد أرجع صاحب الجواهر (رحمه الله) ملاك وجوب الهجرة إلى دار الإسلام، إلى غلبة الكفر على هذه البلاد لا إلى السيادة السياسية للكافر ولا علاقة لها بذلك[3]، فإذا عثرنا مثلاً على طفل صغير في القدس العربيّة لا نحكم بكفره، رغم أنَّ القدس العربيّة خاضعة لنفوذ إسرائيل العدواني.

وكذلك مسألة الدفاع، فإنَّ الدفاع واجب عن دار الإسلام، وقد ورد في النصوص الإسلامية بعنوان الدفاع عن بيضة الإسلام، ولا علاقة لهذه المسألة أيضاً بالمسألة السياسية، فلو تعرّضت الجزائر أو المغرب أو تونس لغزو دولة كافرة يجب على المسلمين الدفاع عنها بلا كلام؛ رغم أنَّ هذه البلاد وأمثالها من بلاد المسلمين لا تخضع للنفوذ السياسي الإسلامي، بالمعنى الدقيق الشرعي لهذه الكلمة.

الأحكام المتعلّقة بالأساس الأول

ورغم أننا اخترنا الأساس الثاني (أي: الدعوة) لتصنيف الخريطة السياسية في العالم، دون الأساس الأول (أي: الأساس السياسي)، وذكرنا أنَّ لهذا الاختيار مبرّرات وأسباباً فقهية لا يمكن تجاوزها، رغم ذلك نجد في الشريعة أحكاماً تخصّ التقسيم الثلاثي للعالم على الأساس الأول (أي العامل السياسي).

وأذكر منها حكمَيْن:

1ـ المرابطة؛ وهي الإرصاد لحفظ ثغور الإسلام من ناحية الأعداء. و(المرابطة) غير (القتال)، ومهمة المرابط غير مهمة المقاتل. والمرابطة من أحكام النفوذ السياسي للإسلام. يقول صاحب الجواهر (رحمه الله) في تعريف (الثغْر): (هو الحد المشترك بين دار الشرك ودار الإسلام كما في التنقيح، أو كل موضع يخاف منه كما في جامع المقاصد، أو هما معا كما في المسالك، قال: الثغر هنا الموضع الذي يكون بأطراف بلاد الإسلام بحيث يخاف هجوم المشركين منه على بلاد الإسلام، وكل موضع يخاف منه يقال له ثغر لغة)[4].

ولا إشكال أنَّ هذا التعريف لـ (الثغر) يناسب دار الإسلام على التعريف الأول، أو بناءً على الأساس السياسي.

2ـ الاستئمان؛ ونقصد به طلب الأمان والجوار من المسلم لدخول دار الإسلام، ويجوز لإمام المسلمين أن يعطي أماناً للكافر على نفسه وماله وأهله لدخول البلاد؛ سواء كان بلد الكافر في حالة حرب المسلمين أو لا، فيدخل الكافر دار الإسلام في ذمّة المسلمين.

والأساس في ذلك قوله تعالى: <وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجٰارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّٰى يَسْمَعَ كَلاٰمَ اللّٰهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ>[5].

ولا شكّ أنَّ الاستئمان من أحكام دار الإسلام بناءً على التقسيم الأول (السياسي لا الدَّعَوي).

وعليه؛ فإنّنا نذهب إلى أنَّ الأساس لرسم الخريطة الجغرافية السياسية للعالم في الفقه أساسان وليس أساساً واحداً.

الأساس الأوّل؛ هو الأساس السياسي بمعنى النفوذ السياسي للإسلام أو الكفر، وهو أساس لأحكام مثل المرابطة والاستئمان.

والأساس الثاني؛ هو الأساس الدَّعَوي، وهو الأكثر والأوسع استخداماً في الفقه الإسلامي.


  • [1] المقصود من الشعائر الإسلامية: الأمور الدينية والعبادية الأساسية؛ مثل الأذان والصلاة والصوم وغيرها، وليس المقصود الأمور اللاحقة للدين مثل إقامة المراسم في الولادات والشهادات وإحياء ذكر أهل البيت (ع). يقول صاحب الجواهر في سبب تسمية الأمور العبادية الأساسية بالشعائر: سمي ذلك شعارا لأنه علامة عليه، أو من الشعار الذي هو الثوب الملاصق للبدن، فاستعير للأحكام اللاحقة للدين، بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له. (محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج21، ص34). (من المحقق)
  • [2] ولكي يتضح الفرق أكثر نذكر لذلك مثالا تطبيقيا: فلو أخذنا (تركيا) على سبيل المثال، فهي دار للكفر بناء على الأساس الأول، وعليه: لا تحل اللحوم والجلود الموجودة في أسواقها إلا أن يتيقن المكلف من تذكيتها، ويلحق الطفل اللقيط فيها بالكفر، وتجب الهجرة منها إلى دار الإسلام، ولا يجب الدفاع عنها في حال تعرضت لاعتداء.
  • أما بناء على الأساس الثاني، فهي دار إسلام، وعليه: تحل اللحوم والجلود الموجودة في أسواقها، ويلحق الطفل اللقيط فيها بالإسلام، ولا تجب الهجرة منها إلى دار الإسلام، ويجب الدفاع عنها في حال تعرضت لاعتداء. (من المحقق)
  • [3] محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج21، ص34.
  • [4] المصدر نفسه، ص38.
  • [5] التوبة: 6.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى